القاهرة 28 يونيو 2022 الساعة 07:42 م
كتب: صلاح صيام
عاش طيلة حياته يحاول الابتعاد عن السلطة السياسية، واحتفظ لنفسه بتقاليد مستقلة أخذها عن بيئة تربوية وثقافية تتمثل في انتمائه إلى الريف المصري، وأوجاع الفلاحين والفقراء الذين هم مادة أعماله الروائية والقصصية منذ منتصف ستينيات القرن الماضي، تلك الفترة الذهبية التي تألق خلالها فن القصة القصيرة، وكان واحدا من أعلام هذا الفن، وبقي منذ أن نشر مجموعته "الكبار والصغار" في عام 1965 وحتى وفاته، يحظى باحترام مختلف التيارات الفنية القصصية التي جنح بعضها إلى التجريب والتغريب.
لم يتاجر الروائي محمد البساطي -الذى تمر ذكراه العاشرة بعد أيام- بأيديولوجية أو بفكر سياسي معين، وإنما كان كاتب الإنسان المسحوق بالفقر والخوف، ولذلك يعتبر رحيله خسارة كبيرة لقرائه البسطاء أكثر من المثقفين.
"البساطي" أحد أبرز جيل الستينيات، عاش هموم وطنه، فهو من أفضل من عبروا عن الواقع فى القرية المصرية من حيث الزمان والمكان، واستطاع أن يتناول المنطقة الغامضة وسط الزمان.
وكذلك أفضل من كتب عن المدينة، وعالم الهامش والناس المغمورة، وكان شخصية تتميز بالصدق، اختار خندق المعارضة فلم يقترب من أي مؤسسة رسمية وبعد خروجه من الجهاز المركزى للمحاسبات لم يطلب منحا ولا جائزة ولا وظيفة، ولم يكن محسوبا على أي نظام حتى أن جائزة الدولة التقديرية -بعد أن رشحته إحدى الجامعات- جاءته وهو في شبه غيبوبة.
قال عن القرية: "القرية طفولتي وصباي، والطفولة والصبا زمنان يترسخان في العقل والوجدان، حتى عندما نكبر ونشيب يظلان فاعلين، وعندما كتبت لم أغادر القرية في كتاباتي، هي المحيط الذي عرفته وفهمته كلًا وجزءًا، ولكن ذلك لم يمنع أن أتجرأ وأكتب عن عالم المدينة".
وأضاف: "القرية هي المنطقة والعالم التي تجد لمحاتها حاضرة حتى الآن في حياتي، وتجد علاقة وثيقة بين الريف والأعمال الإبداعية كلّها ما عدا (ليلة أخرى) فهي الرواية التي كتبت عن فترة السبعينيات في أوساط مثقفي القاهرة"
حظى بتقدير نقدي أدبي سواء في مصر أو خارجها، الأمر الذي أهله للحصول على جائزة سلطان العويس الثقافية عام 2010 مناصفة مع القاص السوري زكريا تامر، وجاء في قرار لجنة التحكيم "تتسم أعمال البساطي بالاقتضاب البليغ الدال سردا وأسلوبا ومعنى، وتتوق إلى استحداث أفق شعري رائق.
شعرنة القصة القصيرة ظاهرة أشار إليها أكثر من متابع لأدب البساطي الذي يكتب بلغة مأخوذة من نبض الناس الذين يصنعون الحياة بأحلامهم البسيطة، و تبدو القرية المصرية بكل براءتها وطزاجتها الاجتماعية والثقافية فضاء حيويا لكتابته.
كان"البساطي" يمشي على بساط مصنوعا من مغزل يديه بكل استقلالية واعتماد على ذات تحمل من الكبرياء وعزة النفس ما جعله منطقة أدبية نائية عن مظاهر التزلف والتملق، ففي حين كان بعض الكتّاب يغازلون السلطة وعيونهم على منصب أو مكافأة أو جائزة، كان يهرب من هذا المناخ الانتهازي إلى ذاته الإنسانية والأدبية المستقلة ورفض أي محاولة لعلاجه على نفقة الدولة وأي تدخل من أي جهة رسمية لتحمل نفقات علاجه من مرض سرطان الكبد وأصر أن يظل بعيدا عن الصخب.
رفض الأديب الراحل أي محاولة لعلاجه على نفقة الدولة وأي تدخل من وزارة الثقافة أو من القوات المسلحة أو من اتحاد الكتاب لتحمل نفقات علاجه من مرض سرطان الكبد وأصر أن يظل بعيدا عن الصخب.
يرحل البساطي كما يرحل العظام ويغيبون فتغيب "ألفة الوطن" كما قال الراحل أمل دنقل، ولكن تبقى أعماله وسيرته العطرة شاهد عيان على مبدع من طراز خاص احترم نفسه وفنه وابتعد عن مواطن الشبهات فاحترمه الجميع.
|