القاهرة 12 يوليو 2022 الساعة 12:54 م
قصة: إيتالو كالفينو
ترجمة: نورهان مصطفى
يُحكى أن تاجرا كبيرا عاش في مدينة باليرمو وكان لديه ابنة وحيدة، وما أن شبت الفتاة عن الطوق حتى بلغت من الحكمة مبلغا جعلها تبدي رأيها في كل كبيرة وصغيرة في المنزل. وحينما شهد الأب موهبة ابنته أطلق عليها لقب كاترينا الحكيمة. ولم يكن لها مثيل في دراسة جميع أنواع اللغات وقراءة كل أنواع الكتب.
وبعد أن بلغت السادسة عشر من عمرها، توفيت والدتها، فشعرت كاترينا بألم كبير حتى انغلقت داخل غرفتها ورفضت الخروج منها. تتناول طعامها فقط داخل غرفتها وتنام فقط هناك، وفقدت أيضا رغبتها في التنزه والذهاب إلى المسرح وفي الترفيه.
فكر الأب الذي كان لا يرى العالم إلا بعيني فتاته الوحيدة، أنه قد حان الوقت لعقد مجلس يطلب فيه المشورة. فاستدعى علية القوم (فهو بالرغم من كونه تاجرا، إلا أنه كانت تربطه صداقة قوية بأهم الأشخاص)، وقال:- سادتي، تعلمون بأن لدي ابنة وهي قرة عيني، ولكنها منذ أن توفيت والدتها بقيت حبيسة المنزل لا تريد أن تبرحه وكأنها هرة.
وكان رد المجلس:- إن ابنتك يعرفها القاصي والداني بحكمتها البالغة. افتح لها مدرسة كبيرة، فقد يساعدها تعليم الآخرين على نزع هذه الفكرة من رأسها.
قال الأب:- فكرة مدهشة. استدعى فتاته، وقال لها:
- اسمعي يا ابنتي، بما أنك لا تهتمين بالترفيه، فكرت أن أفتح لك مدرسة وتكونين أنت من يديرها. أتعجبك الفكرة؟
وافقت كاترينا على الفور، وبدأت في اختيار المعلمين بنفسها، وقاموا بتجهيز المدرسة، ووضعوا لافتة في الخارج مكتوب عليها: من يرغب في التعلم على يد كاترينا الحكيمة فلينضم إلى مدرستها المجانية.
وفي الحال، توجه إلى المدرسة أولاد كثيرون، صبية وفتيات، وكانت كاترينا تُجلِسُهم على المقاعد الواحد بجانب الآخر دون أن تعطي أفضلية لأحد. وكانت تحدث نفسها قائلة:
- ولكن ذلك بائع فحم! حسنا، ليس مهما: على بائع الفحم أن يجلس بجانب ابنة الأمير. وكما يقولون بالأمثال "اللي سبق أكل النبق". بدأت المدرسة نشاطها. كانت كاترينا الحكيمة تمسك بمقرعة بطرفها مسامير، وتعامل جميع الطلاب بمساواة، ولكنها كانت تضرب من لا يقوم بتحضير الدرس.
ذاع صيت هذه المدرسة حتى وصل إلى القصر الملكي، ورغب الأمير أيضا في الذهاب إليها.
ارتدى الأمير ثوبا فاخرا، دخل الفصل، ووجد لنفسه مكانا، فأجلسته كاترينا. وعندما حان دوره طلبت منه كاترينا حل مسألة، فلم يستطع الأمير الإجابة. طاخ! وجهت كاترينا إليه لطمة لا يزال يشعر بأثرها.
نهض الأمير من مكانه وقد احمرً وجهه من الغضب. ركض إلى الخارج، وصعد إلى قصره الملكي متوجها إلى والده.
- عفوا، جلالتك! أريد أن أتزوج! أريد الزواج من كاترينا الحكيمة.
أرسل الملك لاستدعاء والد كاترينا، فذهب الأب للملك، وانحنى له احتراما قائلا:
- طوع أمرك، يا صاحب الجلالة!
- انهض! لقد أغرم ابني بابنتك. ماذا علينا أن نفعل؟ فلنزوجهما.
- كما تأمر يا مولاي. ولكن أنا مجرد تاجر أما ابنك سليل الملوك.
- لايهم، ان ابني هو الذي يرغب في...
عاد التاجر للمنزل ليخبر ابنته:
- كاترينا، يريدك الأمير زوجة له. ما رأيك؟
- موافقة.
