القاهرة 09 اغسطس 2022 الساعة 08:42 ص

قصة: إيليو فيتَوريني •
ترجمة: د. شيرين النوساني
سبع سنوات: هل يعقل أنني لم أكن أذهب إلى المدرسة حتى ذلك الوقت؟ يظهر أن جدي وأخوالي قد أقنعوا أبي بأن أدرس من منازلهم، رغبة منهم في إبقائى عندهم. أما أبي الذي كان يعمل موظفا في السكك الحديدية، مما اضطره للإقامة في محطات ريفية صغيرة بالقرب من كالابريا وصقلية أو في أماكن لا أعرف أين تقع، فقد سمح لى بأن أستمر فى العيش فى نعيم، لمدة ستة أو سبعة أشهر من كل عام، فى بيت هؤلاء التجار، كما كان يسميهم، وهم أقاربنا الذين يعيشون فى جوريتسيا، وذلك عندما كانوا يرسلون له الخطابات بخصوصى. ويرتبط الشق الأجمل من طفولتى بجوريتسيا، الشق الخفيف، السماوي من سحابة كان يطبق على شقها السفلي، الذى يتعلق بأبي وبالسكك الحديدية، لون أسود كلون العواصف.
ففي جوريتسيا هذه، كانت البيوت والحدائق العامة متقاربة ومن نوافذها يمكنني رؤية حركة الطريق التي لن أراها بعد ذلك أبدا، وتحيط بي زمرة من الأشخاص الأعزاء، أقصد التجار، تماما كما كان الحال في حلم يعقوب، وهم ينقسمون إلى درجات متسلسلة،:
أبناء الأخوال وخالى أرنستو وخالي إودواردو وخالتى بينيديتا ولوسَيا وجدى القادر على كل شىء والعالم بخفايا الأمور كلها. أما اليوم فقد تغير كل شىء فلا أنا عُدت أذكر أسماء الشوارع التى اختفت أو كيف كانت طبيعة الأشياء التى تغيرت، وحتى الأشخاص مات البعض منهم والبعض الآخر لا يبدو لى أنهم نفس الأشخاص الذين أحببتهم من قبل.
لقد فاجأتنى الحرب فى جوريتسيا. ولا أعرف فى حقيقة الأمر إذا ما كان قد تم تبادل المراسلات المعتادة، خلال ربيع 1915، بين أبى، فى محاولة لاستعادتى في الوقت المناسب، وبين التجار ليحاولوا الاحتفاظ بى عندهم لأطول وقت ممكن. ففى الواقع منذ شهر فبراير وعلى مدار شهرى مارس وأبريل كانت تصل إلينا خطابات غامضة وفى الأيام الأخيرة وصلتنا برقيات كان جدى وأخوالى يناقشونها بهمس ومع ذلك فى صخب. لم يكن يخفى علىَ ساعتها أن تلك الخطابات كانت تخصنى أنا تحديدا، ولكنى لم أشعر بأى فضول لمعرفة محتواها، بل وكان يبدو لى أن هناك خطر فى أن أعرفه لأن جدى وأخوالى، الذين أثق فيهم ثقة عمياء، كانوا يحرصون على إخفاء أمرها عنى. وفى ظهيرة أحد الأيام قبيل منتصف شهر مايو وبينما الجميع يجلسون على مائدة الطعام ولوسيا تقوم بصب حساء الكرنب اللذيذ للكل، والذى كنت أراه طبقاً مناسباً ليوم الجمعة، وصلنا خطاب آخر بالبريد المستعجل أثار غضب جدى الشديد، في أول الأمر، ثم كان سببا في إثارة حالة عامة من الذعر بعد فتحه. فبادر خالى إودواردو قائلا:
يظهر أن الأمور دخلت فى الجد. إننا لا نرى شيئا من هنا ولا نعرف مدى خطورة الموقف. ولكنهم بالتأكيد فى إيطاليا يعرفونه أكثر منا. فتمتم جدى: ولكنه يبالغ. فقال خالى: ربما يكون قد بالغ قليلاً ولكنه لم يتجاوز الحد المعقول. فهو يقول الآن أنهم أعلنوا حالة التعبئة العامة فى البلاد وليس هناك ما يدعوه لاختلاق مثل هذه الحكاية. ثم أن الجرائد أيضاً لا تتحدث عن هذا الأمر، ولكن الناس على المقاهى وفى الميادين يعقدون الصفقات بأعصاب متوترة.. وأنت تعرف هذا. ومنذ فترة والأعمال التجارية تتم بالنقد مع ميلانو ومع اودينه...
