القاهرة 12 يوليو 2022 الساعة 01:17 م

بقلم: مخلف الكعبي
كانت المفاهيم التي ظهرت في حقلي النقد الفني والأدبي، خلال النصف الثاني من القرن العشرين، على صلة وثيقة بالمفاهيم الفلسفية التي ظهرت خلال هذا القرن، والتي نتجت عن التغيرات العديدة التي لحقت البنى المعرفية التي سادت إبان العصر الحديث. وكان من نتائج تلك الصلة ذلك التداخل المعرفي الذي حدث بين العديد من الحقول المعرفية؛ الفلسفة وعلمي الاجتماع والنفس ومجالي النقد الفني والأدبي. والواقع أن هذا الأمر قد أدى إلى صعوبة في تصنيف مفكري النصف الثاني من القرن العشرين وفقا للحقول المعرفية التي ينتمون إليها؛ فتحت أي حقل معرفي يمكن إدراج كل من رولان بارت وميشال فوكوM. Foucault (1926- 1984) وجورج باتاي G. Bataille (1897- 1962) وجاك دريدا J. Derrida (1930- 2004) وجاك لاكان J. Lacan (1901- 1981) ؟! )الفلسفة، النقد الأدبي، علم الاجتماع، علم النفس، النقد الثقافي....إلخ.( هي مسألة محيرة، لكنها في الوقت ذاته مؤشر مهم يدل على أن الحدود الفاصلة بين الحقول المعرفية المختلفة قد تلاشت، وأصبح المجال أكثر اتساعا للدراسات البينية التي تقع على التخوم بين مختلف المجالات المعرفية .
يقدم بارت نموذجا لطبيعة الفكر وصورة المفكر في تلك الفترة "إذ يبرز من خلال كتاباته كاتبا متميزا فلا هو بالناقد ولا هو بالفيلسوف ولا هو بالشاعر أو الفنان أو الروائي، ولكنه كل هؤلاء مجتمعين. وبذلك يتجاوز بارت الأكاديمية الجامعية آخذا كل مكتسباتها ونظرياتها، ويدخل على عالم الإبداع محملا بفكر نظري ثاقب، فيجمع بين تلك المهارات ليكسر الحواجز بين الكلمة الشاعرة والكلمة العلمية، ويكون بذلك أبرز مثال حضاري على ثقافة الغرب الفلسفية والأدبية".
لقد ُسئل بارت في إحدى الحوارات التي أجريت معه سؤالا يكشف هذا المعنى، إذ سأله محاوره "لقد لاحظت أن كتبك في المكتبات ليست معروضة في مكان واحد بل هي تتوزع على في أماكن عديدة؛ اللغويات، الفلسفة، علم الاجتماع، الأدب...إلخ. هل يعود هذا التصنيف الملتبس إلى طريقتك في مقاربة الموضوعات؟" فرد قائلا "بلى. لقد كان سارتر ذاته آلة ناسخة عظيمة. كان فيلسوفا، وكاتب مقالة، ومسرحيا، وناقدا...لقد بدأت مكانة الكاتب عند تلك اللحظة تصبح أكثر مرونة...
هناك بعض الدعاوى المنتشرة تلك الأيام إلى شطب أنواع الكتابة التقليدية التي يمكن تصنيفها في اتجاه واحد".
لم تكن أطروحة موت المؤلف، التي صاغها بارت في مقال له يحمل العنوان ذاته، سوى انعكاس لمناخ عام شاع فيه فكرة النهايات، وهي الفكرة التي ظهرت بوادرها في القرن التاسع عشر، وانتشرت بقوة في القرن العشرين، لتصبح تيمة حاضرة باستمرار في فلسفات النصف الثاني من هذا القرن.
وقد عكس هذا الانتشار للفكرة شعورا عاما لدى الغرب آنذاك بفقدان الثقة في المقولات التي تأسس عليها المشروع الحداثي الغربي، فجاءت فكرة النهايات لتعلن موت تلك المقولات وضرورة استبدالها بمقولات بديلة تصلح لطبيعة تلك المرحلة. ربما بدأت فكرة النهايات في الظهور بعد وفاة هيجل من خلال تلاميذه، فقد قال إريك فيل Eric Weil "أن هيجل Hegel قد وضع للفلسفة نقطة النهاية" .
