القاهرة 20 سبتمبر 2022 الساعة 10:21 ص
بقلم: د. حسين عبد البصير
تتنوع مصادر معلوماتنا عن التربية والتعليم في مصر القديمة، فمنها ما ورد إلينا من تراث الكتاب الكلاسيكيين الأقدمين من الإغريق والرومان، أمثال أبي التاريخ هيرودوت (في الجزء الثاني من كتبه التسعة للتاريخ والذي أفرده عن مصر) بعد زيارته لها في القرن الخامس قبل الميلاد حوالي سنة 440 قبل الميلاد خلال حكم الفرس لها 525-405 قبل الميلاد بعد حكم الملك دارا الأول 521-486 قبل الميلاد، وأفلاطون (حوالي 428-347 قبل الميلاد)، وديودور الصقلي (عند زيارته لمصر في منتصف القرن الأول قبل الميلاد حوالي 59-57 قبل الميلاد) في كتابه الأول عن مصر من مؤلفه خزانة التاريخ، والجغرافي الإغريقي استرابون البونتي (حوالي 58 قبل الميلاد – 21/25 ميلادية) بالجزء الأول من كتابه السابع عشر من مؤلفه الجغرافيا، والمؤرخ الإغريقي المولد – الروماني الجنسية بلوتارخ الخايروني (50-125 ميلادية) في كتابه "إيزيس وأوزيريس"، وغيرهم.
ومنها ما خلّفته الآثار المصرية ذاتها، وعرفنا عن التربية والتعليم من خلال المصادر الرئيسة التالية:
• أولا - نصائح الشيوخ والحكماء وتعاليمهم:
ومنها في الدولة القديمة على سبيل المثال تعاليم ونصائح بتاح حتب وكاجمني. وفي الدولة الوسطى تعاليم خيتي لابنه بيبي والتي بين فيها الرجل لابنه قيمة العلم وضرورة طلبه أثناء ركوبهما النهر معًا متجهين إلى العاصمة (أغلب الظن أنها كانت إهناسيا) ليُدخله المدرسة، وما تركه الملك خيتي لابنه وخليفته مري كا رع (الأسرة العاشرة)، ووصية الملك أمنمحات (مؤسس الأسرة الثانية عشرة) لابنه الملك سنوسرت الأول.
• ثانيًا - السير الذاتية للأفراد:
وبخاصة ما يُصور ما حدث بأيام الصبا من حياة أصحابها، والاستدلال منها على معلومات قيمة تتصل بالنظام المدرسي ومراحل الدراسة وحياة التلاميذ فيما تُصوره من تلك المراحل. ومن بينها ما خلّفه خيتي حاكم إقليم أسيوط من سيرته في مقبرته، وزميله حعبي، وما جاء في السيرة الذاتية للموظف إيخر نفرت والمحفوظة في متحف ببرلين في ألمانيا وهي آثار ترجع إلى عصر الأسرة الثانية عشرة.
• ثالثًا - تمارين مدرسية، وكتب منسوخة:
ونجد فيها ما يصور المناهج الدراسية وموادها، وطرق التدريس ووسائل التأديب وبخاصة في عصر الدولة الحديثة.
تم العثور على كتاب كيمت (كاملاً) من عصر الدولة الوسطى، والمُسجل على عدة آثار أشهرها أثران، أحدهما في ميونخ، والثاني في بروكسل.
وهو أول كتاب مدرسي يضم من القواعد والأصول ما ينبغي للمبتدئ الإلمام به من أصول المعرفة.
• رابعًا - مصادر أخرى، ومنها:
تراث المصريين القدماء الأدبي كالقصص الشعبي وغير الشعبي. ويستدل منها على أهمية الثقافة والتعليم وقيمة إتقان فن الكتابة في مصر القديمة.
كان التعليم في المنازل أكثر أنواع التعليم شيوعًا. يقول ديودور الصقلي، إن الآباء كانوا يُعلمون أولادهم العناصر الأساسية لمهنتهم. وقد تغلغلت عادة تعليم الآباء لأولادهم في التقاليد المصرية القديمة؛ فقد قَدَّم مُؤلِّفو الرسالات التهذيبية (أدب الحكمة) في هيئة وصية من الأب لابنه.
عهد الملوك بتعليم أبنائهم وبناتهم من الدم الملكي إلى مؤدبين ومعلمين مختصين. وأرسل الصناع والموظفون أولادهم ليتتلمذوا على يد الأساتذة. ثم جاءت المرحلة الثانية عندما جُمع عدد من التلاميذ تحت إمرة أستاذ واحد. وكانت عائلات النبلاء ترسل أولادها ليتعلموا في فصول مع أطفال الملوك. وكان للمصالح وإدارات الحكومة مدارسها الخاصة، كما طُبق هذا النظام في المعابد وعُرفت باسم أي بر عنخ أي "بيت الحياة".
