القاهرة 06 سبتمبر 2022 الساعة 10:21 ص
كتب: عاطف محمد عبد المجيد
لا يزال الفقر والمرض والجهل والاستبداد، وإنكار قيمة الإنسان وتغييب العقل ورفض الآخر، أمراضًا تنتشر مبعثرة هنا وهناك في عالمنا المعاصر، لكن لا مناص من الاعتراف بأن تحوّلاً جذريًّا قد حدث على المستوى العالمي، ومن منظور التاريخ الإنساني الطويل نحو الوفرة والصحة وانتشار التعليم، ونحو نظم الحكم الديموقراطية التي تعلي من شأن الإنسان وقيمته، وتحكيم العقل في إدارة الشأن العام وتنظيم المجتمعات، وسيادة التسامح بين أصحاب الأديان والثقافات المختلفة.هذا ما يقوله مصطفى قاسم مترجم كتاب "الشبكة الإنسانية..نظرة مُحلّقة على التاريخ العالمي" الصادر عن سلسلة عالم المعرفة بالكويت، ومن تأليف كل من "جون روبرت مكنيل" و"وليام هاردي مكنيل".
المترجم الذي يرى أنه من حسن الحظ أن أحد التطورات المحمودة في مهنة التاريخ خلال العقدين الأخيرين قد تمثّل في إعادة تأسيس التاريخ العالمي، كمجال جدير بالدراسة والكتابة والتدريس، وذلك بفضل الزخم المتنامي الذي نتج عن الاهتمام التقليدي بالحضارة الغربية، والتفاعلات مع الثقافات الأخرى في إطار السردية الإنسانية العالمية، والاستبصارات التي أنتجتها العلوم التاريخية والطبيعية، يقول إنه في كل حالة انتقال للمركز الحضاري، كانت الحضارة الإنسانية تزداد تعقيدًا على مرحلتها السابقة، وتدمج، طوعًا أو كرهًا، مزيدًا من البشر ضمن دائرتها، فيتقارب البشر فيها حول نماذج وممارسات وأفكار بعينها، ويزداد في الوقت نفسه الافتراق بين متصدري العمليات الحضارية والمقطوعين عنها.
رؤية أصيلة
المترجم يقول إن ما يقصده هذا الكتاب بمفهوم الشبكة هو انتقال الحضارة من المركز الحضاري الأول إلى شرق العالم وغربه بفضل عمليات الاتصال والتبادل التي نقلت الأفكار والتقنيات والتجديدات والممارسات عبر المجتمعات الإنسانية، ومفهوم الشبكة كما يُعرّفه مؤلّفا الكتاب بأنه مجموعة من الارتباطات تجمع البشر معًا. كما يقدم الكتاب، حسبما يرى مترجمه، رؤية أصيلة للتاريخ العالمي تكشف الأنماط الأوسع للتعاون والصراع البشريين منذ أقدم العصور: لماذا ظهرت الحضارات الإنسانية الأولى في الزمان والمكان اللذين ظهرت فيهما؟ ولماذا غدا الإسلام منذ نشأته قوة توحيدية للعالم؟ ولماذا اخترعت الزراعة سبع مرات، بينما لم تكن هناك حاجة إلى اختراع المحرك البخاري أو الإنترنت إلا مرة واحدة فقط؟
هنا نعرف أيضًا أن مفاتيح التقدم الإنساني تكمن في شبكات الاتصال والتبادل وتنسيق الجهد البشري. ومن عجائب التاريخ كما يقول المترجم أن المنطقة التي شهدت ميلاد الحضارة، جنوب غرب آسيا ومصر ووادي السند، لا تزال بعيدة عن آخر ما وصلت إليه أحدث المراكز الحضارية في مجال تنسيق الجهد البشري للجماعة السياسية، خاصة وهي لم تتجاوز، بعد، مرحلة الحضانة الحضارية في إدارة الدولة وتداول السلطة.