في اليوم التالي عرفت الخبر الخطير من فرانكوفيتش ومن رفاقي الذين يلعبون معي في الحدائق حين قال لي ولد أشقر الشعر نَمِش، لم أعد أذكر اسمه: أتعرف؟ ستقوم الحرب عندنا نحن أيضا.. تقوم الحرب عندنا. أخذت الكلمات تطن في رأسي في أول الأمر وبعدها تفجرت بداخلى طاقة فرح هائلة سرت في كل أنحاء جسدى. وأتذكر تماما الشعور الذي غمرني لمدة دقيقة أو دقيقتين.
وراح عن بالى ساعتها أننى لازلت ولدا وأن عمرى سبع سنوات وأننى لازلت ألبس البنطال الأزرق القصير، الذى كان مدعاة فخرى، والمريلة السوداء، التي كانت سببا في إحباطي عندما كنت ألبسها كل يوم في أوقات اللعب. أحسست أنني أنا نفسى حربا وأنني شيئا كنبات القريص أو كغلالة المدفع. سأعيش أنا أيضا الحرب، أوشكت أن أعيش الحرب، أن أعيشها بأدخنتها، ونيرانها والموت الذى تخلفه، وهؤلاء الجنود وهم يعبرون الحقول، الجنود الذين كانت تدور عنهم أحاديث كثيرة منذ عام وكأنها أحاديث عن حفل بعيد المنال، مُحرم علينا أو عن أسطورة من بلجيكا ومن فرنسا.. وبدأ سحر الأسطورة فى تلك الأسماء، فرنسا وبلجيكا، يرتبط بكل ما حولي، بالأشجار وبالحصباء وبالأسماك الحمراء الصغيرة في الحوض وبضجيج الترام وبالقلعة التى كنت أراها من وراء أسطح أسقف العمارات المبنية على الطريق فوق التل الذى يكسو العشب نصفه وتقع المدينة في نصفه الآخر، وخلتُني أقف مستعدا لإطلاق الرصاص، طاخ، طاخ، من كل النوافذ وكأني بارجة عسكرية ضخمة.
وفي صباح اليوم التالي قفزت من مكاني مذعورا نحو النافذة على صوت دوى طلقة مدفع الظهيرة. فأنا لم أعد أتصور أن يكون إطلاق النار وسيلة لإعلان الساعة فى ذلك الوقت. فإطلاق مدفع لم يعد من الممكن إلا أن يكون نذيرا لإعلان الحرب. وأخذت أتأمل القلعة تحت ضوء الشمس في انتظار دوى وابل آخر من الطلقات القاتلة عديمة الرحمة. وفي ظهر كل يوم كنت أصرخ من ذلك المطبخ المرتفع الذى يعلو على كل المنازل المجاورة، وأنا أدق الأرض بقدمى وأقول: إنها الحرب يا خالتى..إنها الحرب.
وفى عصر أحد الأيام أسر لى فرانكوفيتش بأن عائلته تنوى الرحيل إلى سويسرا حتى تكون فى مأمن من الحرب. كان كل رفاقى يتحدثون عن الرحيل، فقال أحدهم أن جوريتسيا سوف يتم تسويتها بالأرض وسيتم نقل أهلها إلى فيينا، حيث تُنصب لهم الخيام على أرض فسيحة، "واسعة كالهضبة". كان الولد الأشقر يُردد كلمات أبيه الذى قال أنه ينبغى على الجميع أن يذهبوا إلى إيطاليا للقتال فى سبيل الوطن. وقال ولد آخر، يعمل أبوه كهربائياً، أن النمساويين سيحتجزوننا فى جاليتسيا، على الجبال، ويتركوننا حتى نموت جوعا هناك، إذا لم نهرب فى الوقت المناسب. ولكن أغلب الرفاق عبروا عن ثقتهم في أن الإيطاليين سيتمكنون من احتلال المدينة فى حالة نشوب الحرب. ولم يكن الحديث في منزلنا يخرج عن هذا الموضوع، فكنت أنقل لجدى وأخوالى تلك الحوارات وكلي حماس وسعادة غامرة لأني أصبحت تقريبا واحدا منهم ولأنهم ينصتون لما أقول ويأخذون كلامي على محمل الجد دون أن تعلو وجوههم تلك الابتسامة الغريبة التى عادةً ما يُبديها الكبار للصغار.
ومع ذلك كان أهل بيتى يتحدثون عن الحرب بطريقة لا أفهمها. فلم يكن لدىَ تفسير لما يصيبهم من خوف وما يعتريهم من شحوب عند سماع دوى نفس طلقة المدفع اليومية التي تجعلنى أنتفض من مكاني كصرار الليل.
كان أخوالى يخافون أن يتم استدعائهم لأداء الخدمة العسكرية وخالي إودواردو يقول: "بدلا من أن ينتهى بي المطاف للقتال في روسيا، سأعبر الحدود وأرتدى الزي العسكري الأخصر الرمادي".
