القاهرة 12 يوليو 2022 الساعة 12:57 م

قصة: محمد الليثي محمد
عندما كان الأربعة يحلفون بالله بأن الذي طار في سماء العصر هو العاشق، وأن أمه التي ولدته في شمس يوم حار، كانت تبكي على ذكر البط الذي اتبط على الأرض، وابتلع العاشق وطار في الهواء، وأن الناس شاهدوا بقايا جلباب العاشق يرفرف على حائط الزريبة القبلي، وأن الشمس الشموسة، أم قرص كبير، ضحكت ضحكه كبيرة، ورمتها على وجه العاشق، الذي احترق وجهه، وبقي مثل المحروق.
قالوا إن أمه عندما بكت، فاضت أنهار، وامتلأت ترع، وحمل السقاة ألف لتر من الماء، ووزعوها في الدروب والحواري البعيدة التي لم يصل إليها إنسان، وأن الرجل كان يستحم ويغسل وجهه عشر مرات في الساعة، وأن الأم استمرت في البكاء، لمدة سبع سنوات، وأنها حملت تراب الشوارع على ملابسها لمدة ستة سنوات، وتزوجت في السنة السابعة من حامد الذي تحول ولم يبق جامدا، فخرجت في عصر يوم السبت، وركبت الحوائط ونكشت شعرها ودعت على العاشق، الذي غاب وتركها لذلك الحامد، وعندما لم تجد مستمعين إلى شكواها، هبطت وعادت إلى البيت، دخلت وفي الدخول تحول البيت إلى صمت، وفي الصمت تبقى العيون ساهرة، تنتظر الغائب، والغائب بعيد، هناك في الأرض البراح، نراه في أحلامنا ونحلف به في كلامنا، ونقول لو كان هنا لقطف الثمرة البعيدة أعلى الشجر، ولعاد بالطائر الذي طار فوق عشه الفراخ.
تهدم بيت أم العاشق ثلاثة مرات، وأعيد بناؤه ثلاثة، في المرة الأولى تحول المنزل إلى منزل، وفي الثانية تحول المنزل إلى مقهى، وفي الثالثة تحول المقهى إلى منزل يعيش فيه عبد أسود، لا يأكل اللحم، يترك كفه على وجه البيت، يحمل في صدره قلبين، قلب أحب أمة سوداء ركبت سفينة، حملتها إلى جزيرة خضراء في وسط البحر، وأحبت وماتت من حب رجل قصير ضربها بالسيف، في معركة لا نعرف اسمها، إنما هي معركة ككل المعارك التي تنشب على أصغر الأسباب لذلك سوف نسميها مر الزمان التي مات فيها من بيت ابن خالة عمه رجل وامرأتان، ومن بيت أحد أقاربه عشر نخلات، وأمة سوداء ضربت عن طريق الخطأ، حيث ظن القصير أنها فارس، فضربها وشقها إلى نصفين، أما القلب الثاني كان قد خبأه في جوف الحوت، حتى لا يراه يعشق أمة سوداء تموت في جزيرة على يد رجل قصير.