وقد أعلن اشبنجلر Spengler (1880- 1936) بعد ذلك صراحة نهاية الغرب Western Der Untergang des أو أفوله. ثم جاء نيتشه Nietzsche (1846- 1900) ليزكي تلك الروح عندما أعلن "موت الإله" Gott ist tot. كما كتب بنيامين Walter Benjamin عن نهاية الفن في عصر الإنتاج الآلي، وأسس هيدجرHeidegger (1989- 1976) مشروعه الفلسفي على "تقويض الميتافيزيقا"، وأعلن فوكو "موت الإنسان"، كما أعلن رورتى Rorty (1931- 2007) "نهاية الفلسفة النسقية"، وكتب فوكوياما Fukuyama (1952- ) بعد ذلك نهاية التاريخ The End of History وفي نفس السياق حاول فاتيمو Vattimo (1936- ) حصر توجهات النصف الثاني من القرن العشرين الفكرية في خمسة مبادئ رئيسة؛ نهاية الفن وأفوله- موت النزعة الإنسانية- العدمية- نهاية التاريخ- تجاوز الميتافيزيقا. وهي كلها تنويع على فكرة النهايات. لا يوجد علم أو فلسفة أو فن بل إعلان النهاية لكل شيء، دق أجراس الموت، كما يشير عنوان أحد مؤلفات دريدا.
هذا هو السياق العام إذن الذي وضع فيه بارت أطروحته عن موت المؤلف، وبالتالي فقد جاءت تلك الأطروحة ملائمة تماما للحظة الثقافية التي تم صياغتها فيها. وهي كما سنرى كان لها أصولها الفلسفية الواضحة:
• من موت الإله إلى موت المؤلف
اٌفتتح القرن العشرون بوفاة نيتشه في العام 1900 بعد أن صاغ أطروحته الشهيرة "موت الإله" وقدمها في كتابه العلم المرح. والواقع أن تلك الأطروحة لم تؤثر فقط على المجال الميتافيزيقي، بل كان لها تأثير مماثل على مفهوم المركزية ومنطق الهوية اللذين سادا الفكر الغربي ردحا طويلا من الزمن. فمفهوم المركز يعني أن ثمة أصل أو نموذج رئيس تدور حوله المعارف والنشاطات الإنسانية المختلفة. وهذا المركز أو النواة يختلف باختلاف العصور والأزمنة. وقد ظل تصور الإله أو الكائن المفارق مسيطرة على الذهن البشري ومركزا تدور أفكاره حوله. حتى الفلسفات الحديثة التي اتخذت موقفا مناهضا أو ناقدا لهذا التصور، ظل معظمها يدور حوله بطريقة لا واعية، إذ أنها كانت تقدم ذاتها كبديل لهذا التصور من خلال نقده، ما يجعله حاضرا باستمرار كنموذج يتم معارضته بنموذج آخر، إنها تلك الثنائية التي يعد أحدها شرط لوجود الآخر.
لقد حاول نيتشه الخروج من تلك الثنائية من خلال إعلانه موت الإله والنتيجة أن المركز ذاته قد تلاشي، أما نتائج ذلك فهي جد عظيمة، وربما استطاع نيتشه أن يعبر عن ذلك أفضل تعبير في القسم125 من كتابه العلم المرح Die fröhliche Wissenschaft (1882) عندما صور الأمر على شكل حدث كالتالي "يدخل رجل مجنون إلي ساحة السوق بحثاً عن الإله، ويسخر منه كل أولئك الذين لا يؤمنون بوجود إله. "أين هو الإله؟
يبكي..سوف أخبرك، لقد قتلناه، أنا وأنت، كل منا قاتله". ويستمر في تأكيده علي الآثار الكارثية لهذه الفاجعة "لقد محونا الأفق كله"، "لقد حررنا هذه الأرض من شمسها" لقد أرسلناها "باستمرار إلي القاع..وإلي الوراء ..إلي الجنب وإلي الإمام، في كل الاتجاهات...ألا زال هناك أي شروق أو غروب؟". لقد أصبح عالمنا أكثر برودة، ونحن أناس "قتلة كل القتلة"، تُركنا دون أية طريقة لتطهير أنفسنا. وعندما ينهي الرجل المجنون حكمته، تحدق فيه الجماهير وتتملكهم الدهشة، يصرح قائلاً:
"لقد جئت مبكراً...لم يحن وقتي بعد ... هذا الفعل لا يزال بعيداً عنهم أكثر ما تبعد أقاصي النجوم– ومع ذلك فإنكم قد فعلتموه بأيديكم".
ما قام به نيتشه هنا هو أنه قتل الإله من أجل إحياء العالم "لقد فصلنا حقيقة هذا العالم عن فكرة أن الإله قد خلقه" ونتيجة ذلك انفتاح العالم على الإنسان، لكن هذا الانفتاح ما زال يفتقد البوصلة الموجهة له، بحسب نيتشه، لأنه يحتاج إلى نسق قيمي جديد يحل محل النسق القديم المؤسس على فكرة الإله. وقد حاول نيتشه عبر مؤلفاته اكتشاف هذا النسق الجديد من أجل ترسيخه، وهو نسق يستمد معاييره من عالم الحياة لا من عالم مفارق.
• هل ثمة علاقة بين ما قام به نيتشه في مجال الميتافيزيقا وبين ما قام به بارت في مجال النص؟
لم يفصل نيتشه بين حضور الميتافيزيقا ومقولاتها وبين اللغة المستعملة، فقد وجد نيتشه أن هناك قوى تقف وراء عملية إنتاج المعاني، هذه القوى تهدف إلى الإخضاع والسيطرة.
