القاهرة 26 يوليو 2022 الساعة 11:00 ص
كتبت: زينب عيسي
مثلت ثورة يوليو نقلة نوعية اختلفت وتباينت عما قبلها تاريخيًا وعما بعدها أيضا، سواء على الصعيد السياسي بتغير نظام الحكم، أو على الصعيد الاجتماعي والفكري والثقافي، ومع انبثاق فجرها كان المشهد الثقافي في مصر لا يختلف عن مشهدها السياسي؛ يموج بالصراع الفكري بين مختلف تيارات الإبداع والنقد، ما بين القديم والتجديد، والاستعمار والتحرر، والتيارات الفكرية اليمينية واليسارية، والرأسمالية والاشتراكية، والمحلية والقومية، والوطنية والتغريب، وهو ما انعكس فكريا في مختلف الجوانب الثقافية، تتصارع فيها أحدث الاتجاهات الأدبية والفنية والفكرية على صفحات الصحف والمجلات والكتب، حتى إذا ما جاءت ثورة يوليو، اختطت لنفسها سياسة تُعـبر عن دور الدولة، وهو الأمر الذي كان قد تفتت قبلها ما بين صراعات الاحتلال والقصر والأحزاب..
حول دور ثورة يوليو 1952 في خلق مشهد ثقافي جديد يضم مشروعات فكرية عملاقة ألقت بظلالها على الحركة الثقافية في مصر حتى الآن، تشير نهال خلف الميري الباحثة بمركز تاريخ مصر المعاصر إلى أن الثورة استحدثت مؤسسات ثقافية على المستوى القومي بعدما أدركت حاجتها أولا إلى جهاز إعلامي يوضح مبادئها ويدعو إليها ويعرف باتجاهاتها السياسية والاقتصادية ومشروعاتها؛ فبادرت بإنشاء "وزارة الإرشاد القومي"، ووضعت ضمنها الأجهزة الثقافية التي تطورت فيما بعد لتصبح عام 1958 وزارة الثقافة والإرشاد القومي، إلى أن استقر مسماها على وزارة الثقافة عام 1966.
• الثورة والمقاومة الفكرية:
وتشير "الميري "خلال دراستها لنيل درجة الماجستير التي نالتها بامتياز تحت عنوان "الحياة الثقافية والمثقفون في مصر 1952-1970"، ان مصر بطبيعتها نبع ثقافي ومنتج حضاري على مر التاريخ، وإن تراجعت تلك المسيرة في بعض الفترات والعهود، ولكنها ظلت فاعلة حتى في أحلك الظروف التي مرت بها، وقد لعب ذلك التفاعل الثقافي والحضاري دوره في وعي المجتمع وإدراكه لاحتياجاته السياسية.
وتُعد ثورة 23 يوليو صورة من ذلك الوعي الذاتي والتفاعل الوطني مع الهوية المصرية، وقادتها هم نتاج جيل ثورة 1919، ذلك الجيل الذي تربى في أحضان ثورية أغانى سيد درويش، ولذلك فإن علاقتهم بالثقافة وأدواتها جاءت نتيجة إيمانهم بالمقاومة الفكرية التي كانت بين ثنيات الإنتاج الأدبي؛ فلم تكن النظرة للفن على اعتباره ترفًا جماليًا، بل كانت ضرورة حيوية للارتقاء بالذوق العام للشعب ولترقية إحساسه بالجمال وتأكيد الانتماء القومي بداخله، فلا شيء يفوق الفن قدرة على تحقيق الهوية والانتماء، والصراع السياسي والبناء الاقتصادي لابد لهما من روح قوية، لا يتم بناؤها إلا بالفن والثقافة، فهي إحدى ركائزه في تغيير المجتمع بوصفها عاملا فعالا ورئيسيا في تكوين السياسة الشاملة للتنمية.
ورأى صناع القرار في الثورة أن رعايتها للإنتاج الأدبي والفني، واجب ألقته على عاتقها؛ ومن الضروري جدا تشجيع الإنتاج الذهني أيا كان لونه، وأن تُعين على تحقيق إنتاج أدبي وفني يتفق مع المُثـل العليا حتى يرتقي عن طريقها إلى مدارج الحضارة، فكيان الشعب مادة وروح يجب أن تحميه من سموم الفكر ومخدرات الوجدان، ومن الأدب الذي يستغل النزعات الفاسدة، إلى الفن الذي يمالئ الغرائز الدنيا، فالدولة حامية الذوق والأخلاق، كما هي حامية الاقتصاد والصحة البدنة والعقلية، فجعلت من الثقافة أداة إعلامية لتوجيه الشعب نحوها.