في يوم جاء الأربعة وقالوا للعبد الأسود، الذي هاج وماج وظن أن الأربعة جاءوا ليسرقوا قلبه، لكنه اطمئن حين سمع الحكاية عن ظهر قلب، قالوا له أتعرف أن العاشق عندما أدركه التعب، نام مثل كل الناس، فجاء حوت كبير بطول شجرة، فابتلع العاشق، وعندما استقر العاشق داخل جوف الحوت، اصطدم بقلب العبد، حمله بين يديه، ودار به فأعجبه القلب، عندما وجده قلبا فارغا، من فراغ الفارغ، لذلك أحبه وأدخله صدره، فارتعش كأنه طفل صغير سقط من بطن أمه، فوجد الحياة باردة، فارتعش وسقط من جوف الحوت، فقال العبد إن كان ذلك حق فحق الحق عليه القتل، وفي القتل سوف يكون معك خمسة بيضات، وعشرة إردب من أجود أنواع القمح، وسوف نزوجك من أول أمة سوداء تمر من شارع السوق، فرح العبد بذلك، وأخذ يغنى في الطرقات، ونسي أن يقتل العاشق، مما دفع الأربعة إلى كسر البيض وأكل القمح وتزوج أولهم الأمة السوداء وأصابه البرص في قدمه اليسري، فذهب إلى الطبيب، الذي أشار عليه أن يطلق الأمة السوداء بالثلاثة، وأن يذهب إلى السوق ويشتري جارية بيضاء تشرب اللبن بعد الفجر، وترقص بالليل حين يطول السهر، ذهب الأول ولم يعد، تساءل الثاني والثالث عن مكان الأول فقال العاشق البعيد إن البلاد عندما تحب يفيض الشوق على جانبي الطريق، لم يفهم الثاني كلام العاشق، وتركه على سكة قطار، وذهب إلى زوجة روحه، فأحبها، وانتهى به الحال إلى العشق، عشق كلامها، وأدرك أنه سوف يسمع حكاية، فجلس على الأرض واستمع جيدا، لكنه لم يسمع شيئا فأدرك الابتسامة الأخيرة، فتذوقها فشعر بمرارة العسل، فصرخ على كوب ماء، ونطق بالشهادة، ومات وبموت الثاني أصبح الأصدقاء ثلاثة والعاشق غائبا، لم يبك على الثاني ولم يحمل لقب الرابع، فعاد الثلاثة إلى بيت العبد الأسود، الذي انتصب على قارعة الطريق، قبل أن ينتهي زمن الحيرة، وقبل أن تدق أرغفة الخبيز ورائحة البرتقال في جنبات البيت، قال العبد الأسود: إن الموت واحد، والعمر واحد، والرب واحد، ومن سرق قلبي وجعلني بلا قلب في ليالي الشتاء، لهو الأولى بأن يعيش عاريا، من إحساس الحب، لكن الكلام لم يعجب الثلاثة، فراحوا يرقبون حليب الأبقار، دون أن يدرك أحد رائحة الخوف في ملابس العبد، نفض العبد جلبابه وسار عشرين مترا، ورمي ما في جيبه، وجرى.
استيقظ الثلاثة من نوم عميق، وتبينوا أن فكرة قتل الخامس على يد عبد أسود أدركها السراب، فلم يعد لها مكان على الطريق، وسمعوا كيف أن المطر لا يدخل النافذة ما دام هناك زجاج للنافذة، وأن العاشق لكي يموت لابد أن يموت على يد درويش، الذي إذا دعت الضرورة يقاتل بشراسة حيوانا بريئا في شتاء حقول من الصحراء، وسيستطيع أن يعد أسماء الأحلام العرجاء في سماء كتاب، ويميز الأشجار الخضراء في الغابات، ويأتي بكرسي امرأة حملت معها رائحة الياسمين من حدائق بعيدة، إنه الدرويش الذي يبكي حين كانت عيناه تبدوان قاسيتين وجامدتين، صحيح أن الثلاثة عندما أدركوا الشمس في السماء، وذهبت بهم امرأة عرجاء إلى أول البحر، حيث شربوا وأكلوا من ثمار شجرة الحمام، فجاء صاحب الشجرة ودعا عليهم، فكان الأول قرد بدون سلسلة، أما الثاني فصار كلبا بدون ذيل، أما الثالث وما أدراك ما الثالث فكان الخوف في ركابه، فعاش يحمل في قلبه قردا بدون سلسلة وكلبا بدون ذيل، فجاع فنزل إلى قرية فرأي رجلا يحمل ماء، فطلب منه شربة ماء، فرفض الرجل أن يعطيه الماء قبل أن يفك القرد من السلسلة، وأن يقطع ذيل الكلب، فاستغرب الثالث وأضاف إلى استغرابه بعضا مما كان في جرة عسل انفلتت من يد صبي مذعور من طائر أعمى، وصرخ بأن القرد صديقه الأول والكلب صديقه الثاني، وأن الحكاية لم تنته عند ذلك، بل الخامس هو من فعل ذلك، فقالت للذي ذهب أن الماء يساوى الذهب، حين تكون في الصحراء، إنه الخامس الذي يدخل الحكاية من كل باب، ولا نعرف لماذا يدخل؟ ووقتما يخرج إنه فقط العاشق الذي يحمل قلب بطعم النعناع، يهفو إلى عود كزبرة جاف، يطير في هواء باهت لا يرى الضوء، إنما يسمع موسيقى الجبل، ويبكي إذا رأى لسعة شمس في وجه امرأة، لأنه العاشق فقد كرهه الأربعة حتى موت الأول في شربت ماء، وحين أسقطوه في بئر الكراهية تعلق في حبل الأمل، فجاء رجل أعرج وأخرجه من البئر، فسار في طريق الأربعين، فشاهد أربعبن شجرة، وحرمت عليه ثمارها، فبكي، وغاب أربعين يوما، وأنتظر أربعين دقيقة لكي يركب طابور الجمال الآتي من الجنوب، الذي أوصله إلى حافة الأرض، فسقط، قالوا إنه سقط من الفضاء، وتاه في أرض الله، وعندما جاءت قدمه اليسرى بجوار اليمنى، أحب السقوط، فمات، وعاش بضعة أيام عاطلة لم يفعل فيها شيئا.