لم يكن ينقص الأمير قماش المراتب ولاحتى قطع الأثاث؛ لهذا بعد ثمانية أيام من ذلك اليوم، أصبح كل ما يلزم جاهزا. ترك الأمير كاترينا برفقة اثنتي عشرة وصيفة. وفُتِحت كنيسة القصر الملكي وأتمًا مراسم الزواج بها.
بعد انتهاء حفل الزفاف، أمرت الملكة الوصيفات أن يذهبن ليساعدن الأميرة في تبديل ملابسها وأن يصطحبنها لفراشها.
قاطعهن الأمير قائلا:
- لسنا بحاجة إلى مساعدة أحد في خلع أو ارتداء الملابس، ولا لحراسة خلف الباب. وعندما بقى بمفرده مع العروس قال لها:
- كاترينا، أتذكرين صفعتك لي؟ هل أنت نادمة عليها؟
- نادمة؟ اذا أردت، سأصفعك مرة أخرى!
- ماذا؟ ألست نادمة؟
- ولا بأحلامك.
- ولن تبدي ندمك؟
- ومن يفكر في هذا؟
- آه، هكذا إذن؟ الآن أنا سأريكي. وبدأ في إعداد حبل لينزلها إلى السرداب. وحينما أصبح الحبل جاهزا قال لها:
- كاترينا، إما أن تبدي ندمك، أو سأنزلك إلى السرداب!
ردت كاترينا:
- سأشعر بالانتعاش أكثر هناك!
أمسك بها الأمير وأنزلها إلى السرداب، بدون أي شيء يرافقها سوى منضدة صغيرة، وكرسي، وإناء ماء، وقطعة خبز على المنضدة.
في اليوم التالي ذهب الأب والأم -كما هو معتاد- ليهنئا العروس.
فرفض الأمير قائلا:
- لا يمكنكما الدخول، فكاترينا ليست على ما يرام.
ثم ذهب ليفتح السرداب وقال:
- كيف قضيتي ليلتك؟
ردت كاترينا:- لقد كان الجو منعشا.
- أتفكرين في صفعتك لي؟
- أفكر في الصفعة التي سأوجهها لك.
مر يومان، وبدأت كاترينا تتضور جوعا، وبينما لم تكن تعرف ماذا عليها أن تفعل، نزعت عودا من مشد خصرها وأخذت في عمل فتحة بالجدار. ظلت تحفر وتحفر، وبعد أربع وعشرين ساعة بدأت ترى شعاعا من الضوء، وشعرت بأنها استعادت الحياة. فوسعت الفتحة ونظرت من خلالها، فرأت الكاتب الذي يعمل لدى والدها مارا أمامها، فنادته:
- سيد توماس! سيد توماس!
لم يفهم السيد توماس ماذا لعله يكون هذا الصوت الآتي من الجدار.
- إنه أنا، كاترينا الحكيمة. أخبر والدي بأني أريد التحدث إليه فورا.
عاد السيد توماس بصحبة والد كاترينا، وأراه تلك الفتحة في الجدار. قالت كاترينا:
- يا أبي، هذا هو قدري، إني بقاع سرداب. عليك أن تأمر بحفر ممر يمتد من قبو قصرنا إلى هنا، وأن توضع فيه عتبة ومصباح كل عشرين خطوة، ثم اترك لي بقية الأمر.
وافق التاجر، وحينئذ بدأ يرسل لها دجاج وديوك ووجبات وافرة من خلال تلك الفتحة.
وكان الأمير يطل على السرداب ثلاث مرات كل يوم ويقول:
- كاترينا، هل ندمتي على صفعتك لي؟
- على ماذا أندم؟ من الأفضل أن تفكر في الصفعة التالية التي سأوجهها لك.
في أثناء ذلك كان العمال منشغلين بحفر النفق تحت الأرض، ويضعون فيه عتبة ومصباحا كل عشرين خطوة. وبمجرد أن أصبح الممر جاهزا كانت كاترينا تعيد إغلاق السرداب بعد كل مرة يطل فيها الأمير عليها، وتعبر من الممر إلى منزل والدها.
وبعد أيام قليلة بدأ الأمير يشعر بالملل من تلك القصة، فتح السرداب وقال:
- كاترينا، أنا ذاهب إلى نابولي. أليس عندك ما تقولينه لي؟
- كلي سرور، استمتع بوقتك وعندما تصل اكتب لي.