وما تفعله الميتافيزيقا هو اختزال تلك القوى، وحصر المعنى في الألفاظ اللغوية التي تحد المعنى وتختزله في إطار معين. لهذا فقد رأى نيتشه أن اللغة هي معقل الميتافيزيقا. ففي اللغة فقط تجد مفاهيم الوجود والجوهر والهوية إمكانية دوامها وخلودها. إن الميتافيزيقا تنظر إلى الألفاظ اللغوية كوعاء يحفظ للمعاني أزليتها وُيبقي على تطابقها. فبدلا من أن ترى في العلامة مكان للاختلاف والتعدد والتأويل، ترى فيه على العكس من ذلك مناسبة لحضور المعنى. من هنا تصبح اللغة ذاتها فعل سلطة، صادرا عمن بيده الهيمنة. وقد سعى نيتشه من وراء التاريخ الذي يقيمه للميتافيزيقا، التوصل إلى منظومة القيم التي حكمت هذا التاريخ، البنية التي وضعت المعاني وأطلقت الاسماء وأولت العالم ولونته. من هنا تصبح استراتيجية التسمية استراتيجية هيمنة وتسلط.
في الواقع لم يفعل بارت سوى استكمال ما قام به نيتشه ودعا إليه، فموت المؤلف هو ذاته موت الآلهة، والنتائج التي ترتبت على أطروحة بارت في مجال النقد الأدبي ونظرية التلقي الجمالي تتشابه مع تلك النتائج التي ترتبت على أطروحة نيتشه في مجال الميتافيزيقا ونظرية الوجود. أما النسق القيمي الذي حاول نيتشه التأسيس له وإحلاله محل النسق القيمي القديم، فهو ما قام به بارت من خلال التأسيس لقواعد جديدة للتعامل مع النص الأدبي محل القواعد التي كان معمولا بها من قبل في حقل النقد الأدبي، وقد كتب بارت في العام 1968 ما يلي "نعرف الآن أن النص ليس مجرد مجموعة من الكلمات التي تحرر معنىً "لاهوتياً" وحيداً (إله- رسالة- نبي) بل هو حيز متعدد الأبعاد تمتزج فيه وتتصادم تنويعات من الكتابة، ليس منها ما كتب في الأصل".
إن نسبة النص إلى مؤلفه، بحسب بارت، معناه إيقاف النص وحصره وإعطاؤه مدلولاً نهائياً، إنه إغلاق للكتابة، يقول "عندما يأبى الفن النظر إلى العمل الفني كما لو كان ينطوي على سر؛ أي على معنى نهائي، فإن ذلك يولد فعالية يمكن أن نصفها بأنها ضد اللاهوت، وأنها ثورة بالمعنى الحقيقي للكلمة، وذلك أن الامتناع عن حصر المعنى وإيقافه معناه في النهاية رفض الإله ودعائم وجوده".
إن هذا الرفض لمركزية الإله لا ينبغي التعامل معه على المستوى اللفظي، فهو في الأصل تعبير مجازي عن رفض فكرة المركز الذي يدور المعنى حوله، تحرير للنص من أي هيمنة فرضت عليه تسعى لاختزاله في اتجاه ذا بعد واحد.
لعل هذا ما دفع جوناثان كوللر لأن يعنون الفصل الأول من كتابه عن بارت بالإنسان ذو الوجوه المتعددة Man of Parts؛ لكي يوضح أن فكر بارت يمكن تناوله من أكثر من زاوية، ومن قبل العديد من الحقول المعرفية.
Culler, Jonathan: Barthes: A Very Short Introduction, Oxford: Oxford University Press, 2002, p. 1.
الغذامي، عبد الله: الخطيئة والتكفير من البنيوية إلى التشريحية، بيروت: المركز الثقافي العربي، 2006، ص 64.
Barthes, Roland: The Grain of the Voice, Interviews 1962- 1980, Berkeley and Los Angele: University of California Press, 1991, p. 57.
الشيخ، محمد: المثقف والسلطة، بيروت: دار الطليعة، 1999، ص 68.
Vattimo, G: The End of Modernity: Nihilism and Hermeneutics in Postmodern Culture, translated by: Jon R. Snyder, New York: John Hopkins University Press, 1991, p. 205.
Nietzsche, F: the Gay Science, translated by: Walter Kaufmann , New York: Vintage Books, 1974, p. 86.
بنعبد العالي، عبد السلام، أسس الفكر الفلسفي المعاصر: مجاوزة الميتافيزيقا، الدرا البيضاء: دار توبقال،2000، ص 147.
Barthes, Roland: Image, Music, Text, essays selected and translated by: Stephen Heath, New York: Hill and Wang, 1977, p. 146.
Image, Music, Text, Ibid, p. 147.
|