تبين للثلاثة كذب الحكاية، وان أصل الحكاية لم تخرج من صدق امرأة، إنما من روى الحكاية، أضاف لها بعضا من كرهه وحبه إلى التجويد، إنه العشق يا سادة، العشق في ترتيب الحكاية كما يحلو له، فأخذت المرأة من حكايات قديمة وأضافت إلى عناصر القصة الحالية حيث قالت:
وقبل القول حلفت بالله ثلاثة، ولماذا ثلاثة هي تقال كده، بأن العاشق ابن الخامسة والأربعين، أدركه النوم، فنام بجوار البئر ، الذي فتح فمه، فسقط العاشق دون صوت، وتعلق على ظهر سمكة قرش، فسارت في الماء تحت الأرض، لعدة أعوام كان العاشق يتغذى من أصابع جني فيجد فيها السمن واللبن والعسل والماء والهواء، فلم يزل يغذيه حتى عاش في سرور وهنا، إلى أن أدرك التعب سمكة القرش، فطلبت الراحة، فخرجت من ورقة الأرض، وسارت في الهواء وسقطت في البحر الأعظم، وسقط الخامس في حقل القرنفل، فتراجع عن فعل الفعل القبيح، وأغلق ملامحه على ابتسامة الرضا.
حتى تهدم الحقل فأبني مكانه جامعا، وعاش العاشق مقيم الصلاة يؤذن لصلاة الفجر، ويذهب للسوق يبيع ويشترى ثم يعود إلى الجامع ويؤذن لصلاة العشاء، وعندما ينتهي من الصلاة يعود إلى البيت، يعاشر زوجته، التي لم تحمل، فتركها وهرب إلى بلاد الله البعيدة، وحين لم يعرف أحد مكانه كتب على قبر مجهول أنه العاشق مات وعاش.
اعتقد الثلاثة أن تلك المرأة التي حكت الحكاية كانت تحب العاشق وأن العاشق عاشرها لكي تحمل وتمنحه الولد، لذلك أسقطوا على كلامها، بعضا من نسيان، وأشعلوا فيه النار فصار رمادا، طيروه في ريح غاضب، وجلسوا يندبون حظهم العسر، في أنهم فشلوا في قتل العاشق وأن في قتله حياة، وتنظيم شأن الحياة والناس، إنه القتل الذي يغسل روح العاشق من الدنس.
لذلك اعتقد الثلاثة للمرة الثانية أن العاشق لن يدركه الموت على يد درويش أو طائر أو ثعبان مارق، وأن الموت يأتي من الصبر، وطول الانتظار، والتعلق بالفكرة، لذلك لابد أن تموت الفكرة، وأن تعلق أسرارها على حبل الغسيل، في بيت لا يسكنه الجني، لذلك جمعوا ذهب الفتيات، والقوة في النار وقالوا كن عاشق العاشق، فكان تمثال العاشق أبيض بعيون كبيرة، وشعر في لون الحرير الأسود، عليه جسد وفوق الجسد هيبة، تسرق كحل العيون، وتبني ألف خيال في ألف رأس، إنه العاشق حين وجده الناس يقف في وجه الريح والمطر، أحبوه، وصنعوا له تماثيل صغيرة.
|