القاهرة 27 يوليو 2022 الساعة 02:14 م
بقلم: أحمد محمد صلاح
اختلف المؤرخون حول أسبقية الحضارة المصرية القديمة، أم حضارة ما بين النهرين أو حضارة الرافدين، وحاول البعض أن ينسب إلى كل حضارة سبقها على الآخر، ولكن وحتى كتابة هذه السطور، لم تظهر أدلة قاطعة تقول بأن حضارة ما بين النهرين قد سبقت الحضارة المصرية، والأسباب واضحة وجلية للباحث الذي يحاول أن يفتش في غياهب كتب التاريخ، وإن كان هذا المبحث ليس هدفنا.
ولكن الفن هو جزء أصيل ولا يتجزأ من فكرة الحضارة كلها عموما، ولا أذهب بعيدا إذا قلت إن الفن هو جوهر الحضارة والباقي منها إذا اندثرت الحضارة نفسها، فشواهد الآثار المصرية القديمة هي ما تبقى من الحضارة في حين اختفت باقي العلوم إلا قليلا واضطررنا أن نستنتج الكثير من تلك العلوم مثل الطب والتحنيط من خلال فنون الحضارة المصرية القديمة، ومازلنا ننتظر أن تظهر على سطح الأرض آثار تحدد لنا بالضبط من الذي سبق الآخر.
ولنعود إلى مسألة الفنون في أرض ما بين النهرين، وعند البحث ستواجهنا مشكلة، فحضارة ما بين النهرين كانت مبنية في الأساس علي التجارة والصناعة، والمالية والائتمان، أما الفن فقد كان له طابع صارم في نظامه، وأيضا أقل منه دينامية وقابلية للتغيير، ففي استطاعتنا أن نستدل من قانون حامورابي الذي يرجع تاريخه إلى الألف الثالثة قبل الميلاد على أن التجارة والحرف القيديوية مثل مسك الدفاتر والائتمان كانت قد بلغت درجة عالية من التقدم في بابل، بل كانت تجري معاملات مصرفية معقدة نسبيا، مثل المدفوعات لطرف ثالث والتسوية المتبادلة بين الحسابات، وكانت التجارة المالية أعظم تقدما مما كانت في عليه في مصر بكثير، ونستطيع أن نطلق على أهل بابل ببساطة لقب رجال الأعمال.
من تلك الكلمات التي طرحها أرنولد هاوزر في كتابه "الفن والمجتمع عبر التاريخ" نستنبط أن أهل منطقة ما بين النهرين كانوا يجيدون التجارة والصناعة وما ترتب عليها من شئون تجارية ومالية أدت إلى أن يصبح أهل تلك الحضارة متمرسين أكثر في تلك الأمور، مما جعلهم يحيدون قليلا عن الفن، أو بمعنى آخر أن يتحول الفن في بلاد ما بين النهرين إلى فن لمجرد التوثيق.
كان التنظيم الشكلي الصارم في الفن البابلي يرتبط باقتصاد أكثر مرونة وأقرب إلى الطابع الحضري، وقد يكون هذا الفن الصارم نابع أيضا من التقاليد الرزينة الأكثر تزمتا التي عاقت التأثير التحرري للفن البابلي، واقتصر الفن على البلاط والمعبد وعدم وجود أي جانب يمكن أن يكون له إي تأثير في ممارسة الفن فيما عدا الحاكم والكهنة، بل أن فن الفلاحين وأنواع الفنون الثانوية الأكثر شعبية كان لها في بلاد ما بين النهرين دور أقل مما كان لها في البلاد المتمدينة الأخرى بالشرق القديم، كما أن النشاط الفني كان أبعد عن الطابع الشخصي، فنحن لا نكاد نعرف أي اسم من أسماء الفنانين في بابل، كما أن تاريخ الفن البابلي ينقسم تبعا لعهود الملوك فحسب ولم يكن هناك تمييز لا في المصطلح ولا في الممارسة الفعلية بين الفن والصنعة، بل أن قانون حامورابي يذكر اسم المعماري والفنان بجوار الحداد وصانع الأحذية.
كانت النزعة العقلية التجريدية تمارس في الفن البابلي والآشوري على نطاق واسع مما كانت تمارس عليه في الفن المصري، فعرض الهيئة البشرية سواء في التصوير أو النحت كان به صرامة عجيبة، حيث أظهر فنان بلاد الرافدين الأجزاء المميزة في الوجه بشكل كبير مثل الأنف والعينين، في حين جعل الجبهة شديدة الصغر أو دون أهمية على الطلاق.
وخلاصة القول في هذا المبحث إن فن ما بين النهرين قد تأثر كثيرا بالنزعة العقلية الصارمة، عكس الحضارة المصرية التي ازدهرت فيها علوم الفلك والطب، وكذلك الشعر والأدب مما انعكس بالضرورة على الفنون المختلفة، أما في بلاد ما بين النهرين فقد كانت السمة الغالبة الصرامة والواقعية الشديدة، وهو ما أدى إلى اندثار -إن صح القول- الكثير من آثار هذه الفترات المتعاقبة للحضارة على هذه الأرض، ولم يتبق لنا إلا بعض الشواهد البسيطة التي لا تغني عن الطلب، لو قورنت بالحضارة المصرية.
|