القاهرة 30 اغسطس 2022 الساعة 10:08 ص

قصة: إيليو فيتَوريني•
ترجمة: د. شيرين النوساني
وفي تلك الأثناء كان الضجيج يتزايد في الخارج: أبواب من حديد تخبط بقوة وأجراس تنهار فتدوي أصواتها في الهواء وقاطرات تهوي من على الكباري وأقفال تُخرق على حينِ غرة وكأن هناك عمالقة يتصارعون في الطرقات. أيكون الإيطاليون وصلوا فعلاً؟
وتمتم أحدهم: ورغم كل هذا فالوقت لا يمر. ورد عليه آخر: لا.. لا يمر. وقالت إحدى السيدات: نحتاج إلى بيك أب ودارت كلمتها من فم إلى فم بيك أب.. بيك أب.. وبعد نصف ساعة تعالت الهتافات فرحة بالحصول على البيك أب فعلاً. وصاح أحد الأشخاص مهللاً بالألمانية: يعيش الكونت دانديني. ولكن لم يكن هناك سوى اسطوانات ألمانية عليها أغنيات ورقصات من فيينا. وصدحت الموسيقى لساعاتٍ طويلة ولكن أحدا لم ينهض من مكانه للرقص. فصوت الموسيقى المبحوح لم ينجح بما يكفي في حجب أصوات انفجارات العاصفة. ونمنا على صوت تلك الموسيقى، أو على الأقل أنا، ونحن سعداء بمغامرتنا.
كان نومنا عميقا وقصيرا كالنوم في القطارات، أقصد أنني كلما سافرت بالقطار ليلاً تذكرت ذلك النوم. ثم استيقظت من نومى مندهشا لأن إيميليتا كان تسند رأسها على ساقي وكنت أشعر بألم فيها أيضا. وبدا لي أن الوقت فجرا، إذ كان نور السماء يتسلل إلى الداخل من الباب. وكان البيك أب صامتا. وكل شخص يمسك بيده كمامة، يقولون إنها للوقاية من الغازات. فصاح بوريس: ونحن أيضا نريد أن نحصل على كمامات كهذه. بالتأكيد يجب أن تكون معنا نحن أيضا فسنلعب بها بعد ذلك في البيت وسيكون رائعا أن نلعب بكمامات حقيقية. فقالت إيميليتا فجأة وهي تنهض على قدميها: اعطني كمامتي. فضحك أحد الحاضرين وألقى إليها بكمامته. فسررنا باستحواذنا على واحدة ولم نحاول أن نحصل على كمامات أخرى. وقال الرجل: إنها لا تفيد في شيء. وسأل آخر: وماذا لو ألقوا علينا الغازات؟ فرد عليه الأول: ساعتها لن تفيد في أي شيء.
وجاء عدد من الجنود يحملون دلاء من حديد ويوزعون القهوة على الحضور. وقدم لنا الشاويش بعض القهوة وقال: خذوا يا أولاد. لم يكن لدينا ما نضعها فيه فمددنا أيدينا موصولة على شكل فنجان ولكن مذاق القهوة كان مختلطا بطعم أكسيد المغنسيوم.
