القاهرة 16 اغسطس 2022 الساعة 09:16 ص
قصة: إيليو فيتَوريني•
ترجمة: د. شيرين النوساني
وجاء يوم الرابع والعشرين من مايو. ولا أكاد أذكر أي شيء تقريبا عن الليلة السابقة له، إلا صمت هائل مطير خنق صوت دوى المدفع فى ساعة الظهيرة. كان الظلام لا زال يخيم تقريبا على المكان عندما استيقظنا في صباح يوم الرابع والعشرين على أصوات وعلى ضجيج الجنود الذي ينبعث من ناحية النادي الرياضي. فخرج خالي إودواردو لأنه أراد أن يعرف ما الذى يحدث بالخارج، ولكنه عاد من فوره شاحب الوجه وأخذ يؤنب جدي. لم نستطع أن نفهم ماذا أصابه. وكانت خالتي بينيديتا ساعتها تطل مع لوسيا من النافذة فرأيتا مجموعة من النساء تقفن أسفلها وتتحدثن بانفعال شديد وظلت خالتي تناديهن وتصيح بهن ولكنهن لم تُعرنها أي اهتمام. وأخيرا قال خالى إودواردو، وهو ما زال يصرخ ويتهم جدى بتدميرنا جميعا، أنه تم إعلان الحرب. قال له: أسعيد أنت الآن؟ هل تشعر بارتياح؟ آه يا ربي، يا ربي..
ولكن سعادتك لم تكتمل بعد. ستكتمل فقط عندما يستدعوننا أنا وأرنستو للخدمة في الجيش ويرسلوننا إلى بولندا، أيها النمساوي! فهرع الجميع إلى النوافذ. لا أعرف ماذا توقعوا أن يروا منها وأنا أيضا اعتليت أحد المقاعد وأوجدت لنفسى مكانا بينهم. كان الشارع يعج بالناس والجنود يركبون العربات الكبيرة، والمدنيون، وأغلبهم من النساء، يرقبونهم وهم يرحلون، دون حتى أن يصفقوا لهم أو يلقوا عليهم أي زهور. صاح جدى بصوتٍ عال وكأنه يُحدث نفسه:
تُرى إلى أى داهية هم ذاهبون؟! فأجابه بعض الأشخاص المطلين من النوافذ القريبة:
إلى جراديسكا، إلى براتسانو. يبدو أن الإيطاليين عبروا الحدود الليلة. فشعر أخوالى بالاضطراب. وقال جدى: هذا ما كنت أقوله لكم.
إنها مسألة يومين والنتيجة مضمونة.
وبعدها نصبح هنا في إيطاليا. فسأل خالي إودواردو: وهل يعني هذا أنهم يحاربون هناك الآن؟ فأكد له رجل يسكن فى الطابق الثاني هذا قائلاً: نعم يحاربون.. يحاربون. ففي حدود الساعة الرابعة رأيت أنا بنفسي في الظلام نيران الخنادق من بعيد.
وتتبعنا بأعيننا، عبر الهضبة، مجرى النهر. وكانت السماء صافية، ورغم ذلك لم يكن واضحا ما إذا كان اليوم سيأتي مطيرا أم مشمسا، كان الطقس باردا فحسب. كانت بلدة فيرتويبا تقع على إحدى ضفتي النهر وعلى ضفته الأخرى تقع بلدة لوتشينيكو وبلدة سان لورنسو دي موسا وجميعها كانت تمتلئ سماؤها بالأدخنة الكثيفة..
وكان هذا بسبب الضباب على أية حال. وفجأة قال جدي وهو يشير بإصبعه إلى نقطة في الجو في اتجاه كورمونس: هذا هو المكان الذى يحاربون فيه. فاستعدت خالتي لإحضار المنظار في الوقت الذي دوت فيه، للمرة الأولى منذ عصر نابليون كما يُقال، طلقة من مدفع القلعة في تلك الساعة غير المعتادة، وكانت طلقة هادرة وكئيبة لدرجة جعلت زجاج طابقنا الثالث يرتج لوقتٍ طويل.
وعندما خرجنا، نحن الأطفال، مع خالتي بينيديتا وجدنا الشارع يعج بالناس، بصورة غير مسبوقة، نساء وصبية في مثل أعمارنا، وقفوا على الأرصفة يحملون سلالاً من المشتروات تحت إبطهم وينتظرون حدوث معجزة، كأن يروا نجما مذنبا، وأعلاما ذات ألوان سوداء وصفراء ترفرف على المحال التجارية بأمر من السلطات، وفي كل الأركان إعلانات مكتوب عليها بثلاثة لغات، الألمانية والإيطالية والسلوفينية، ولعل الجماهير تقف وتقرأ تلك الكلمات بصوتٍ خفيض. وأقبل اليوم رائعا، فظله منعش على أحد الجوانب وشمسه مشرقة كشمس أيام العطلات على الجانب الآخر. والأشجار تهمس في الحدائق وكأن كل ورقة من أوراقها طائر مغرد.
