القاهرة 12 يوليو 2022 الساعة 01:01 م

كتب: عاطف محمد عبد المجيد
في كتابها "الأغنية الشعبية في مصر" ترى د. ياسمين فراج أن علاقة الفن بالمجتمع علاقة تبادلية، فدائمًا ما تؤثر الأحداث الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في المبدعين أو العاملين بالحقل الفني، وكذلك تؤثر الفنون في مشاعر وأحاسيس أفراد المجتمع، خاصة الموسيقى والغناء.
"فراج" تنقل عن هيجل قوله الذي يؤكد ما ذهبت إليه، حين قال إن الجميل الفني أسمى من الجميل الطبيعي، لأن الروح هنا تلامس الحساسية.
الكاتبة تذكر أن كتابها هذا يبحث في التغيرات التي طرأت على المجتمع المصري من خلال الأغنية الشعبية المصرية، وتصفه بأنه دراسة خاصة تنتمي إلى علم اجتماع الموسيقى، وهنا تطرح سؤالاً وهو لماذا الأغنية الشعبية؟ وتجيب بأنها هي التي تنبع من أزقة وحارات وضواحي ونجوع وأقاليم مصر، عاكسة القيم الحاكمة لمنتجي وجمهور هذه النوعية من الأغنيات، وتفصح عن منظومة القيم المجتمعية في الفترة الزمنية التي أُنتجت فيها.
الكاتبة ترى كذلك أن مصر قد شهدت في عصرها الحديث أحداثًا جسامًا أثرت على سياسات الدولة والمجتمع تأثيرًا كبيرًا، سواءً أكان بالسلب أم الإيجاب، وفي كل حدث منها تطور شكل ومضمون الأغنية الشعبية وبالتبعية تغيرت جماهيرها.
هنا تورد الكاتبة ما ذهب إليه عالم الاجتماع توماس من أن الناس يتصرفون في الظروف الطبيعية تحت تأثير العادة ويستمرون كذلك في الحياة اليومية، وعندما تواجههم الأزمات تكون هناك حاجة إلى عملية واعية من جانب الفرد، كي يشكل سلوكًا وعادات جديدة، يرتبط بها الفرد بالجماعة، فتنتج عن ذلك الازدواجية الثقافية، التي تظهر في الحاجة الواقعية لتجديد النفس.
• رموز قابلة للتبادل
هنا أيضًا تنقل الكاتبة عن محسن بوعزيزي قوله إن الكلمات والموسيقى ما هي إلا رموز تُقدم في شكل أغانٍ تؤثر في إحساسنا اليومي بالعالم، وهي تتوسط في نقل المعاني والأحداث بشكل رمزي، والرموز تنتقل بين الناس من خلال الاتفاق المتبادل بالكلمات والنغمات والأداء لكي تدل على التجارب التي يمر بها الناس والمجتمع، وتعكس وعي الناس بأنفسهم والعالم المحيط بهم وتعكس طريقة بناء الناس للحقائق أثناء الأداء الشفهي وجهًا لوجه، فيرى بوعزيزي أن الأغنية الشعبية تضع الأحداث الاجتماعية والسياسية في مضمون كلمات ونغمات، تتحول إلى رموز قابلة للتبادل في شكل غير ملحوظ.
هنا فراج ترى أن نوعية الموسيقى والغناء، في أي دولة، تعكس مدى تحضرها أو تخلفها فكريًّا، تمسكها بقيم رجعية سلفية أو قيم تقدمية حديثة ومعاصرة، تعكس راديكالية المجتمعات أو ليبراليتها.
خصائص الأغنية الشعبية
في كتاب "الأغنية الشعبية في مصر" نعرف، من خلال الكاتبة، أن أروين أدمان يقول إن الفن ذكاء إنساني يقوم بدوره في مسرح الطبيعة ويحركها في صدق وإخلاص إلى تحقيق أهداف إنسانية، والحضارة الكاملة قد تتلاقى وتتطابق مع الذكاء والعقل الكامل، والحياة في مثل هذه الحالة قد تناظر الفن، وبقدر ما تكون الحضارة مختلطة النظام، بقدر ما يكون ذلك دليلاً على المدى الذي لا تزال الدوافع العشوائية والعادات التي تجافي العقل تتحكم في أفعالنا وتدبر حياتنا، كما تحاول أن تصل إلى تعريف لمصطلح الأغنية الشعبية، وهي في هذا تنقل عن الباحث البريطاني G. Famsci شرحه لطبيعة الأغنية الشعبية التي يرى أنها هي التي كُتبت إما بواسطة الشعب أو من أجله بشكل انتقائي، أو هي الأغاني التي يغنيها الشعب بشكل خلاق ويكفيها طبقًا لمعاييره الخاصة لكي تخدم طريقته في التفكير وفي التعبير عن مشاعره.
