القاهرة 18 مايو 2022 الساعة 05:51 م
كتب: شعبان ناجي
غريب أمر أبي منصور الثعالبي، فقد ألف الرجل أربعة كتب متطابقة جميعها فى عناوينها ومضمونها، والذي تابع هذه الكتب أو اطلع عليها سوف يتأكد من ذلك، وسوف يقف مبهوتًا من فعلة الثعالبي هذه، وقد يروح في تفكير بعيد من أجل اكتشاف سر هذا الأمر؛ لكن من الراجح أنه لن يصل إلى شيء؛ لأن الثعالبي نفسه ربما لا يعرف يقينًا لماذا قدم مثل هذه الكتب الأربعة المتشابهة فى شكلها ومضمونها.
والكتب الأربعة التى نقصدها هي "تحسين القبيح وتقبيح الحسن"، و"اليواقيت في بعض المواقيت"، و"سجع المنثور" و"الظرائف واللطائف" وهذا الأخير هو الذي سنتناوله فى هذه المقالة، وهو كتاب تقوم مادته على مجموعة من المقتطفات والاختيارات الدينية والأدبية التي تعبر عن مدح الأشياء وذمها فى الوقت نفسه، مثل مدح الدنيا وذمها، أو مدح الفقر وذمه، أو مدح الشعر وذمه، ومدح الحيوان وذمه، وغير ذلك من الأشياء. وهو يعتمد في ذلك على مجموعة من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تعد بمثابة العمود الفقري لهذا الكتاب، فضلًا عن بعض الأمثال والحكم وأقوال بعض الحكماء والفلاسفة والشعراء والمتحدثين.
تلك هي الفكرة العامة لكتاب أبي منصور الثعالبي، وهي كما نرى ليست فكرة جديدة مبتكرة، فمثل هذه الكتب القائمة على المختارات تم تناولها كثيرًا من قبل كتاب وشعراء وفلاسفة، فالجاحظ مثلًا قدم لنا "المحاسن والأضداد"، ولكم أن تتأملوا في عنوان هذا الكتاب، لأنه العنوان المتشابه تمامًا مع عنوان كتاب الثعالبي "تحسين القبيح وتقبيح الحسن"، وهو لمن قرأه يحمل نفس فكرة كتب الثعالبي الأربعة وعلى رأسها "الظرائف واللطائف"، وهنا يتضح لنا أن الثعالبي قد أخذ عن الجاحظ -السابق عليه- فكرة كتابه، بل إنه نقل أجزاء كثيرة منه لا سيما التي تتعلق بمدح الجواري وذمها أو بمدح الموت وذمه، كما أن للجاحظ كتابًا آخر وهو "الآمل والمأمول" أخذ الثعالبي بعض فقرات منه وضمّنها فى كثير من كتبه وبخاصة الكتب الأربعة سالفة الذكر، وهناك كتب أخرى لكتاب غير الجاحظ نقل عنها الثعالبي نذكر منها "المحاسن والمساوئ" للبيهقي، و"ذم الغيبة والنميمة" لابن أبي الدنيا، فضلًا عن كتب أخرى للحريري وابن قتيبة وابن عبد ربه.
وإذا كانت فكرة كتاب اللطائف تقوم على مدح الشيء وذمه، فلماذا كتب الثعالبي كتابه "تحسين القبيح" ولماذا كتب كتابه "اليواقيت فى المواقيت" ولماذا كتب أيضا "سجع المنثور" طالما تدور كلها فى فلك واحد وموضوع واحد؟ هل أراد الثعالبي أن يعد كتبا وفقط؟ هل أراد أن يتفوق على مجايليه فى عدد المؤلفات دون الالتفات إلى الجوهر؟ أم ترى كان همه الأول مصبوبا فى أن يكون ذا حظوة عند السلطان.