كانت هناك مدرسة في عصر الدولة الوسطى، في العاصمة، لتعليم جيل من موظفي المستقبل. غير أن الفتيات لم يكن يذهبن إلى المدرسة. وكن يبقين في معظم الأحوال بالمنازل. لم يتلق التعليم المدرسي سوى الصبيان المُزمع تعيينهم ككهنة أو في المناصب الإدارية المدنية؛ إذ كان الهدف والدافع الرئيس للتعليم هو توفير الموظفين اللازمين لأعمال الدولة (سواء كانت الإدارية منها أو الكهنوتية)، بالإضافة إلى تحسين حالة الفرد الاجتماعية والاقتصادية.
كان الطفل يذهب إلى المدرسة في حوالي العاشرة من عمره. ويبقى فيها حوالي أربع سنوات. وكان يتتلمذ في تلك السن. ولا يوجد لدينا أي دليل على وجود امتحانات قبل عصر البطالمة.
كما هي الحال في المدارس الحديثة، كان الأولاد يتعلمون القراءة من غناء فقرات مختارة معًا. وكانوا يتعلمون الكتابة بنقل النصوص. ويوجد الكثير من تلك التمارين محفوظة على ألواح أو على قطع الأوستراكا (أي شقفات الفخار).
دُرِس في الدولة الحديثة ما كتبه بعض المؤلفين المدرسيين والحكماء الذين كتبوا منذ 1000 أو 1500 سنة خلت، ولم تعد لغتهم مستعملة في الكلام. فكانت أشبه بألغاز لأولئك التلاميذ الذين قلما كانوا يفهمون ما يكتبون. وتم استخدام مجموعات من الرسائل والتقارير في تعليم الكتابة للكتبة. وتضمنت المختارات الأدبية مجموعة من القطع التهذيبية لتشجيع التلميذ في دراسته، ومن أمثلتها:
"أيها الكاتب، لا تكسل، وإلا أصابك الندم. ولا تنغمس في الملذات، وإلا كنت من الفاشلين. اكتب بيدك، واقرأ بشفتيك ... فبوسع القردة أن تتعلم الرقص، ويمكن تدريب الخيول".
توفرت للحركة العلمية بمصر القديمة مقوماتها الأساسية مثل اختراع الكتابة، والتعليم، واكتساب المعارف في الآداب وفي أفرع العلم المختلفة. وليس هناك من شاهد على مدى ازدهار الحركة العلمية في مصر أكثر من تلك الإبداعات التي تركها لنا الإنسان المصري على أرض مصر والتي هي نتاج العلم والمعرفة.
بنظرة على الأدب المصري، نلحظ مدى تمجيد الحكماء لمهنة الكاتب وترغيب الشباب في التعليم والاطلاع. فعلى سبيل المثال، ينصح أحد الحكماء شابًا قائلاً: "ضع قلبك وراء الكتب وأحببها كما تحب أمك لأنه ما من شيء يعلو على الكتب".
يكفي ما نعلمه عن المدارس ودور الكتب ومراكز البحث العلمي للدلالة على مدى ازدهار الحركة التعليمية وعلى مدى تقدم المصريين في العلوم مثل علم الأرض والكيمياء والفلك والطب والحساب والهندسة وغيرها.
عرف المصريون القدماء المكتبات وأطلقوا عليها عدة أسماء، منها: "بِر مِدجات أي "دار الكتب"، و" بِر مِدجات نِثر" أي "دار الكتب المقدسة"، و"إدارة الكتبة". وكانت هي الأماكن المعنية بحفظ الكتب والاطلاع عليها. وبداية من عصر الأسرة الثالثة على أقل تقدير، كانت هناك أماكن لحفظ لفافات البردي. وكان هناك كتبة ومشرفون ومدير لإدارة الكتب وغيرهم يعملون جميعًا تحت رعاية المعبودات جحوتي وحورس وسشات.
إلى جانب دور الكتب التي كانت تتضمنها المعابد وغيرها كانت هناك " بر عنخ" أو "دار أو بيت الحياة"، والتي كانت بمثابة مركز البحث العلمي التي كان يجري فيها البحث في مجالات العلوم الدينية (الكهنوت) والدنيوية مثل الفلك والطب والعقاقير والهندسة وغيرها، والتي بلغ فيها المصريون القدماء شأنًا كبيرًا. واحتفظت لنا الآثار المصرية بمدى ما وصلوا إليه من تقدم فيها.
ففي مجال الفلك، على سبيل المثال، عرف المصريون الأبراج السماوية والتقويم وتقسيم السنة إلى فصول. وفي الطب، برعوا في تخصصات عديدة. وأجروا العديد من العمليات الجراحية. وفي الحساب، عرفوا الأرقام والكسور والعمليات الحسابية والعديد من الأشكال الهندسية وغيرها.
مما سبق، يتضح لنا مدى اهتمام المصري القديم بالتعليم ومدى حرصه على غرس القيم والأصول في النشء من الصغر حتى يشبوا عليها، وتكون أساسًا لهم في حياتهم ومعاملاتهم الدينية والدنيوية. كانت المعرفة عنوانًا للفضيلة عند المدرسين المصريين والكُتاب.
يقول أحد الحكماء: "انظر فليس هناك من طبقة غير محكومة، أما العالِم فقط فهو الذي يحكم نفسه". كان التعليم عند المصري القديم هو الوسيلة الوحيدة التي تصل بالإنسان إلى أعلى الدرجات.
مصر هي التي علمت العالم.
|