- إذن، هل أذهب؟
- ماذا؟ أمازلت هنا؟
غادر الأمير، وبمجرد أن أغلق هو السرداب ركضت كاترينا إلى أبيها:
- أبي، هذه المرة عليك أن تساعدني. أحتاج إلى سفينة شراعية جاهزة للانطلاق، وإلى مديرة منزل، وخادم، وثياب للحفلات، وأن ترسل كل هذا إلى نابولي، وليستأجروا قصرا مواجها للقصر الملكي ولينتظروني.
أمر التاجر بانطلاق السفينة، وفي أثناء ذلك أمر الأمير بتجهيز سفينة حربية ورحل هو أيضا.
وعندما رأت كاترينا من شرفة قصر والدها الأمير وهو يغادر، صعدت إلى سفينة أخرى ووصلت نابولي قبله؛ فكما هو معروف، تسير السفن الصغيرة أسرع من الكبيرة.
في نابولي، كانت كاترينا تطل من شرفة قصرها كل يوم متباهية بفستان أجمل من سابقه. رآها الأمير فصاح متعجبا:
- كم تشبه كاترينا الحكيمة! وأغرم بها فأرسل إليها مبعوثا.
- سيدتي، يود الأمير زيارتك إذا لم يكن في ذلك إزعاجا لك.
ردت كاترينا:
- مولاي!
ذهب إليها الأمير في ثوبه الملكي، أقاما مراسم الاستقبال، ثم جلسا ليتحدثا. قال الأمير:
- وأنت يا سيدتي، لست متزوجة، أليس كذلك؟
- بلى، أنا غير متزوجة. وأنت؟
-وأنا أيضا. هل أخبرك شيئا، أنت يا سيدتي تشبهين فتاة كنت معجبا بها بباليرمو. إني أرغب في الزواج منك.
-هذا شرف عظيم لي أيها الأمير.
وبعد مرور ثمانية أيام تزوجا. وبعد تسعة أشهر أنجبت كاترينا طفلا غاية في الوسامة. سألها الأمير:
- أميرتي، بأي اسم سنسميه؟
- ردت كاترينا: نابولي. وسمياه نابولي.
مر عامان، وأراد الأمير الذهاب. لم تكن الأميرة ترحب بهذا الأمر، ولكن الأمير أراد الذهاب بأي ثمن. وكتب لها صكَّا يقول إن الطفل هو أول مولود له وعندما يحين الوقت سيصبح ملكا. وذهب إلى جينوفا.
وبمجرد أن رحل الأمير، كتبت كاترينا لأبيها وطلبت منه أن يرسل فورا إلى جينوفا سفينة محملة بالأثاث، ومعها مديرة منزل، وخادم، وباقي الأشياء، وأن يستأجروا قصرا مواجها للقصر الملكي بجينوفا، وينتظروها. ملأ التاجر إحدى السفن وأرسلها إلى جينوفا.
وأخذت كاترينا أيضا سفينة، ووصلت إلى جينوفا قبل الأمير. وأقامت بقصر جينوفا، وعندما رأى الأمير هذه الشابة الجميلة ذات الشعر الممشط كالملكات، مرتدية مجوهراتها ويبدو عليها الثراء، صاح مندهشا:
- كم تشبه كاترينا الحكيمة وأيضا زوجتي بنابولي
أرسل إليها مبعوثا، فأبدت كاترينا سرورها باستقباله.
أخذا يتحدثان، فسألها الأمير:
- ألم تتزوجين بعد؟
ردت كاترينا:- أنا أرملة، وأنت؟
-أنا أيضا أرمل، ولدي ابن. ولكن أتعلمين أنك تشبهين تماما سيدة تعرفت عليها في باليرمو، وأخرى تعرفت عليها في نابولي؟
- ألا تعلم؟ يُخلق من الشبه أربعين.
وهكذا باختصار، بعد مرور ثمانية أيام أصبحا زوجا وزوجة، وبعد تسعة أشهر أنجبت كاترينا طفلا آخر أكثر وسامة من طفلها الأول. كان الأمير مسرورا.
- يا أميرتي، بأي اسم نسميه؟
- جينوفا! وبالفعل أسمياه جينوفا.
مضى عامان، وعاودت الأمير نزوة الرحيل.
فقالت له الأميرة:
- ستسافر، وتتركني بمفردي أحمل طفلا بين يدي؟
فطمأنها الأمير قائلا:
- سأكتب لك صكَّا مفاده أن هذا الطفل ابني ويكون الأمير الأصغر.