وعلى الرغم من انقسام الرؤي للثقافة كمفهوم بين الضباط الأحرار لاعتبارها غاية إنسانية؛ أم أداة إيديولوجية، إلا أنهم اجتمعوا في البداية على اقتراح فتحي رضوان حول ضرورة إنشاء جهاز دعاية لأهدافهم، ويُعَرف المجتمع على مبادئ الثورة حتى يسهل التخلص من القوى الرجعية، كما أن الأمر بات متعلقا بتجميع الشعب على غاية أساسية هي التخلص من الاستعمار؛ ليس هذا فحسب، وإنما إيجاد حلقة وصل بين القيادة الجديدة والشعب.
• الثورة والمشروعات الثقافية:
وتستطرد الباحثة في مركز تاريخ مصر المعاصر أنه قد تم إنشاء وزارة الإرشاد القومي عام 1952 حتى تنتفع الدعاية من منتجات الثقافة المختلفة؛ فكانت من وجهة نظر مؤسسها فتحي رضوان لا يمكن تجردها عن الفن والثقافة، فالفكرة تقدم بعد أن تُغلف بغلاف فني جميل، فالعمل الثقافي الجيد هو خير دعاية، فالتغيرات التي صاحبت قيام الثورة وما نتج عنها من الإطاحة بالنظام الملكي والقضاء على الرأسمالية وكبار الملاك كانت تغيرات جذرية في التكوين السياسي والبناء الاقتصادي والعلاقات الاجتماعية، أي فيما يسمي بالقوام الأساسي لكيان الدولة الجديدة، لذلك كان لابد وأن يصاحبها تغيير في الكيان الأعلى، وهو الكيان المعنوي الذي يتضمن ما نسميه بالقوام الثقافي.
ومع استقرار السلطة في يد جمال عبد الناصر، بات الأمر أكثر تنسيقا؛ وغدت الثقافة جزءا لا يتجزأ من سياسة الدولة؛ حيث كان حريصًا على دعم المشروعات الثقافية مؤمنًا بأن ازدهار الثقافة يؤدي في مجال الفكر، ما يؤديه التصنيع الثقيل في قطاع الصناعة، وصارت صناعة حيوية يجب استثمارها بالتوازي مع الخطة الخماسية للتنمية، فتنمية أدوات الثقافة وسيلة لخلق حوار ثقافي عام وفقا للمتطلبات السياسية لتنمية ثقافية متوازنة، وبذلك تكون الثقافة صناعة من خلال الخصائص والاحتياجات الخاصة بكل مجتمع من أجل تنمية ثقافية حقيقية.
• الثقافة صناعة حيوية:
واستجاب لمطالب المثقفين وفي مقدمتهم "طه حسين"، بأن يكون للثقافة مجلس، وإنشاء المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب عام1956 (المجلس الأعلى للثقافة حاليا)، ليقوم بتنسيق جهود الهيئات في ميادين الفنون والآداب، ويرتقي بمستوي الإنتاج الفكري في مجالات الفنون والآداب، ويبحث عن الوسائل التي تؤدي إلى تنشئة أجيال من أهل الأدب والفنون يستشعرون الحاجة إلى إبراز الطابع القومي، وقد سبقها في الإنشاء مصلحة الفنون عام 1955، وكلاهما كانا نواة لمشروع ثقافي مرسومً بعناية، وكلّل نجاحه عام 1958، حيث ظهرت الثقافة للمرة الأولى كوزارة، فعدل الاسم من وزارة الإرشاد القومي إلى وزارة الثقافة والإرشاد القومي وتولى مهمتها د. ثروت عكاشة، وضم إليها الديوان العام، مصلحة الفنون، الإدارة العامة للشئون الثقافية، مركز الفنون الشعبية، مركز الوثائق التاريخية، مؤسسة دعم السينما، ومصلحة الآثار ومركز تسجيل الأثار المصرية، ومؤسسة الثقافة الشعبية، ودار الكتب بالقاهرة ونقلت مطبعتها من وزارة التربية والتعليم، كما نقل إليها من الإدارة العامة للثقافة بوزارة التربية والتعليم عدة أقسام وهي: قسم التأليف والترجمة، قسم نشر التراث القديم ودائرة المعارف، قسم النشرة الثقافية والمحاضرات والندوات، شراء مقتنيات فنية وجوائز الفنانين، ومن الإدارة العامة للفنون الجميلة اقسام أخرى هي:
قسم المتاحف (متحف الفن الحديث)، قسم الفنون التشكيلية والتطبيقية، مركز إحياء الفنون القديمة، قسم المعارض الدولية والمحلية في مصر والخارج، قسم مراسم الفنانين، قسم الأدلاء والتراجمة، مصنع صب القوالب، ومعهد التمثيل المسائي والنهاري (المعهد العالي للفنون المسرحية)، ومعهد الموسيقى العربية، وانتقل إليها من مصلحة السياحة بوزارة الاقتصاد والتجارة كل من متحف الحضارة، متحف الجزيرة، متحف بيت الأمة، ضريح مصطفي كامل.
