القاهرة 30 اغسطس 2022 الساعة 10:06 ص
كتبت: سماح ممدوح حسن
يعتبر "زيجمونت باومان" العالم البولندي واحدا من أهم علماء الاجتماع في العالم، حيث تناول عصر الحداثة بمفاهيمه العقلية الصلبة، وما بعد الحداثة بعد التحرر من هذه المفاهيم لتصبح "حداثة سائلة" كما عبّر في مجموعة مؤلفاته المكونة من ثمانية كُتب، تتناول كل ما أثرت عليه الحداثة وغيّرته، كالحب والعلاقات والأخلاق والأزمات والخير والشر، جميع ما يتعلق بالبشر أو يحدث لهم.
أما عن الثمانية كُتب التي وضعها باومان في هذه السلسلة هى (الحداثة السائلة وهي بداية السلسلة، الحياة السائلة، الحب السائل وهو ما سنتناوله بالحديث فى المقال، الأخلاق في عصر الحداثة السائلة، الأزمنة السائلة، الخوف السائل، المراقبة السائلة، الشر السائل".
• الحب السائل:
الحب السائل هو أحد مؤلفات سلسلة زيجمونت باومان عن البشر ما بعد الحداثة، ويتناول في هذا الكتاب تفصيلا مدى هشاشة العلاقات والروابط الإنسانية التي وصلت إليها البشرية، وأستشرف أيضا مستقبل هذه العلاقات على ضوء المعطيات الحديثة ما لم يُعالج هذا الاضمحلال.
يُرجع "زيجمونت باومان" أسباب هذه الهشاشة إلى النمط الاستهلاكي الذي تبناه البشر جميعا، النمط الذي لا يخدم إلا ما نريد، والمتعة اللحظية، وعدم الاستمساك بأي شيء أو رابطة بشكل أبدي، مخافة تفويت متع لن يستطع المرء أغتنامها مادام ألزم نفسه برباط، أي رباط.
فيقول باومان في "الحب السائل" إن البشر باتوا يتعاملون مع الحب والعلاقات بمنطق ما يعرف "بعلاقات الجيب العلوي" كناية عن سهولة التخلص منها. فالعلاقات أصبحت كأي سلعة استهلاكية تؤدي الغرض ليتخلص منها المرء سريعا.
في منتصف الشهر الفائت أعلن رئيس جهاز التعبئة والإحصاء المصري، أنه -ووفقا لبيانات 2020- تحدث حالة طلاق كل دقيقتين، وأكثر من 18 حالة طلاق كل شهر. والكثير من هذه الحالات لم يمض على زواجهم أكثر من عام، ربما أقل. وبالتأكيد أغلبهم من الشباب. لكن هذه الحالة ليست في مصر فقط بل العالم أجمع أصبح، ربما كان عاديا التخلص من العلاقات على كل أشكالها ومستوياتها.
ويقول باومان عن أن السبب في ذلك التفكك الرهيب في العلاقات البشرية هو سيطرة العالم الافتراضي الذي بات كالماء والهواء، على عالمنا الحقيقى، فصار التخلص من أي علاقة إنسانية لا يُكلّف أكثر من الضغط على زر"احذف". بات الأزواج يضجرون سريعا، يسعون للتخلص من علاقاتهم القديمة أو الحالية التي يرونها قديمة بالية مُقيّدة، تماما كأي سلعة زهدوا فيها، وذلك بسبب تأصل النمط الاستهلاكي في نفوس البشر.