قال بوريس: يبدو أن كل شيء قد انتهى. أتحبون أن نخرج لنرى ما حدث؟ وبخطوات وقعها خفيف اجتزنا الممر المملوء برجال على نقالات أظنهم مرضى. وبعض الجنود الذين يرتدون زيا رمادي اللون يجلسون في صفوف طويلة على الأرض. وكان القائد يتحدث مع بعض الضباط غاضبا وصوت رنات أحد الهواتف يأتي من مكان قريب. فلم ينتبه إلينا أحد وخرجنا من على عتبة البوابة المفتوحة على مصراعيها. كان الجو دافئا ونقيا وبدت السماء كأوراق الشجر وصوت زئير العاصفة يدوى من بعيد وشهب صامتة تمر كالكواكب نحو الجبال وأصوات صفارات الإنذار تجوب أرجاء المدينة. ووصل فارس على جواده. ماذا حدث؟ ماذا حدث؟ وسمعنا دقات الطبول فى الفناء وكأنها أصوات صياح الديوك فخرج الناس إلى الشوارع يصيحون: لقد عبر الإيطاليون الكوبري. لقد دخلوا المدينة. يعيش الإيطاليون.. يعيش الإيطاليون. وبدأ الكثيرون منهم في الجرى. انتظروا...اختبئوا خلف بعض الأبواب... احترسوا من الطلقات. وعادت الطبول تدق من جديد، وكأنها أصوات ديوك واتجهت سرية، مكونة من جنود ناعسين، يحملون أعلاما ترفرف كخصلات الريش، نحو شارع دوجانا.
لا أعرف ماذا حدث بعد ذلك. ولكني أذكر أن أوراق الأشجار كانت تلمع في الشوارع والحدائق وحرارة الظهر تحرق الأعين. كان الجنود الإيطاليون في منتهى الغرابة، كانوا يرتدون -على ما أعتقد- زيا لونه أخضر وكانوا يكتبون على الجدران كما نفعل نحن الصغار. كنت سعيدا بقدومهم لأنهم كانوا يملأون الشوارع بالصخب والغناء. كما أنني كنت أخالهم جميعا قادة عظام. فكلهم كانوا يزينون صدورهم بأشرطة وشارات وأوسمة ويصدرون الأوامر بصوت جهوري أو يتظاهرون بهذا على سبيل المزاح.
أما رحيلى عن جوريتسيا فأنا أذكره لحظة بلحظة. لحظة السفر وفلورانسا وانتهاء طفولتي بانتهاء الحرب إلى الأبد. ففي عصر أحد الأيام وصل أبي فجأة، وما إن رأيته، أمام مقهى المسرح بمحض الصدفة، حتى شعرت أنني أكرهه. وحملني ذلك الرجل ذو الشعر الكثيف والعينين الفاتحتين، على ذراعيه وقبلني ولكنني أحسست ساعتها أنه يريد أن يصفعنى ويعاقبنى على كل ما بدر منى من عدم التزام خلال العام الماضى. وقال لى: لقد أمسكت بك.
وفي المخبأ تعَرف عليه جدي على الفور وراح يقص عليه كل المصائب التى حلت علينا فى تلك الفترة بمنتهى الوضوح والصراحة. وسأله أيضا إذا كان عنده معلومات عن خالى إودواردو وإذا ما كان قد التقى به في صفوف الإيطاليين ولكن أبي لم يكن يعرف عنه شيئا. وبعدها تحدثا عن الرحيل فقررا أن يظل جدي وابنا خاليَ في فلورانسا عند خالتنا مارجريتا وأن أذهب أنا مع أبي إلى صقلية.. وعندها حدثني أبى عن أمي وأخوتي وعن ثمار التين الشوكي وعن كلبته الصغيرة التى تدعى تريستيه.
