القاهرة 20 سبتمبر 2022 الساعة 10:27 ص
بقلم: أمير شفيق حسانين
وصَفَه محبوه بصاحب الصوت الملائكي، ولقَبه عاشقوه بـ" قيثارة السماء"، إنه القارئ المصري الراحل الشيخ محمد رفعت، الذي لا يزال صوته أحد المعالم المُميزة لشعائر شهر رمضان، فلقد تعودنا أن نستمع إلى قرآن المغرب في معظم أيام الشهر الفضيل مستمتعين بالصوت الشجي لفارس التلاوة الشيخ محمد رفعت.
وُلِدَ الشيخ محمد رفعت بحي المغربلين بالقاهرة في التاسع من مايو عام 1882م، واسمه الثلاثي مُركَب، فهو محمد رفعت ابن محمود رفعت ابن محمد رفعت.. وكان والده مأمورا بقسم شرطة الجمالية بالقاهرة.
فَقَدَ الطفل محمد رفعت بصره، وهو في سن الثانية من عُمْره، حيث يُروى أنه تعرَض لنظرة حسد من قِبلْ إحدى النساء حين رأته وقالت لوالدته "إنه يملك عين الملوك" نظرًا لجمال عينيه، وفى صبيحة اليوم التالي استيقظ الطفل صارخا بسبب ألم أصاب عينيه، ليكُف بصره.
حرص الأب على تنشئة طفله الكفيف دينيا، فعندما وصل محمد رفعت سن الخامسة ألحقه بكُتَاب بشتاك التابع لمسجد فاضل باشا بحي السيدة زينب بالقاهرة، فحفظ القرآن الكريم ومجموعة من الأحاديث النبوية على يد الشيخ محمد حميدة، ثم درس علم القراءات والتجويد لمدة عامين علي يد الشيخ عبدالفتاح هنيدي، والذي منحه سند الإجازة عن جدارة.
وبعد رحيل والد الطفل "محمد رفعت"، أصبح هو العائل الوحيد لأسرته، مما اضطره إلى العزوف عن الالتحاق بالأزهر الشريف، وقرر أن يتجه لإحياء بعض الليالي بالقاهرة والأقاليم، بتلاوة القرآن الكريم وهو في سن الرابعة عشرة.
وفي عام 1918م، عُيِنَ الشيخ رفعت مقرئا بمسجد فاضل باشا، وكان في سن الخامسة عشرة، وبفضل موهبته في التلاوة حرص الملك فاروق والنحاس باشا على الذهاب لمسجد فاضل باشا للاستماع إليه، وظل الشيخ رفعت يقرأ القرآن بهذا المسجد حتي اعتزاله، عرفانا بفضل المكان الذي شهد مشوار تلاوته منذ بُكورته.
تزوج الشيخ رفعت من سيدة فاضلة تُدعى "زينب"، من قرية الفرعونية بالمنوفية، وأنجب منها أربعة أبناء هم "محمد، أحمد، بهيَة، حسين"، وكان"حسين" الابن الأصغر يتولى مهمة قراءة الكُتب لوالده الكفيف.
وفي 31 مايو عام 1934 م، رشح البرنس "محمد علي توفيق"، ولي عهد الديار المصرية، الشيخ رفعت لافتتاح الإذاعة المصرية، فتردد الشيخ خشية ألا يجد إنصاتا واستماعا جيدا للقرآن من جانب الناس، ولكن -وقتها- أفتى له شيخ الأزهر محمد الأحمدي الظواهري، بجواز إذاعة القرآن الكريم.. وفي يوم الافتتاح، قرأ الشيخ رفعت "إنَا فتحنا لك فتحا مبينا"، فكان هو أول قارئ للقرآن الكريم في الإذاعة المصرية.
تنافست بعض الجهات الأجنبية على أن يُسجل لها الشيخ رفعت لتجذب المستمعين خلال افتتاحية برامجها باللغة العربية، فرفض الشيخ خوفًا من أن يستمع الناس إلى القرآن الكريم في الملاهي والحانات، إلا أن الإمام المراغي أفتى له بعدم وجود حُرمانية في تسجيل القرآن لتلك الجهات لأجل الاتعاظ، فسجل الشيخ سورة مريم لهيئة الإذاعة البريطانية بي بي سي العربية.
عاصر الشيخ رفعت كبار القراء أمثال الشيخ درويش الحريري، والشيخ على محمود، والشيخ البربري، أما الشيخ أبوالعينين شعيشع فهو صاحب الصوت الأكثر شبها لصوت الشيخ رفعت، لدرجة أن الإذاعة المصرية استعانت به لتعويض الانقطاعات أوالأجزاء المفقودة في تسجيلات الشيخ رفعت.