وكان عدد المحتشدين هنا أقل تماسكا ومجموعات من الفتيات تتأبط كل منهن ذراع الأخرى وفتيان من تلاميذ المدارس الثانوية، يمزح الكثير منهم ويضحكون ويشترون الحلوى من الباعة الجائلين الذين اعتادوا الوقوف صفا تحت نوافذ بنك لوبيانا. ورأيت كل أصدقائي الصغار يلعبون بالقرب من النافورة. كان واضحا أنهم أحرار فى ذلك الوقت، إذ لم تكن هناك خادمات في انتظارهم وقد هلك أهلهم فلم يعد لهم أي علاقة بالمدرسة ولا بالكتب. كنت أحسدهم ولم أجرؤ على مناداتهم، فخالتى كانت تجذبني من يدى بقبضتها الفولاذية.
وامتلأت الطاولات في السوق بسلع جيدة، وأخذت عربات الخضروات تفرغ محتوياتها على الأرصفة.. بعضها عربات تحمل البطاطس، وأخرى تحمل الكرنب، واللفت، والفواكه، وكانت تحمل أيضا سلالاً كبيرة من بشائر الكرز التى لا يزال الكثير منها فجاً أخضر اللون. وأغلب الظن أن الفلاحين قد جردوا الحقول من كل ما فيها من مزروعات دفعة واحدة وكانوا يبيعونها بأسعار زهيدة، رغبة منهم فى إتمام البيع بأي طريقة. وبدا قسم الأسماك مزدحما كأنه يوم عيد، حيث كانت البائعات تصحن وتنادين: سمك موسى، سمك موسى، سردين، سمك موسى، آخر سمك من جرادو، من لا يأكل منه اليوم لن يذوقه بعد ذلك، هيا أقبلوا يا أهل جوريتسيا فهذه آخر أسماك سترونها.. وهناك أيضا كانت تتكدس أكوام وأكوام من السلع على الطاولات الرخامية توحى لمن يراها بأن البحر قد حل عليه الخراب.
ومرت عربة قادمة من ناحية الميدان الكبير خلف السور الحديدى وارتفع صوت بوقها عند ناصية الطريق فألقى الناس بأنفسهم بعيداً عن السور وتدفقوا من جديد في الطريق. ماذا كان يحدث؟ انفتحت ثغرة بين الناس كما لو كانوا فى حقل قصب. وسارت السيارة بسرعة فى الطريق وظهرت بها يد ترتدى قفازاً أبيض اللون وتسدل ستائرها الوحداة تلو الأخرى. وأذكر أن الناس همسوا باسم شخص ما وأنني تساءلت ما إذا كان هو "صاحب الحرب".
وفي طريق العودة إلى البيت مررنا على الميدان الكبير وكانت بوابة المعسكر مفتوحة على مصراعيها. وفى داخل فنائه كانت تحتشد جموع من الناس وجموع أخرى تقف خارجه معظمها من النساء اللائى وقفن أمام كنيسة القديس أنياتزو أمام مقر الحاكم وعلى طول الطريق المنحنى المُكدس بالبيوت فوق التل الذى تعتليه القلعة. وبعض الفرسان السود، الذين يعتلون صهوات جيادهم ويصوبون رماحهم نحو الأرض، يخلون وسط الميدان من الناس. وبعدها سمعنا دقات طبول وبدأ كل رجال الفناء يخرجون من بوابة المعسكر، فى كل مرة أربعة، الكثيرون منهم يحملون تحت إبطهم لفافات صغيرة وأغلبهم لا يضعون أغطية الرءوس.