وفي نفس الليلة رحلنا على متن سيارة نقل مع بعض أبناء جوريتسيا الذين كانوا مسافرين إلى إيطاليا مثلنا.. كان القمر ساطعا فوق الطريق الناصع البياض المحاذى للنهر. ولم يصل إلى مسامعنا صوت طلقة واحدة، بل بالأحرى كنا نسمع من بعيد أصوات صرارات الليل وأصوات أغنيات من حين لآخر وكنا أحيانا نشاهد جنودا يتقدمون دون أن يعبأ أحدهم بنا. ومررنا على بلاد محترقة واجتزنا وديانا جفت مجارى مياهها ثم وصلنا إلى مدينة أنوارها مطفأة وزاخرة بحركة أناس جافى النوم أعينهم، فعرفت أنها مدينة أودينة التى سمعت أبناء جوريتسيا، ونحن في السيارة النقل، يتلفظون باسمها عدة مرات على الطريق. كان القمر يسطع على كل الأحجار البيضاء حتى تخيلت أن أودينة مدينة عائمة مثل مدينة البندقية. وهمست إلى إيميليتا قائلا: سنرى الجندول الآن. فسمعنى أبى ووبخنى على جهلى وقال لى: اجتهد قليلاً يا ولد فأنت لم تعد صغير. ألا تستحي؟
وأحسست أن إجازتي قد انتهت بلا رجعة. فقد انتهت الحرب وغاب القمر.. وتملكتنى رغبة في الموت، في أن أصبح واحدا من تلك المخلوقات الغامضة التي التقيتها مرارا وتكرارا على الطرقات فى جوريتسيا بوجوهها المبتسمة الشاخصة نحو السماء.. إلى أين تُراهم يذهبون عند استيقاظهم؟ أخالهم يذهبون فى ضوء ساطع كضوء هذا القمر، مطمئنين، سعداء.
وتواصلت رحلتنا فى عربة قطار مظلمة مزدحمة بالأجساد عبر حقول مقمرة. وجلست أنظر من النافذة فرأيت الظلال التى يشكلها الدخان على الهضبة المضيئة وأنا أستمع إلى صوت أنفاس القاطرة. وغلبنى النعاس عند مدينة بودينونيه. واستيقظت بعد قليل فى قطار آخر وكان النهار قد أشرف على الطلوع. ومرت من أمام عينى محطة صغيرة وردية اللون. وأيضا لون السماء ساعتها كان ورديا شاحبا واكتست الأرض بالحشائش. ثم رأيت محطة كبيرة أذكر أنى شاهدت مظلاتها منذ عدة سنوات وساعتها فقط أدركت مدى بعدنا عن جوريتسيا.
كان كل الناس الذين يمرون تحت نافذة القطار يتحدثون بلغة أخرى. وكانوا يقولون عنى بلغتهم "هذا الطفل" وليس بلغتي أنا. وكان ذلك بالنسبة لي شيئا فظيعا وكانت فظاعته تزداد وتزداد. فهم أناس أجسامهم ضخمة ووجناتهم ضاربة إلى الحمرة، يحملون الحقائب واللفافات. والكثيرون منهم يبصقون على الأرض لينظفوا حلوقهم ويمشون مترنحين. فأدركت من كل هذا والرعب يملأنى أنهم لم يعيشوا الحرب، وأننى سأكون واحدا منهم. وكلما سار القطار بعيدا كلما توغلت داخل أعماقهم بعيدا عن الحرب وعن المدفع.
ومر شخص في رداء أبيض يدفع أمامه شيئا لامعا على عجلات. وكان يصيح: السخن.. السخن.. أي سخن هذا؟ فناداه أبي وطلب منه أن يصب لنا من هذا السخن في أكواب من خلال نافذة القطار. وأخذت كوبا منه وكان قد مضى عام لم أشرب فيه مثل هذ الشراب. كان لبنا. فتذكرت طفولتى الكريهة والمطابخ الهادئة وهدوء ساعات الصباح التي عشناها قبل الحرب فاحتقرت نفسي، بل وكل صباح وكل ساعة سيقتصر دوري فيها على الجلوس أمام فنجان يتصاعد منه الدخان لأفت فيه الخبز.. ثم أجري إلى مدرستي. حقا لقد انتهت إجازتي الطويلة بلا رجعة.