وبينما كان يقوم الأمير بتحضيرات السفر إلى فينيسيا، كتبت كاترينا لوالدها في باليرمو لتطلب سفينة أخرى، ومعها خادم، ومديرة منزل، وأثاث، وثياب جديدة، وكل شئ. وتوجهت السفينة إلى فينيسيا. ذهب الأمير بسفينته الحربية؛ والأميرة بالسفينة الشراعية ووصلت قبله.
- يا إلهي! صاح الأمير فور رؤيته السيدة الجميلة المطلة من نافذة القصر.
- وهذه أيضا تشبه تماما زوجتي بجينوفا التي كانت تشبه زوجتي بنابولي التي كانت تشبه كاترينا الحكيمة!
ولكن كيف يمكن هذا؟ فكاترينا في باليرمو محبوسة في السرداب، والثانية في نابولي، والثالثة في جينوفا، وهذه في فينيسيا.. أرسل إليها مبعوثا ثم ذهب لمقابلتها.
- ولكن أتدرين يا سيدتي أنك تشبهين سيدات كثيرات أعرفهن: واحدة في باليرمو، وواحدة في نابولي، وأخرى في جينوفا...
- بالطبع! يخلق من الشبه أربعين..
وهكذا استمرا في الحديث المعتاد..
- ألست متزوجة؟ .. - لا، أنا أرملة. وأنت؟ .. - أنا أيضا أرمل.. ولدي ابنان.. وبعد ثمانية أيام تزوجا.
هذه المرة أنجبت كاترينا طفلة، جميلة في جمال الشمس والقمر. فسألها الأمير:
- بأي اسم نسميها؟.
- فينيسيا. وبالفعل سميت فينيسيا.
مضى عامان آخران. قال الأمير:
- أتدرين يا أميرة، يجب أن أعود إلى باليرمو. ولكن قبل أن أذهب سأترك لك صكّا يؤكد أن هذه الطفلة ابنتي، وأنها سليلة الملوك.
سافر الأمير، ولكن كاترينا وصلت إلى باليرمو قبله. ذهبت إلى منزل والدها وعبرت من القبو وعادت إلى السرداب. وبمجرد أن وصل الأمير، ركض ليفتح السرداب.
- كاترينا، كيف حالك؟
- أنا؟ بخير!
- أندمتي على صفعتك لي؟
- وأنت، هل فكرت في صفعتي التالية؟
- أعلني عن ندمك، يا كاترينا. وإلا سأتزوج ثانية!
- فلتتزوج! ومن يمنعك؟
- إذا ندمتي، ستعودين لتصبحي زوجتي.
- لا.
- حينئذ أعلن الأمير عن وفاة زوجته وعن رغبته في الزواج مرة أخرى. وكتب للملوك ليرسلوا إليه رسومات بناتهم.
وصلت الرسومات، وكانت أجمل رسمة هي رسمة لابنة ملك إنجلترا. وأرسل الأمير لها ليخبرها أن تحضر بصحبة والدتها لإتمام الزواج.
وصلت عائلة إنجلترا الملكية بأكملها، وفي اليوم التالي صار حفل الزفاف. ولكن ماذا فعلت كاترينا حينها؟ أمرت بتجهيز ثلاث أثواب ملكية لأطفالها الثلاث: نابولي، وجينوفا، وفينيسيا، وارتدت هي ثوب الأميرات، وأمسكت في يدها نابولي في ثوب ولي العهد، وجينوفا وفينيسيا في ثوب أمير وأميرة. وتوجهت إلى القصر بعربة الحفلات.
وصل موكب الزفاف وفيه الأمير وابنة ملك إنجلترا، وقالت كاترينا لأطفالها:
- نابولي، جينوفا، فينيسيا، اذهبوا وقبلوا يد والدكم! فركض الأطفال ليقبلوا يد الأمير.
عندما رآهم الأمير لم يتمكن من فعل شيء إلا أن يعلن عن هزيمته.
- هذه هي إذن الصفعة التي كنت تحدثيني عنها!
صاح، وعانق أبنائه. بهتت أميرة إنجلترا، فأغلقت باب العربة ورحلت.
شرحت كاترينا لزوجها سر النساء المتشابهات، وظل الأمير يستجدي عفوها.
وهكذا عاشا في تبات ونبات، والعروسة للعريس والجري للمتاعيس.
|