وكانوا يزينون عروات ستراتهم بحلقات من صفيح تتلألأ فى ضوء الشمس ويسيرون منهكين وأحذيتهم تكسوها الأتربة، وكأنهم عائدون من زحف طويل. فسألتنى ايميليتا: هل هؤلاء أسرى؟
فابتسم ابن خالى بوريس فى أسى. وتنازعنى الشك: أيكونون أسرى؟ ولكنى، بعد عودتى إلى البيت، عرفت أنهم مجرد مواطنين وفلاحين قادرين على حمل السلاح وقد قاموا بتجنيدهم جميعا. وفى كل يوم كانت هناك عمليات تجنيد جديدة لآخرين، فقد كانوا يضعون الحواجز على جانبى الشارع ويستوقفون كل من يصادفونه فى الطريق. ويقوم الأطباء بإجراء كشف سريع عليهم فى المعسكر فيخلوا سبيل المرضى وكبار السن منهم، أما الباقون فيتوجهون إلى محطة ترانس ألبينا على دقات الطبول دون أن يودعوا نسائهم ومنها يعبرون الجبال ويعبرون النمسا وعلى الحدود البولندية يتحولون إلى جنود حقيقيين، يحملون المخالي والبنادق.
هذا ما قاله لنا خالي إودواردو وأضاف عليه أنه هو أيضا سيتسلق جبل الآلام غدا أو بعد غد. ولم يعد يحتد بشدة على جدي، إذ اكتفى بندب حظه التعيس بعويل غريب وكان يضمنا إلى صدره بعواطف جياشة، فيبكينا فى كل لحظة. وكان جدى يربت على كتفه بيديه ويحثه على الاختباء في حجرة المنشر أو فى المخزن، فالإيطاليون قادمون في خلال بضعة أيام فقط. وعلى هذا المنوال سارت حياتنا العائلية حتى عشية ليلة الحرب.
لم تعد ذاكرتي تستطيع التمييز بين عصر كل يوم وعصر اليوم الآخر، فقد كنا نقضيها فى النافذة بعد تناول طعام الغذاء، حتى بدت لي كلها وكأنها عصر يوم واحد طويل. وكانت رؤوس بعض السكان الآخرين تظهر من نوافذ الطابق الثانى والأول، وأصواتهم تعلو وتنخفض ويرتد صداها. ولم يكن صحيحا أنهم حاربوا في ليلة الرابع والعشرين فحتى هذه اللحظة لم تدر رحى المعركة. فجنودنا كانوا يتقدمون إلى الأمام دون أن يلاقوا خنادق العدو، ولذلك كان زحفهم يشوبه الحذر فهم لا يعرفون أين ينتظرهم الجيش النمساوى.
وكان جدي يقسم على أن الجيش النمساوى يعسكر في الجبل وعلى أن الحامية الصغيرة الموجودة فى المدينة كان الهدف من ورائها خداع الناس ليس إلا وأنه بإمكاننا، إذا أردنا أن نتوجه نحو الإيطاليين، ونحن ننشد الأناشيد، وأن نلتقيهم فى الهضبة المهجورة. وكان جدي يرى أنه ليس بمقدور أي رجل مسلح أن يفصل جوريتسيا عن إيطاليا.
وفي يوم من الأيام بدا لكل الآذان المتجهة نحو فريولى أنها تسمع صوت جسم معدنى يتحرك فى الجو. وذاكرتى لا تتمتع بحاسة سمع قوية تمكنها من تمييز صوت ذلك الجسم، ولكننى أذكر أنى حسبته نتاج سحب من البرونز أو من الفضة اصطدمت ببعضها البعض لوهلة. ولكن خالتى بينيديا قالت متعجبة: إنه صوت أجراس. وكان الصوت يقترب منا شيئا فشيئا، ثم يتلاشى فى الفضاء ثم يعود أكثر قوة وإلحاحا حتى نخاله صوت أجراس متناغمة الدقات تطير فى الجو أو صوت أجراس كاتدرائية تطير فى الهواء وتتجه صوبنا.
وفى كل مرة يتعالى فيها خرير الصوت كان أحد أخوالى يصيح: إنها أجراس كنيسة فيلانوفا، إنها أجراس سيرمونس. ولكن جدى تعرف على صوت أجراس كابريفا. وصاح الجميع وهم يتكالبون على النوافذ: إنه الزحف، إنه الزحف. ربما كانوا ينتظرون فى ثقة تامة سماع صوت أجراس كنائس موسا ولوتشينكو أيضا، وتليها بلا شك أصوات دقات أجراس كنائسنا، سانت أجاتا وسانت أندريا وسان بييترو، وأجراس القسيسين الفرانسيسكان والمعهد الدينى للقساوسة. ولكن السحابة المعدنية هبطت بعد ذلك من كابرينا عبر ليزونسو فى اتجاه الجنوب. فقال جدى: إنهم لا يجرؤون على اجتياز النهر. ولكن من يدرى ربما الليلة...لم يستطع أحد مفارقة النوافذ وظلوا حتى الصباح يحملقون بعيون شرهة فى اتجاه الهضبة. كان الجو ساحرا ورغم ذلك كان ثمة صوت ينبعث من بين الجبال. وكنا مقتنعين بأن عاصفة ما، خفيفة ولكنها مخيفة، ستهبط علينا من أعماق السماء. وفجأة بدا لنا وكأن الأرض تهوى من وراء ظهورنا.