أما مؤلّفا الكتاب فيؤكدان أن كتابهما هذا يمزج القديم والجديد معًا، ويصب المزيج في قالب جديد، خاصة وأن بعض الأفكار والمنظورات الواردة فيه عبارة عن نسخ مقطرة من أخرى قُدّمت للمرة الأولى قبل نصف قرن من الزمان، فيما يقدم غيرها هنا لأول مرة، أما القالب الجديد الذي يعطي الكتاب شكله فهو فكرة مركزية شبكات التفاعل في التاريخ الإنساني. وتتمثل الشبكة في مجموعة من الارتباطات تجمع البشر وتتخد أشكالاً كثيرة منها اللقاءات العابرة والقربى والصداقة والعبادة الجماعية والتنافس والعداء والتبادل الاقتصادي والتبادل البيئي والتعاون السياسي، وكذلك التنافس العسكري، وفي مثل هذه العلاقات يتبادل البشر المعلومات ويستخدمونها لتوجيه سلوكهم المستقبلي، وفي أثناء ذلك ينقلون ويتبادلون التقنيات والسلع والمحاصيل والأفكار المفيدة وأشياء كثيرة أخرى. المؤلفان اللذان يؤكدان أن الشبكة الإنسانية كانت موجودة دائمًا يريان أنها قد غيّرت عبر الزمن من طبيعتها ومغزاها بدرجة كبيرة تجعلنا نتحدث عن الشبكات بصيغة الجمع، كما ترجع الشبكة الإنسانية، في مستواها الأساسي، إلى تطور الكلام البشري على أقل تقدير.
تقنيات الاتصال
مثلما يؤكدان هنا أنه مع ازدياد كثافة السكان، الذي حدث مع ظهور الزراعة قبل نحو اثني عشر ألف سنة، نشأت شبكات جديدة أشد إحكامًا ضمن الشبكة الأصلية الفضفاضة، فلم تختفِ الشبكة العالمية الأولى، بل أصبحت أجزاء منها أكثر تفاعلاً، حتى إنها شكلت شبكات أصغر قائمة بذاتها.
مؤلفا الكتاب يريان هنا أيضًا أن الشبكات الحضرية قد توسعت بفضل تحسن تقنيات الاتصال والنقل، بعد أن كانت الكتابة والطباعة والإنترنت من أشكال التقدم الرئيسة في نقل المعلومات، وأسهم كل منها في تقليل تكلفة المعلومات وتيسير بناء شبكات أكبر للتعاون والتنافس والحفاظ على بقاء هذه الشبكات.
كما يرى مؤلفا الكتاب أنه ما كان من الممكن لنا أن نبلغ قوة ستة مليارات إنسان لولا العدد الكبير من الارتباطات المتبادلة وتدفقات وتبادلات الغذاء والطاقة والتقنية والمال التي تشكل الشبكة العالمية الحديثة، ينقلان عن توماس هاردي قوله إن لا شيء يمكن أن يكون أكثر انعزالاً واكتفاءً من حياة هذين الاثنين اللذين يمشيان هنا في ساعة الوحدة قبل طلوع النهار، غير أن المسارات التي كان كل منهما يسير فيها منفردًا لم تكن عملاً منعزلاً بحال من ألأحوال، بل كانت جزءًا من النمط الكامن في الشبكة الكبرى للفعل الإنساني التي كانت تنسج خيوطها حينئذ في نصفي الكرة الأرضية كليهما من البحر الأبيض إلى كيب هورن.
هنا أيضًا يرى مؤلفا الكتاب أن ثمة عوامل أسهمت في توسع الشبكات الحضرية كجماعات القربى والقبائل والكنائس والشركات والجيوش وعصابات قطع الطرق والإمبراطوريات، كما توسعت بفضل تحسن تقنيات الاتصال. هذا وفي كتابهما هذا حاول المؤلفان أن يجيبا عن عدة أسئلة تم طرحها ومنها:
كيف خلق البشر شبكات التفاعل؟ زكيف نمت تلك الشبكات وتطورت؟ وما الأشكال التي اتخذتها في مناطق العالم المختلفة؟ وكيف تجمعت في الأزمنة الحديثة ضمن شبكة كونية واحدة؟ وكيف غيّر ذلك دور الإنسان على الأرض؟
أما السؤال المصيري في عصرنا هذا فهو كيف نغيّر طرقنا ونتعلم أن نعيش في آن معًا في شبكة كونية وفي جماعات أولية مختلفة ومتنوعة؟
|