وعن هذه المأساة التي تحولت إليها العلاقات الإنسانية ومفهومها عن الحب يقول زيجمونت باومان:
"هو حبٌّ غير الحب الذي عهِدناه؛ حبٌّ يتناقض مع ما قد خوَّلته لنا عقولنا وأحاسيسنا، حتَّى اختلطت بنا التعاريف وصرنا نحوم في دوامةٍ من التساؤلات عن ماهية الحب في عصرنا الحاضر. أحقّاً نعيش الآن ذلك الحبَّ الصلب؟ أم هي فقط علاقات افتراضية سلبت منا المعنى الحقيقي للحب في زمن العولمة والثورة التكنولوجية؟"
• البحث عن الأمان:
بالتأكيد نتج عن هذه الهشاشة، والافتراضية فى العلاقات الانسانية، انعدام الأمان. وهذا أيضا خضع لنفس النمط الاستهلاكي، فإن كنت تشعر بعدم الأمان فانضم لدورات تدريبية تعلّمك كيف تكسب أصدقاء جدد، كيف تتقرب من شريك الحياة، كيف تكون كائنا اجتماعيا.
في الفصل الأول من هذا الكتاب يشرح باومان كيف انقرضت مقولة "حتى يفرقنا الموت" وما تحمله من معاني الترابط والود، والإيثار، والتواصل الإنساني الحق لا الافتراضي. وفي زمن الحب السائل، تغير الحب لواقع علاقة الليلة الواحدة. فلم يعد الحب أكثر من رغبة تنقضى لنتخلص منها دون تبعات أو التزامات.
أيضا من حب الحداثة السائلة، تغيّر مفهوم العلاقات المشتركة إلى مصطلح "المصالح المشتركة" وهنا يوضح كيف أن العلاقات بين الناس بشكل صريح وواضح هي علاقة المصالح المحضة، تبادل مصالح ليس إلا. علاقات نفعية برجماتية وغيرها.
تاليا يتناول باومان مسألة إنجاب الأطفال التى كانت، قديما، من أهم أعمدة الحياة الاجتماعية والإنسانية. الرابط والجذر للإنسان ومن حوله والأرض، حتى صارت هذه المسألة من أهم ما يثير قلق الشريكين ويجعلهما يفكران كثيرا قبل الإقدام على هذه الخطوة التى تتعارض ونمط، علاقة الجيب العلوي، خاصة مع ما هو شائع فى الغرب فيما يخص تلك المسألة.
• أحب جارك كما تحب نفسك:
كم من مرة سمعنا عن موت شخص حتى تعفّن جثته، ولم يدل على موته سوى الرائحة العفنة. كثيرا ما سمعنا عن الجار الذي عُثر عليه صدفة متوفى منذ عدة أيام أو حتى شهور ولم يعلم عنه أحدا، فالجميع مشغولون بأنفسهم، وهي إحدى الآفات التي تناولها باومان في كتابه عن شرور سيولة هذه الحضارة التي بتنا نعيشها. والتي نتجت عن نفس المبدأ التي تروج له تلك الحضارة المعاصرة، لحب الذات وإمتاعها دون الالتفات لأي اعتبارات أخرى. فلماذا أحب جاري أو أهتم به مالم أكن سأستفيد منه؟
ربما يتجلى هذا المبدأ أيضا في النمط المعماري الحديث، في بناء مجمعات سكنية منعزلة بأسوار عما خارجها، وبداخل المجمّع تنعزل كل وحدة بنفسها، لا يعلم الجار عن جاره شيئا. وهذه الخاصية التي يغري بها المعلنون زبائنهم "توفير أقصى درجات الخصوصية". في تلك المجمعات يكبر أطفال لا يعرفون عما وراء السور شيء، وإن تسنى لهم الخروج يوما فكأنما أتوا من الفضاء الخارجي.
الحل لكل هذه المعضلات الإنسانية هي، بحسب باومان "الاقتصاد الأخلاقي والجماعات التراحمية" التي تعود فيها العلاقات إنسانية لا يشوبها شائبة استهلاكية أو نفعية بأي قدر.
يشار أن سلسلة مؤلفات "زيجمونت باومان" الثمانية صادرة عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر، وقام بترجمة السلسلة الدكتور حجاج أبو جبر، بتقديم الدكتورة هبة رؤوف عزت.
|