وصاح جدى: هذا صوت طلقة مدفع. ولكن كيف يكون الصوت قريب منا بهذه الصورة؟ فصرختُ أنا: أين؟ أين؟.. أريد أن أرى المدفع. فحملونى إلى الشرفة ورأينا أمامنا، من وراء أسقف المنازل، جبال ساباتينو وجبال بودجورا تهتز بشدة. وسمعنا دوى طلقة مدفع أخرى أضاءت السفح كله. فتمتم خالى اودواردو: أترى كيف يعج بالرجال؟ فتنهد جدى: كانوا ينتظرونهم هناك. وأضاف خالي أرنستو: ستظل جوريتسيا نمساوية لفترة أخرى. وعندما يصلون إلى هنا لن يجدوا فيها حجراً فى مكانه وسيكون جميع الناس قد هربوا من المدينة خوفاً من النار. ثم نزلوا إلى أسفل على السلم وقد حملنى أحدهم على ذراعه وخيم الصمت الدامس على الجميع حتى تملك الخوف والغيظ من نفسى طيلة المساء.
لم أنم طوال الليل، إذ كنت أسمع صوت جبلى سابوتينو وبودجورا ينفتحان وينغلقان فوق رأسى وكان هذا يفزعنى. فقد كنت أتخيل أن هناك غيلانا تشق الجبل وتطل برؤوسها منه ثم تطبق ضلفتيه من جديد. فناديت على بوريس وإيميليتا وكانا هما الآخران مستيقظين فقد أجابا ندائى فى الحال فى نشاط وحيوية واجتمعنا كلنا على نفس السرير. واستمر حديثنا، وكل منا يحتضن الآخر، حتى صباح اليوم التالى، عن معركة التنانين التى كانت قد اندلعت من حولنا.
ومنذ ذلك اليوم وحتى شهر أغسطس من عام 1916 وذاكرتى عن عام الحصار هذا لا تعى الوقت الحقيقى له وتحلق بحطام أحداثه وكأنه استغرق أربع وعشرين ساعة. ويُخيل إلى أننى ظللت طيلة ذلك اليوم، ذلك العام، أستمع، وأنا بين النوم واليقظة، إلى أصوات زئير عاصفة وأنا أطبق جفنيَ بشدة كأنهما قبضتى يدى، خشية أن يصعقنى وميض البرق. وانقطعت أخبار خالى إودواردو وخالى أرنستو ولعلهما قد رحلا...أحدهما إلى معسكر اعتقال والآخر ربما هرب أو لعله اختبئا انتظارا لقدوم الإيطاليين. وكان بوسعى أن أصدق أنهما خرجا ببساطة للقيام بأعمالهم المعتادة.
وتركنا الطابق الثالث إذ كان زجاج نوافذه يرتج مع كل طلقة من طلقات المدفع، سواء القريبة منها أو البعيدة.. وانتقلنا للسكن فى مطبخ كافيتريا تديرها إحدى قريبات خالتى. وكانت الكافيتريا تطل على شارع فيردى وتقع بالقرب من إحدى قاعات العرض السينمائى ولكن قريبتنا كانت تغلق باب الكافيتريا دائماً ولا أعرف من أى شىء كانت تحترس وكانت تستخدم النافذة للبيع. وتنام فى المخزن مع خادمة تُدعى ميركا من بلدة كانالى. وقد اشتهرت هذه الخادمة بيننا بخفة عقلها حيث أنها كانت تضع ماء الكولونيا على شعرها كل يوم.
كان المطبخ معتما رطبا وأذكر أن جدى كان دائم الشكوى من هذا وكان يُردد هذه الكلمة المخيفة "رطوبة، رطوبة" ويظهر على وجهه التعبير الذى كان يبدو عليه عندما يجد الحساء مالحاً. وكان ذلك يقلقنى بشدة ويُشعرنى بأن الموت من الرطوبة سيخطف منى جدى بين لحظة وأخرى وأحياناً كنت أحلم بحيوان "رطب ومالح" يخرج من بين أحجار الأرضية، كان يظهر صغيراً فى أول الأمر كالبرص ثم يجرى ويجرى فوق السقف ويصعد ثم يهبط وفجأة يصبح ضخماً ويخيل إلى أننا جميعا فى داخل جوفه.