وبذلك بدأت علاقة الثورة بالثقافة تأخذ شكلًا آخر، وقد أوضح د. عكاشة ذلك بقوله: "فلما تمكنت الثورة من تأمين ظهرها ضد خصومها وضد أعدائها في الداخل والخارج معًا، اتجهت إلى الثقافة تؤمنها بدورها؛" فأخذ يرسم سياسته الثقافية كجزء من التنمية الشاملة للدولة، وقد راعي فيها إقامة المشروعات الثقافية الكبري التي لا يقوى لها الأفراد، وذلك وفقًا لتوصيات اللجنة العليا للمؤتمر العام للثقافة والفنون.
ومن تلك المشروعات الثقافية "مؤسسة فنون المسرح والموسيقى" عام 1959، والتي عُنيت بالنهوض بالمسرح والموسيقى، وتشجيع المواهب الجديدة، والعمل على تبادل الفرق القومية مع الفرق الأجنبية، وضم إليها الفنون الشعبية، لتصبح عام 1969 الهيئة العامة للمسرح والموسيقى والفنون الشعبية.
و"المؤسسة المصرية العامة لدعم السينما" من أجل دعم السينما في مصر وتشجيع عرض الأفلام المصرية في داخل البلاد وخارجها، وإقراض المشتعلين بالإنتاج السينمائي، وتشجيع البحث والتأليف والترجمة في فنون السينما، وقد تم دمجها مع المؤسسة المصرية العامة للإذاعة والتليفزيون وسميت بالمؤسسة المصرية العامة للسينما والإذاعة والتلفزيون.
• خطة ثقافية طويلة المدي:
ولعل أبرز ما قدمته الثورة للثقافة من مشاريع وفق نهال الميري إنشاء "أكاديمية الفنون"، و "المعاهد الفنية التعليمية" فلم تكن مجرد مرحلة في التأريخ لعلاقة الثورة بالفنون أو محطة من محطات تطور وزارة الثقافة بل كانت الخطة الطويلة المدى الأكثر تأثيرا، فمحال أن تتم منجزات ثقافية أو تقام صروح للثقافة دون أن تؤسس على دعائم وطيدة مُحْكمة التخطيط؛ وحتي تكتمل أركان رفع مستوى الثقافة يجب رفع مستوى المضمون الفكري في الأعمال الفنية دون إغفال الشكل التعبيري، أي بامتلاك أربابها لناصية الفن الذي يعبرون به، وفهمهم الكامل لمقاييسه العملية النقدية واستيعابهم لأسسه وخبراته العالمية إلى الحد الذي يؤهل العمل الثقافي ليدلي بدلوه، لذا كانت حتمية إقامة المعاهد الفنية، وعلى ذلك صدر قرار رقم 1439 لسنة 1959، بإنشاء معهد الفنون المسرحية ومعهد السينما، والمعهد القومي للموسيقى (الكونسرفاتوار)، ومدرسة الباليه، وكذلك أنشئت شعبة للدراسات الموسيقية العربية تبعت المعهد القومي العالي للموسيقى.
بالإضافة إلى ذلك أنشئت "المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة والطباعة والنشر" (الهيئة العامة للكتاب فيما بعد)، و"مشروع قصور وبيوت للثقافة بالأقاليم" (الهيئة العامة لقصور الثقافة فيما بعد)، وغيرها من مشاريع قدمت لسد رمق المجتمع المصري من احتياجاته الثقافية، فبات حلم الوصول بالثقافة بصورها كافة إلى النجوع والقرى هو الشغل الشاغل وقتئذ؛ مسايرة لأهداف الدولة الاشتراكية، كما بدأ الحلم القومي يتبلور وبدت الصورة تتضح في العمل على إحياء التراث القومي، والانفتاح على العالم كدولة حضارية متطورة تفرض مكانتها بين الأمم.
|