أما د. أحمد مرسي فيُعرفها بأنها تعبيرات شفاهية تنتقل عبر المكان والزمان، لها طبيعة فنية خاصة بالإضافة أن لها جمالياتها التي تثير المتعة في نفوس من يستمعون إليها، فالجماعة تعتمد على التشخيص الشفاهي لكي تجسد من خلاله معرفتها ومتعتها.هنا أيضًا تذكر فراج أن الدارسين قد حددوا بعض الخصائص التي تميز الأغنية الشعبية من أهمها الشفاهية والأصالة والارتباط بالتراث الثقافي، والأداء الدرامي والإرسال الثقافي بين الجماعة المحلية غير معروفة المؤلف والاستمرارية.
• تمجيد العمل اليدوي
الكاتبة ترى أن جميع التعريفات التي حاولت تعريف الأغنية الشعبية صحيحة لأن الأغنية الشعبية في واقع الأمر ليست نمطًا واحدًا ثابتًا، إنما هي شكل فني سبق وأن تغيّر وما زال في تغيير مستمر طالما أن أفراد الشرائح المجتمعية يتغيرون بحكم الظروف الثقافية والاقتصادية والسياسية. في كتابها هذا تُعرفنا الكاتبة على أنواع متباينة من الغناء الشعبي داخل المجتمع الواحد، ولكل منها سماته الخاصة، كما نعرف أن الأغنية الشعبية بالنسبة للفلاحين الذين يزرعون الأرض تختلف عنها في المناطق الشعبية، وتختلف عنها أيضًا المناطق التي تعتمد على الصيد.
"فراج" بعد أن ترصد وتحلل أنماط الأغنية الشعبية بعد 23 يوليو 1952 تقول إن أبرز الأغنيات الشعبية في بداية القرن العشرين كان ما قدمه فنان الشعب سيد درويش ابن الحي الشعبي السكندري كوم الدكة، ومن أشهر أغانيه الحلوة دي قامت تعجن في البدرية، القلل القناوي، لحن الشيالين، البحر بيضحك وأنا نازلة أدلع أملا القلل، طلعت يا محلا نورها وغيرها من الأغنيات التي كانت موضوعاتها تعبر عن حياة الطبقات العاملة والفلاحين بلحن بسيط وإيقاعات نابعة من البيئة المصرية، وهي في واقع الأمر أغنيات شعبية شعبوية مجدت العمل اليدوي والشرائح المجتمعية الكادحة ورصدت واقعهم.
كما تذكر أن هناك أنماطًا جديدة قد ظهرت بعد هزيمة 67 من الغناء الشعبي الحداثي جنبًا إلى جنب النماذج الغنائية الشعبية الحداثية الأخرى، مضيفة أن الأغنية الشعبية حاولت الخروج من حيز الفلكلور لحيز آخر أكثر رحابة في محاولة من صناعها لمواكبة ما هو حديث للحفاظ على نفسها من الاندثار حتى ولو كان على حساب بعض المعايير المكونة للأغنية الشعبيةالفلكلورية والشعبوية، فبقدر ما حملته الأغنية الشعبية بنوعيها من حداثة بقدر ما فقدت الكثير من شكلها ومضمونها التقليدي لتبدأ مراحل التدني الجزئي للأغنية الشعبية بمفهومها التراثي، ومن زاوية أخرى كانت هذه الأغنيات الشعبية الحداثية محاولة لإيقاف تدمير ما تبقى من الذات الشعبية المصرية.
• حكيم ما بعد حداثي
في "الأغنية الشعبية" تحدثنا الباحثة ياسمين فراج عن المطرب الشعبي شفيق جلال، عن أحمد عدوية والخارجين من عباءته، عن كتكوت الأمير، كما تكتب عن الغناء الشعبي بعد انتصارات أكتوبر، وظهور فاطمة عيد، وعبد الباسط حمودة، وطارق الشيخ، وحكيم الذي تعتبره الكاتبة حلقة وصل ما بين الحداثة وما بعدها لأنه أول مطرب شعبي يقوم بالرقص في حفلاته، وظهوره بالملابس المعاصرة المتناسقة ومشاركته بالغناء مع مطربين عالميين غنوا بلغات مختلفة.
كذلك تكتب "فراج" عن الأغنية الشعبية في عصر ما بعد الحداثة وعن الفرق الغنائية الشعبية ما بعد الحداثية، وعن الأغنية الشبحية أو أغنية المهرجانات.
هذا وتختتم "فراج" كتابها هذا بفصل تخصصه لنقد تحليلي لبعض الأغنيات الشعبية ومنها أغنيات أيوب وناعسة لخضرة محمد خضر، والدنيا لو كشرت لمحمد طه، وأما نعيمة لليلى نظمي والكورال، والسح الدح إمبو لأحمد عدوية، وافرض لحكيم والكورال وغيرها.
وأخيرًا، وكما كُتب على غلاف الكتاب الأخير، يؤكد أرسطو أهمية الفن لسياسات الدول حين يقول إن الفن يمكن أن يُعد سياسة لو قُدرت أهميته تقديرًا سديدًا.a
|