وبينما كنت مستغرقا فى أفكارى استولت عليَ الحقول واكتشفت صفوفا وصفوفا من الأشجار وبيوتا صغيرة وأوراق أشجار وجداول ماء تعلوها جسور ضيقة. ثم دخلنا وسط الجبال وسرنا بين مساقط ماء ولا أعرف لماذا خُيل إليَ أننا فى مدينة من مدن الطواحين. تصورتها مدينة "يوسف في الجليد" تلك الحكاية التى روتها لنا الخادمة لوسَيا عشرين مرة. وفكرت كثيرا في كنبتى بلونيها الأحمر والأصفر، تلك التي انتحبت فوقها لوسًيا في ليلة موتها. إنها ميتة الآن. وهي تتمدد الآن على الكنبة تبحر فى سماء مدينة أودينة المنيرة. لقد عاشت لوسيا الحرب.
وردد أبي وجدى اسم مدينة فلورنسا على مدار ساعات طويلة وفي نهاية المطاف قالا إننا أوشكنا على الوصول إليها، ونصحنا جدى قائلاً: هيا قبلوا بعضكم، يا أولاد..وليُسلم كل منكم على الآخر. واطمأنوا فسوف تتقابلون ثانية في صيف العام القادم في مزرعة أوسلافيا.. هيا...
فتبادلنا القبلات وتوقف القطار ونزل جدى ومعه ابنا خالي وساروا بين جموع الناس ولم تفارقهم عينى للحظة حتى وصلوا إلى نهاية المحطة. وهناك لوحت إيميليتا لي بيدها مودعةً فانتفض جسمي كأنني أدركت ساعتها فقط أنني وحيد وأنها أصبحت بعيدة عني. ورغم هذا لم أنزعج إذ كنت منبهرا بسحر وجمال المحطة. فأنا لم أشاهد قط محطة في مثل غرابتها، فبها برج أجراس هائل قد علق بين الأسقف. ولكن ما إن بدأ القطار فى التحرك والانفصال ببطء عنً هذا البرج الهائل عن الأرض حتى أحسست أنني أنزلق من كياني. أصبحت ممزقا وكأنني أوراق شجر وأغصان تشرأب من نافذة القطار لتوديع إيميليتا والحرب وبوريس وجوريتسيا وجدي الحبيب والإيطاليين بزيهم الأخضر، لتوديعهم جميعا. وحينها تذكرت الطابق الثالث بزجاجه المرتج وتذكرت العربة الكبيرة التى كان بداخلها "صاحب الحرب"، والمدفعين الموضوعين بين أشجار الكستناء ونفير رولان والسحب البنفسجية اللون فامتلأت عيناي بالدموع ودون أن أنبس ببنت شفة مع أبي، إذ كنت قد فقدت القدرة على الكلام أسرعت إلى دورة المياه وأغلقتها علي.
.. تمت
• إيليو فيتوريني (23 يوليو 1908- 12 فبراير 1966) ولد إيليو فيتوريني في مدينة سيراكوزا بجزيرة صقلية عام 1908 وهو أحد كبار الروائيين الإيطاليين الذين عرفتهم ميلانو في العصر الحديث والذين اعتمدوا على موهبتهم في تحصيل المعارف. كان فيتوريني مسئولا عن احدى السلاسل الروائية التى تصدرها كبرى دور النشر في ميلانو، دار نشر موندادوري.
عمل فيتوريني في الصحافة الأدبية في العهد الفاشيستي ولكن الفاشيون قاوموه ومنعوا نشر بعض أعماله حرصا منهم على اقتصار دور الأدب على معالجة القضايا الإقليمية وعدم الانفتاح على التيارات الفكرية والأدبية التى تولى اهتماما لقضايا الإنسان بوجه عام.
ومن أشهر رواياته رواية "حديث في صقلية" عام 1941، وتعد من عيون الأدب الإيطالي في القرن العشرين، ورواية "رجال ولا رجال" عام 1949، و"نساء مسينا" عام 1949، وغيرها. وقد تمت ترجمة رواياته المتعددة إلى لغات كثيرة فى الغرب، كما أنه هو نفسه من كبار المترجمين عن اللغة الانجليزية. وتوفي الأديب الراحل في مدينة ميلانو عام 1966.
|