القاهرة 28 يونيو 2022 الساعة 12:14 م
كتب: أمير شفيق حسانين
للمسلمين عِيدان في العام، استنادا لما رواه أنس رضي اللهُ عنه، عن رسول الله، فقال: قدِم النبيُّ صلَّى الله عليه وسلّم المدينةَ ولهم يومان يَلعبونَ فيهما، فقال: "قدْ أبْدَلكم اللهُ تعالى بهما خيرًا منهما؛ يوم الفِطر والأضحى"، علما بأنَه ليس للمُسلمين عيدٌ غيرُهما إلَّا عيدهم الأُسبوعي وهو يوم الجُمُعة.
وكلمة "عيد" تعود إلى كثرة عوائد الله على عباده من غفران للذنوب، كما أن العيد هو الموسِم، وهو كلُّ يومٍ فيه جَمْعٌ؛ فالعيد اسمٌ لِمَا يعودُ من الاجتماعِ العامِّ على وجهٍ مُعتادٍ، عائدٍ بعودِ السَّنةِ، أو بعودِ الشَّهر، أو الأُسبوع، أو ما شابه كل ذلِك.
أما "العيدية" فهي كلمة عربية منسوبة إلى العيد بمعنى العطاء أو العطف وهو لفظ اصطلاحي أطلقه الناس على كل ما كانت تُوزعه الدولة أو الأوقاف من أموال في عيديْ الفطر والأضحى، للتيسير علي أصحاب المِهنْ، وكانت تعرف "العيدية" في دفاتر الدواوين بـالرسوم ويُطلق عليها التوسعة في وثائق الوقف.
وقد اختلفت أجواء الاحتفال بالعيد داخل مصر المحروسة عبر الأزمان المتتالية، فنجد الفاطميون أطلقوا مصطلح "عيد الحُللْ" على عيد الفطر المبارك، إذ أنهم كانوا يلتزمون بكِساء الرعيَة، وقد خصصوا لذلك الغرض الأعظم، قُرابة 16 ألف دينار.
وكان لليلة العيد لدي الفاطميين طقوس مُقدسة، حيث كان يحضرها الوزراء لتناول إفطار آخر أيام الشهر الفضيل مع خليفة البلاد، وبعدها يتوافد المُقرؤون والمبتهلون على قصر الخليفة، لعمل الختمات القرآنية وإلقاء الابتهالات والتواشيح التي تُغذي الروح بالسكينة والطمأنينة.
كما حرصت سيدات القصور على إرسال أواني الماء لوضعِها أمام المقرئين لتشملها بركة ختم القرآن العظيم، وعقب الانتهاء من التلاوة والتكبير، يقوم حاكم البلاد بنثر الدنانير والدراهم علي المُقرئين والمبتهلين، وأيضا كانت تُوزَع عليهم ثِياب العيد وأطباق القطائف والحلوى، ثم تُقام بعض العروض العسكرية، ويعقبها استعراض للخيول، وعزف للآلات الموسيقية.
وفي صبيحة يوم العيد، كان من عادة المصريين مشاهدة الموكب الرسمي للخليفة، المُتجه لصلاة العيد بالمسجد، فكان الموكب يخرج من أحد أبواب قصر الخليفة، والمعروف باسم "باب العيد"، لينطلق في شوارع القاهرة بمجرد الإعلان عن أول أيام العيد، فيتقدم الموكب البهيْ حضرة الخليفة وبرفقته الوزراء والنبلاء وسادة القوم.
كما اعتاد الخليفه الفاطمي أن ينظم موكبه الخلافي إلى المنْحرْ طوال أيام العيد الثلاثة، لأجل ذبح الأضاحي ثم توزيع لحومها علي المُقرئين بالحضْرة والخُطباء والحاضرون من عامة الشعب، وكان مَنْ يقوم بالتوزيع قاضي القضاة وداعي الدعاة، وكان يُخَصص لنُقباء الدعوة وطلبة دار الحكمة جزء من اللحوم الموزَعة.
أما زيارة المدافن أول أيام العيد، فكانت عادة فاطمية مُقدسة، حيث يتوجه الناس حاملين سعف النخيل، والريحان لتوضع فوق القبور، كما تعود الفاطميون توزيع الصدقات ومنها الفطير، والخبز المحشو باللحوم، رحمةً على موتاهم، كما عشِق الفاطميون الذهاب للمتنزهات وركوب المراكب النيلية، ومُصافحة الأهل لتهنئتهم بالعيد.
كما اعتني الفاطميون بإقامة السُماط الملكي بالقصر الفاطمي -والسُماط كان مائدة العيد العامرة لعامة الشعب وخاصته- والتي كانت تحوي كل طريف في القصور السلطانية، وقد بلغت الموائد الفاطمية في بعض السنوات قُرابة عشرين ألف دينار ذهبي.
وكانت تُزيِنْ السُماط الأواني المتراصة عليه والمصنوعة من الذهب والفضة والصيني، فكان يتوسط الأواني أشهى صنوف الأطعمة التي تُقدَمْ طوال أيام العيد كالخِراف المشويَة والدجاج والحمام، وكذلك الحلوى التي اشتُهِر بها العصر الفاطمي، كما اعتني الفاطميون بكعك العيد، فجعلوا له إدارة حكومية خاصة عُرِفَتْ بـ (دار الفطرة) والتي اهتمت بتجهيز مائدة العيد، وإعداد اللازم من الكعك وحُلو كعب الغزال، وقد أُنشِئَتْ "دار الفِطرة " في عهد الخليفة العزيز بالله.