كانوا يحتَدون على جدي الذي "من الممكن أن يقضى على مستقبل العائلة كلها من أجل صفقة أكثر أو صفقة أقل". وكانت خالتي بينيديتا تتوسل إليهم بأن يلزموا الصمت ورغم ذلك كانت تريد أن تركب القطار مهما كلفها الأمر لتقيم في فلورنسا "عند مارجريتا، حتى تمر فترة الحرب...". أما جدى فكان هو الوحيد الذى يشعر بطمأنينة ويقول: سوف ترون أنه لن يحدث شيء. ثم أنه حتى وإن حدث وقامت الحرب، احم، فسينسحب النمساويون إلى الجبال وسنصبح هنا فى إيطاليا فى الحال. فموقعنا هنا ليس بالموقع المناسب لإطلاق النيران...
وفي تلك الأثناء كانت المدينة تعج بالجنود إذ تصل إليها فى كل يوم فرقة جنود جديدة تمر فى الطريق مصحوبة بموسيقى نحاسية عسكرية صاخبة وتتمركز داخل المعسكرات. حتى الكنائس عسكروا فيها وفى الميدان الصغير الذى يقع خلف منزلنا بالضبط والمسمى الآن باسم ميدان باتيستى تحول مقر النادى الرياضى إلى معسكر "لأحد سرايا" الجنود الكروات.
كنت أرقبهم دائما من المطبخ أثناء تواجدهم فى فناء النادى؛ كان عددهم هائلاً حتى بدا وكأنهم يمكثون فى الفناء عن قصد، ليل نهار، فالحجرات بالتأكيد لم تعد تتسع لهم جميعاً.
ولم نعد نرى فى الطرقات إلا الضباط الذين يدقون بقبضات أيديهم على مناضد المقاهى ويدعون الفتيات لمشاركتهم الشراب ثم ينفجرون فى الضحك وتشاركهن الفتيات. كان أحدهم صديقاً لنا وكثيراً ما يتردد على بيتنا ويُجلسنى على ساقيه ويتوعدنى، وهو يعبث في أنفه، قائلا: سوف ترى، أيها الإيطالي الصغير، أنك ستقع فى الأسر على يدى إذا ما أعلن هؤلاء الحرب علينا. وإذ كنت أعتقد أنه يمزح معى كنت أرد عليه قائلا أننى سأنجح فى الهروب وسأقتله وأستولي على العلم. وفى إحدى المرات سمعته يدندن فى حجرة الجلوس بأغنية:
تحت الكوبرى، تحت كوبرى ريألتو
سنرفع سنرفع علم إيطاليا
يا تريسته يا تريسته يا حبيبة قلبى؛...
لم تكن تلك هى المرة الأولى التى أسمع فيها تلك الأغنية، فحتى أصدقائى كانوا يهمسون بأحد مقاطعها وابنة خالي هي الأخرى كانت تحفظها كلها عن ظهر قلب. ولا أعرف لماذا كانت الدموع تملأ عينى فى كل مرة أسمعها فيها، كانت تحدث في نفسي نفس أثر قصص العشاق، مثل قصة "لن يرحل بيبَى، فسوف أخذ أنا مكانه". وكانت مسألة رفع علم إيطاليا تحت كوبرى ريألتو تشعل رأسى بشكوك ومشكلات أعجز عن حلها.
يتبع..
• إيليو فيتوريني (23 يوليو 1908- 12 فبراير 1966) ولد إيليو فيتوريني في مدينة سيراكوزا بجزيرة صقلية عام 1908 وهو أحد كبار الروائيين الإيطاليين التي عرفتهم ميلانو في العصر الحديث والذين اعتمدوا على موهبتهم في تحصيل المعارف. كان فيتوريني مسئولا عن إحدى السلاسل الروائية التى تصدرها كبرى دور النشر فى ميلانو، دار نشر موندادورى.
عمل فيتوريني في الصحافة الأدبية في العهد الفاشيستي ولكن الفاشيون قاوموه ومنعوا نشر بعض أعماله حرصا منهم على اقتصار دور الأدب على معالجة القضايا الإقليمية وعدم الانفتاح على التيارات الفكرية والأدبية التي تولي اهتماما لقضايا الانسان بوجه عام.
ومن أشهر رواياته رواية "حديث فى صقلية" عام 1941، وتعد من عيون الأدب الإيطالي في القرن العشرين، ورواية "رجال ولا رجال" عام 1949، و"نساء مسينا" عام 1949، وغيرها. وقد تمت ترجمة رواياته المتعددة إلى لغات كثيرة في الغرب، كما أنه هو نفسه من كبار المترجمين عن اللغة الإنجليزية. وتوفي الأديب الراحل في مدينة ميلانو عام 1966.
|