القاهرة 16 يوليو 2022 الساعة 12:30 م

قصة: أوكتابيو باث - المكسيك ( نوبل للآداب عام 1990)
ترجمة: أسامة الزغبي
استيقظت مبللا بالعرق. يتصاعد من الطابق المكون من الطوب الأحمر المرشوش بالماء لتوه، بخارا ساخنا. تحوم فراشة رمادية اللون مذعورة حول الجذوة الصفراء.
قفزت من السرير وقطعت الغرفة حافيا، متفاديا عدم وطء أي عقرب خارجا من جحره لاستنشاق الهواء المنعش. اقتربت من الشباك واستنشقت عبير الحقول. كان يُسمع صوت الليل، بقوة، وبنغمة أنثوية.
عدت لمنتصف الغرفة، أفرغت ماء القارورة في الحوض المعدني وبللت الفوطة. مسحت ظهري وأرجلي بالخرقة المبللة، جففت نفسي قليلا، وبعد أن تأكدت من عدم اختفاء أية حشرة في طيات ملابسي، ارتديتها وأيضا حذائي.
نزلت قفزا فوق السلم المطلي باللون الأخضر. تقابلت مع مالك الفندق عند الباب، شخص أعور ومتحفظ. جالسا فوق كرسي من خشب الصنوبر، يدخن بعين نصف مفتوحة.
سألني بصوت أجش:
ـــ إلى أين أنت ذاهب سيدي؟
ــــ سأتجول، فالجو شديد الحرارة.
ــــ كل شيء مغلق. ولا توجد إنارة هنا. من الأفضل لك أن تمكث.
هززت أكتافي، تمتمت "سأعود في التو" ودلفت في الظلام.
في البداية لم أكن أرى شيئا. سرت متحسسا خطواتي في الشارع المرصوف. أشعلت سيجارة. سريعا ظهر القمر من خلف سحابة سوداء، مضيئا جدار أبيض، متداع.
توقفت، مصابا بالعمي المؤقت بسبب البياض الناصع. هبت رياح قليلة. تشممت عبير التمر الهندي. هدوء الليل تقطعه أصوات الحشرات والأوراق. تسكن صراصير الليل الأعشاب العالية.
رفعت وجهي: فوجدت أن النجوم أيضا قد أقامت معسكرات. تخيلت أن الكون عبارة عن نظام متسع من الإشارات، حوار بين مخلوقات عديدة. وأن حركاتي، وصوت الصرصار، ووميض النجمة، ليسوا سوى وقفات ومقاطع، وعبارات متناثرة في هذا الحوار.
ــ ما هي تلك الكلمة التي أكوّن مقطعا منها؟ من يتفوه بها وإلى من يوجهها؟
ألقيت السيجارة على الرصيف. عند وقوعها، صنعت استدارة مضيئة، تاركة شرارات قصيرة العمر، مثل مذنب صغير.
مشيت فترة طويلة، ببطء. كنت أشعر بالحرية، أمناً بين الشفاه التي تنطق اسمي في تلك اللحظة بسعادة غامرة. كان الليل عبارة عن بستان من العيون. عند عبور الشارع، شعرت بأن أحدا يخرج من باب. التفت، لكن لم أستوضح شيئا.
أسرعت الخطى. حدست وقع خطوات بعد لحظات فوق الأحجار الساخنة. لم أرغب في الالتفات، على الرغم من شعوري بأن الظل يقترب أكثر. نويت الجري. لم أتمكن. وقفت فجأة، بصورة حادة. قبل أن أتمكن من الدفاع عن نفسي، شعرت بنصل سكين في ظهري وصوت رقيق:
ــ لا تتحرك، سيدي، وإلا دفنتك حيا.
دون أن ألتفت للوجه سألت:
ــ ماذا تريد؟
ــ عيونك يا سيدي، أجاب الصوت الرقيق، بتحفظ.
ــ عيوني، بماذا ستفيدك عيوني؟ اسمع، لدي بعض المال. ليس بالكثير، لكنه يفي بالحاجة. سأعطيك كل ما أملك، إذا تركتني. لا تقتلني.
ــ لا تخف، سيدي، لن أقتلك. سأقتلع عينيك فقط.
ــ لكن، لماذا تريد عيني؟
ــ رغبة خطيبتي. ترغب في باقة من العيون الزرقاء ولا يوجد كثيرون هنا بعيون زرقاء.
ــ لن تفيدك عيوني. ليست زرقاء بل صفراء.
ــ لا تخدعني، سيدي، أعرف جيدا أنها زرقاء.
ــ لا يجوز فقأ عيون رجل مسيحي هكذا. سأعطيك شيئا آخر.
ــ لا تتعبني، قالها لي بحدة، استدرت.
التفت. كان صغير الحجم وضعيف البنية. تغطي القبعة المصنوعة من السعف نصف وجهه. يقبض ذراعه الأيمن على منجل زراعي، يلمع بسبب ضوء القمر.
ـــ أرني وجهك.
أشعلت النار وقربتها من وجهي. جعلني الوهج أغمض عيني. فتح جفوني بيد قوية. لم أكن أستطيع الرؤية جيدا. وقف على أطراف أصابعه وتأملني بدقة. كانت الشعلة تحرق أصابعي. رميتها. ظل صامتا للحظة.
ــ هل اقتنعت؟ إنها ليست زرقاء.
ــ يالك من مراوغ ــ رد ـ لنرى، أضِئْ مرة أخرى.
حككت عود ثقاب وقربته من عيني. أمسكني من كُم القميص، أمرني:
ــ اركع.
ركعت، أمسكني من شعري بيديه، أعاد رأسي للوراء. جثم فوقي، بفضول وقوة، بينما يقترب المنجل ببطء حتى لامس رموشي. أغمضت عيني.
ــ افتحهم جيدا، أمر.
فتحت عيني. كانت الشعلة تحرق أهدابي. تركني فجأة.
ــ ليست زرقاء سيدي، ارحل.
ثم اختفى.
استندت للحائط، رأسي بين راحتي. ثم رحلت. متعثرا بين السقوط والنهوض، جريت طيلة ساعة في القرية الصحراوية. عندما وصلت للميدان، رأيت مالك الفندق، لا يزال جالسا أمام الباب.
دخلت دون أن أتفوه بشيء.
في اليوم التالي هربت من القرية.
|