وقد لاقت صناعة كعك العيد اهتماما شديدا، مع مجئ العصر الأيوبي، لدرجة أن أُمراء الدولة الأيوبية احتفظوا بالخبَازات الماهرات اللاتي عمِلْن بالقصور الفاطمية لإنتاج الكعك، ومن أشهرهن الخبَازِةْ "حافِظة"، التي صنعت كعكا شهيا عُرِفَ باسمها "كعك حافظة".
وقد ازدهرت صناعة كعك العيد في العصر المملوكي أيضا، مثلما انتعشت لدي الأيوبيين والفاطميين، حيث خصص البعض وقفيات الكعك ليُصرَف من ريعها على صناعة الكعك وتوزيعه على اليتامى والفقراء فى عيد الفطر، كما حرص الأمراء والأعيان المماليك علي إقامة حفلات استقبال لأبناء الشعب فى ميدان القلعة بالقاهرة، لتناول الكعك.. كما صُنِعَتْ الكعكات الضخمة -خِصيصا- للسلطان المؤيِد والسلطان قايتباي، واللذين تناولاها مع الحضور كبُرْهان منهما على مشاركتهما المواطنين فرحة العيد.
ويروي المؤرخ القاضي ابن الصيرفي بعض مشاهد عيد الأضحى في عصر السلطان قايتباي، في كتابه "إنباء الهصر بأبناء العصر"، ويقول إن السلطان كان يقوم بذبح الأضاحي، وتوزيعها علي أرباب المناصب وبعض فقراء القاهرة، وكان الأمراء يقلدون السلطان في ذلك.
وفي عام 873 هجرية، شهدت القاهرة عيد أضحي يشوبه الحُزن، حيث سافر السلطان إلى فارسكور في تلك السنة، وبسبب ذلك منع المُوكلون غالب الأُضحية، ومُنِعَتْ توزيع الأضاحي بالقاهرة، حتى أن كبار رجال الدولة لم يوزعوا أضاحيهم، اقتداء بغياب السلطان، ووصف الصيرفي هذا العيد بأنه كان أشبه بالمأتم، بسبب تلاشي فرحة العيد بمنع توزيع الأضاحي.
وفي عام 885 هجريا، ذبح السلطان ذبائح هائلة، ولم يُوكِلْ توزيعها للمباشرين لقيامهم باختلاس الأضاحي، بل وزِعَتْ في حضور السلطان بنفسه علي الخواص والعوام، وكُلِفَ "ديوان خاص" بتوزيع الأضاحي، عن طريق بطاقة عليها توقيع وكيل السلطان.
ويقول المقريزي في كتابه "الخطط" الناس في صبيحة عيديْ الفطر والأضحى كانوا يخرجون ويطوفون شوارع القاهرة والإسكندرية بـ (الخيال والتماثيل والسماجات) والخيال هو لعبة خيال الظل المُضحكة التي تحولت مع الزمن إلى لعبة الأراجوز المعروفة والسماجات يقصد بها الملابس التنكُرية.
وبالنسبة للعيدية، فترجع هذه السُنَة الحسنة لعصر المماليك وكان اسمها "الجامكية" وتم تحريفها إلى كلمة العيدية، ويُذْكَرْ أن السلطان المملوكي كان يصرف راتبًا للأمراء وكبار رجال الجيش ومَن يعملون معه بمناسبة الأعياد، فكانت العيدية تُقدَم للبعض على شكل طبق مملوء بالدنانير الذهبية، وآخرون يُمنَحون دنانير من الفضة، وذلك إضافة للمأكولات الفاخرة.
والجدير بالذكر أن احتفالات عيد الفطر اتخذت صورا شعبية ورسمية ففي العصر المملوكي كانت مظاهر الاحتفال بالعيد في صباح اليوم الأول تتمثل في اجتماع أهالي الحي أمام منزل الإمام الذي سيصلى بهم صلاة العيد في المسجد فإذا خرج الإمام استقبلوه وبأيديهم القناديل يكبرون طوال الطريق، وهم يزفونه حتى المسجد، وبعد الصلاة يُزَفْ الإمام وهو عائد لداره بنفس الطريقة التي جاء بها.
ومثل الفاطميون، اعتاد المماليك الخروج لزيارة المدافن وتوزيع الصدقات، وذلك أول أيام العيد، كما حرص المماليك على زيارة أقاربهم، وإقامة النُزهات النيلية، فكانت تشهد بركة الفيل وجزيرة الروضة وحي الأزبكية ازدحاما هائلا، وللعِلم فضل المصريون في العصر المملوكي أكل السمك المشقوق أي السمك المجفف البكلاه.
وفي تلك الفترة من العصر المملوكي، كانت تُلْقى بالحدائق العامة القصائد الشعرية لكبار الشعراء أمثال ظافر الحداد والقاضي الفاضل والبهاء زهير، بل إن الشاعر المملوكي ابن دانيال، دعا الظاهر بيبرس -سلطان المماليك- لحضور ثلاث مسرحيات شعرية في أحد أيام عيد الأضحي تمثل مواقف كوميدية ساخرة، وعرضها عليه عن طريق مسرح خيال الظل الشعبي الذي تطور كثيرا في عهد الدوله المملوكية الأولى، بحسب ابن تغري بردي في كتابه "النجوم الزاهرة في أخبار مصر والقاهرة".
|