ولكن هذا المكان كانوا يطلقون عليه مطبخا فقط لأنه يضم مدفأة يجتمع حولها رفقاء الشراب فى الشتاء فيلعبون الورق؛ وكان أيضا عنبرا لشحن البضائع ومخزنا ومنطقة حرة تتراكم فيها صناديق فارغة من زجاجات الروم ومن زجاجات الصودا. وكنا نحن الأطفال نتخذ منه مقراً للقيادة العامة للسعادة مستلهمين ذلك من حبنا للحرب. هل سأستطيع نسيان هذه الغرفة الكبيرة الطويلة بأقواسها المعمارية، والتى تفوح منها رائحة الإسطبلات وعبير الغابات وترن فى أرجائها أصداء ركض الخيول وأصوات رسو السفن وصيحات القرود والببغاوات. ووضعنا أنا وابن خالى بوريس على رؤوسنا ريشة ديك لنعلن معاداة كل منا للآخر. وكانت إيميليتا هى فريستنا ونلنا منها فكنا نتناوب اختطافها ونجبرها على الاختفاء، أحيانا، فى صندوق كبير ونتظاهر بنصب الشراك لفترات طويلة ثم نعلنها ملكة على مملكة رعاة البقر ثم ملكة لمملكة ماتو جروسو...تلك الممالك التى كان بوريس يلوح فيها بحبله فى حين كنت أنا أنتظر اللحظة المناسبة لصيد نمر له منقار نسر وله ذيل بأجراس ببندقيتى الونشستر.
أما أنا فكنت أشعر بسعادة ليس لها مثيل، في الليل، وأنا أرتعد من شدة البرد فوق كنبتي ذات الخطوط الحمراء والصفراء أو عندما أتسلق كومة من جوالات البن لأطلق النار على معسكر بوريس. وساعتها كنت أتوقف لبعض الوقت عن التفكير فيهما، عندما كان المطبخ، وحربى الحقيقية، يستوليان على تفكيرى، فأصعد وأصعد مفتوناً بفوضى الوسادات المبعثرة فى كل مكان والأوانى وغموض اللغات المكتوب بها على الصناديق؛ كنت أصعد حتى أصل إلى قمة شجرة التين التى كانت تتجرد من أوراقها من وراء النافذة ثم تكتسى من جديد بأوراقها الفارسية فى ضوء الخريف والربيع. وعلى الرغم من أن دار السينما كانت مغلقة إلا أن قربها كان يحرك مشاعري عند رؤية ملصقاتها المهملة عند المدخل وكان بريق ماكينة القهوة والبخار المؤلم المتصاعد من القهوة البرازيلية ينبضان بداخلى وكأنهما دموعا محتبسة. ثم ظهرت فى حياتنا كلمة "كوليرا" التى أثارت غضب جدى أكثر من ملوحة الحساء وعاد من جديد الذعر التوراتى من فكرة إنزال اللعنة التى عرفتها من قصص العام السابق، عاد يغزو الصحراء التى ابتلت بالدموع التى زرفتها على خراب بابل.
يتبع..
• إيليو فيتوريني (23 يوليو 1908- 12 فبراير 1966) ولد إيليو فيتورينى فى مدينة سيراكوزا بجزيرة صقلية عام 1908 وهو أحد كبار الروائيين الإيطاليين التى عرفتهم ميلانو فى العصر الحديث والذين اعتمدوا على موهبتهم فى تحصيل المعارف. كان فيتورينى مسئولا عن إحدى السلاسل الروائية التى تصدرها كبرى دور النشر فى ميلانو ، دار نشر موندادورى.
عمل فيتورينى فى الصحافة الأدبية فى العهد الفاشيستى ولكن الفاشيون قاوموه ومنعوا نشر بعض أعماله حرصا منهم على اقتصار دور الأدب على معالجة القضايا الإقليمية وعدم الانفتاح على التيارات الفكرية والأدبية التى تولى اهتماما لقضايا الإنسان بوجه عام.
ومن أشهر رواياته رواية "حديث في صقلية" عام 1941، وتعد من عيون الأدب الإيطالى في القرن العشرين، ورواية "رجال ولا رجال" عام 1949، و"نساء مسينا" عام 1949، وغيرها. وقد تمت ترجمة رواياته المتعددة إلى لغات كثيرة فى الغرب، كما أنه هو نفسه من كبار المترجمين عن اللغة الانجليزية. وتوفي الأديب الراحل في مدينة ميلانو عام 1966.
|