القاهرة 15 يونيو 2022 الساعة 11:37 ص
بقلم: أحمد محمد صلاح
دعونا نتخيل أن لدينا طفلا عمره حوالي ستة أشهر، بالكاد توقف هذا الطفل عن البكاء دون سبب وبدأ يستكشف العالم أمامه، هذا الطفل إذا تأملناه جيدا فهو نموذج للإنسان الأول، سوف يحاول هذا الطفل أن يتكلم أو بالأحرى يعبر عن نفسه من خلال بعض الرموز والصيحات وإذا فشل عاد مرة أخرى إلى البكاء، فهو لا يستطيع أن يقول أنا جائع، ولكنه من الممكن أن يقول "مم" وإذا شعر بالعطش يقول "امبو" وهكذا... هذه الإشارات أو الكلمات القصيرة هي بالضبط ما بدأ بها الإنسان الأول مسيرته نحو بداية اللغة.
اللافت هنا أنك تستطيع أن تجعل حيوانك الأليف يعتاد تلك الكلمات أيضا، إذا سألت كلبك أو قطك مثلا "مم؟" واعتاد علي تلك الكلمة ستجده باستجابة شرطية يفهم أن موعد طعامه قد حان، وبالتالي عند سماع تلك الكلمة يتأهب للطعام، ولكنه لن يستطيع نطق هذه الكلمة حتى إذا أوهمنا أنفسنا أن القط قد طلب بنفسه الطعام وصرخ فينا قائلا "مم".
وهذا ما يجعلنا نسأل أنفسنا لماذا لا تنطق الحيوانات، في القرآن الكريم يقول تعالى: "وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ ? وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ ? إِنَّ هَ?ذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ" النمل (16) أي أن لغة الطيور والحيوانات ليست لغة كلام بل منطق، أي أنها تحتوي علي إشارات وصيحات وغيرها مما تجعل الحيوانات تفهم بعضها البعض، أما الإنسان فإن هناك "جين" في رأسه جعله يستطيع الكلام.
وإذا قارنا بين الإنسان والقرد، سنجد أن كليهما يمتلك لسانا وشفتين، ولكن المخ لدى الإنسان مجهز ليتكلم، أما القرد فيظل حيوانا فقط، لذلك كانت نظرية ناعوم تشومسكي أكثر منطقية في هذا الصدد.
ناعوم تشومسكي أحد الأسماء المهمة في علم اللغويات والملقب بأب علم اللسانيات الحديث، ويعتقد تشومسكي أن تحورا جينيا عرضيا حدث في الفترة الممتدة بين 50 ألفا إلى 100 ألف عام مع ظهور الرسومات علي الصخور وجدران الكهوف، أدى هذا التحور إلى ظهور القدرة اللغوية التي تحولت لاحقا إلى موروث جيني، وهو ما يعني أن الملَكة اللغوية موجودة بالفطرة لدى الإنسان الحالي، وأن هناك جهازا غير منظور يشغل اللغة في الدماغ.
ويعتقد أيضا أن هناك لغة عالمية واحدة مشتركة وأن كل اللغات كذلك تتشابه لأن قواعدها واحدة في النهاية، ولكن فيها لهجات متنوعة ومختلفة، لكونها لغة بيولوجية في الأساس، وضرب مثالا على ذلك أن أحد سكان الفضاء إذا جاء إلى الأرض سيجد الجميع يتكلمون لغة واحدة ولكن بلهجات مختلفة، وهي التي يسميها اللغة العالمية..
لاقت نظرية تشومسكي تأييدا واسعا في الأوساط اللغوية، غير أن معارضيها كانوا بالطبع كثيرين، إذ وقعت النظرية في مشكلة بسيطة وهي أن التحول السحري أو وجود الجين كان مفاجئا، وكيف وصل الجين إلى الحمض النووي للإنسان فجأة، وأيضا تحديده للفترة الزمنية بقبل 100 ألف عام ليس عليه أي دليل.
أما إيفرت دانييل فهو يقف على جانب آخر تماما من نظرية تشومسكي، حيث يفترض أن اللغة قد تطورت بشكل بطيء للغاية، ولكن بشكل ثابت، ولم تظهر بشكل مفاجئ واحتاجت إلى فترات طويلة للغاية لتتكون بشكلها الحالي، ويحدد إيفرت مدة لا تقل عن مليوني سنة.
وأنا شخصيا أقف في صف إيفرت، فليس من المعقول أن ينطق الإنسان فجأة كما يفترض تشومسكي، ولكن الأمر تطور ببطء مثلما الحال في كل العلوم والمعارف التي بدأ الانسان يدركها ويتعلمها بالتجربة والخطأ، كذلك اللغة التي بدأت تنمو وتتطور شيئا فشيئا، ولأن الإنسان عرف الترحال وترك مكانه وانفصلت منه مجموعات في أماكن عدة في العالم، من هنا نشأ تعدد اللغة.
ونعود إلى إيفرت الذي يفند نظرية تشومسكي بفرضيات عديدة، فيقول أن الانسان العاقل الأول (هومو سابينس) قد ظهر قبل 200 ألف عاما تقريبا، وهذا يعني أنه لم يخترع اللغة بنفسه بل سبقه الإنسان المنتصب (هومو أريكتوس) الذي ظهر في أفريقيا وانتشر في بقاع الأرض مثل أوروبا والصين وغيرها.
ويستطرد إيفرت أن الانسان أنتج اللغة وكانت بسيطة للغاية وقوبلت من باقي جنسه باهتمام حتى يستطيع التواصل والاتصال دون رموز أو تعبيرات صوتية، فالإنسان بدأ يتطور، وأصبحت اللغة مهمة حتى لايقع في مشكلات بسبب سوء تفسير الإشارات.
أمضى إيفرت سنوات لا بأس بها مع إحدى القبائل البسيطة في غابات الأمازون، وخرج بنظريته تلك التي تقول أن اللغة تتطور وفقًا للحاجة، ووفقًا للثقافة السائدة.. وهذا بالفعل ما نراه من دخول كلمات جديدة من اللغات المختلفة إلى أي لغة، وتأثرها بالثقافات الوافدة بل أحيانا يتم إنتاج كلمات لتحل محل أشياء لا نعرفها أو مستحدثة..
إذا ما زالت اللغة في تطور دائم.
|