ومن المتأثرين بصوت الشيخ رفعت، الشيخ محمد رشاد الشريف، مُقرئ المسجد الأقصى، حتى أن الشيخ رفعت استمع إلى تلاوة الشيخ الشريف عام 1943م، فقال الشيخ رفعت :" إنني أستمع إلى محمد رفعت من فلسطين!!، وفي العام التالي ورد رسالة للشيخ الشريف معتبرا إياه بمثابة "محمد رفعت الثاني".
كان الشيخ رفعت زاهدا صوفي النزعة، نقشبندي الطريقة، تشعر وأنت تسمعه كأنه يتلو ويفسِر في آن واحدة.. ولكم اجتهد معظم المقرئين عبر العصور لمحاولة تقليد صوته.. وقد امتدح كثيرون صوت الشيخ رفعت.. منهم الداعية المصري محمد متولي الشعراوي، الذي قال: "إن أردنا أحكام التلاوة فلنستمع للشيخ الحصريّ، وإن أردنا حلاوة الصوت فعلينا بالاستماع للشيخ عبد الباسط عبد الصمد، وإن أردنا النفَس الطويل مع العذوبة فحينها نستمع للشيخ مصطفى إسماعيل، وإن أردنا هؤلاء جميعًا فلنستمع للشيخ محمد رفعت".
أما الكاتب أنيس منصور فقال: "لا يزال الشيخ رفعت أجمل الأصوات، فهو قادر على أن يرفعك إلى مستوى الآيات ومعانيها"، كما وصف موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب صوت صديقه الشيخ رفعت قائلاً: "صوت ملائكي يأتي من السماء لأول مرة".
وحتى رحيل الشيخ رفعت لم تكن الإذاعة المصرية لديها سوى شريطين فقط من تسجيلاته، أحدهما لجزء من سورة مريم، والثاني لجزء من سورة الكهف، وللعِلم بأن الشيخ رفعت قد سجَل للإذاعة المصرية نحو 15 ساعة بلا مقابل.
أما صاحب الفضل الأكبر في حفظ معظم تسجيلات الشيخ رفعت، فهو السيد زكريا مهران، أحد أعيان أسيوط وعضو مجلس الشيوخ المصري، والذي كان مُحبَا للشيخ رفعت دون أن يلتقيه، وقد حرص زكريا باشا على شراء اثنين من أجهزة الجرامافون من ألمانيا، لأجل تسجيل حفلات الشيخ رفعت.
وبعد رحيل زكريا باشا، أهدت زوجته السيدة زينب هانم مبارك، أسطوانات القرآن المُسجَلة بصوت الشيخ رفعت لورثة الشيخ نفسه، إلا أن تلك التسجيلات التي مُدتِها حوالي 15 ساعة لم تُبث للمستمعين حتى يومنا هذا، لأنها تحتاج لمعالجة صوتية دقيقة لتحسين جودتها.
وفي عام 1943م، أصابت الزُغطَة حنجرة الشيخ رفعت، وبعدها أُصِيب بـ" سرطان الحنجرة"، فكان يتوقف مرات عديدة أثناء التلاوة، مما أجبره على اعتزال قراءة القرآن سبع سنوات.
أراد الملك فاروق المُساهمة في علاج الشيخ، كما دعا الأستاذ أحمد الصاوي رئيس تحرير الأهرام إلى اكتتاب شعبي لعلاج الشيخ رفعت، فبلغت حصيلة التبرعات خمسين ألف جنيه، إلا أن الشيخ المُتعفِف اعتذر عن قبول المبلغ، وكان جوابه :" أنا مستور الحال والحمد لله"، وكان دائماً يقول: "قارئ القرآن لا يُهان".
رحل فارس التلاوة الشيخ محمد رفعت عن دنيانا في التاسع من مايو عام 1950م، ودُفِنَ بجوار مسجد السيدة نفيسة بالقاهرة تحقيقا لرغبته، وفي يوم رحيله أصدرت الإذاعة المصرية نعيا جاء فيه: "أيها المسلمون، فقدنا اليوم عَلَمًا من أعلام الإسلام"، أما الإذاعة السورية فأذاعت نعيا جاء على لسان مفتي سوريا، وقتها والذي قال: "لقد مات المقرئ الذي وهب صوته للإسلام".
|