في حقيقة الأمر نرجح أن يكون هذا هو ما حصل بالفعل، فالثعالبي رغم نشأته فى أسرة رقيقة الحال كان دائما متطلعًا للمناصب والنفوذ والثروة؛ لذا نراه متزلفًا للسلطة على الدوام، حيث نشأت بينه وبين أغلب سلاطين عصره علاقات وطيدة لدرجة أنه ألف بعض الكتب خصيصًا باسم بعض هؤلاء الملوك يمدحهم فيها ويعدد مناقبهم التى لم يأت الزمان بمثلها.
ولقد كان على رأس السلاطين الذين تقرب إليهم الثعالبي "أبو العباس بن مأمون خوارزم شاه"، فقد ألف كتابه "الظرائف" من أجل خاطره وتسليته والتسري عنه فى أوقات الضيق والملل، ثم بعد ذلك وضع الكتاب معززًا مكرمًا فى خزانة السلطان لتزيينها مع كتب أخرى قليلة النفع والقيمة، ولا أدل على ذلك من مقدمة كتاب الظرائف التي راح الثعالبي يمدح فيها سلطانه الأثير، بل نجده يستميت فى البحث والتنقيب عن كل صفة مدفونة ليستخرجها ويلصقها بمولاه حتى وإن لم تكن متوافقة معه أو راكبة على شخصيته، فهو يقول: "شكرًا شكرًا لبحر المجد وبدر الأرض مولانا الأمير الملك المؤيد العادل العالم أبى العباس مأمون، أدام الله سلطانه، وحرس عزه ومكانه، فقد بسط باع العدل، وأطال عنان الفضل، وجلا صفحة الإحسان، وفرش مهاد الأمن والأمن".
وهنا يتضح لنا مدى التملق الذي كان يتملقه الثعالبي لسلطانه الذي نراه معطالًا من كل تلك المدائح التى أغدقها عليه الثعالبي، فنحن لم نعرف يومًا أنه كان من زمرة العلماء، ولم نعرف شيئا عن ورعه وعدله أو عن بنائه لتلك الحضارة المترامية التى سدت عين الشمس، بحسب تعبير الثعالبي نفسه.
وأما عن تناول الثعالبي لمدح الأشياء وذمها، فقد جاء دوره سلبيًّا في كثير مما قدم، فهو كان مجرد ناقل لا أكثر، اعتمد فقط على ثقافته الواسعة في نقل أقوال العلماء والحكماء، لكنه لم يقدم لنا وجهة نظره فى ما يعرضه علينا ولم يفند أو ينتقد تلك الأقوال المنقولة عن غيره من الكتاب، بل وضعها كما هي من دون قراءة أو مناقشة أو تحليل.
ونحن نعتقد أن الشيء الممدوح ليس ممدوحًا بذاته، كما أن الشيء المذموم ليس مذموما أيضا بذاته، وإنما هناك عدة عوامل وظروف وملابسات وأقاويل أوصلت جميعها هذا الشيء لأن يكون ممدوحا أو لأن يكون مذموما، فهل عالج الثعالبي كل هذه الظروف والملابسات؟ هل أدلى بدلوه إزاء أقاويل غيره؟ هل جاء بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية لتكون مجرد حلية يجمل بها كتابه؟ هل ناقش تلك التفسيرات التى وضعت لبعض الآيات والتى فسرت خطأ أو الأحاديث التى جاء معظمها ضعيفا ومشكوكا فى نسبه إلى النبي صلى الله عليه وسلم؟.. للأسف الشديد لم يفعل الثعالبي أيا من هذا كله، وإنما ترك الأمور على عواهنها، فجاءت رميته من غير رام.
من هنا، كان لا بد أن يفقد كتاب الظرائف والطرائف مصداقيته وبريقه في عصر مثل عصرنا هذا، فمادة الكتاب لم تعد تنفع القارئ والباحث على السواء. فالقارئ العادي لن يجد المتعة الكافية في هذا الكتاب؛ لأن هناك عشرات بل مئات من الكتب التى تقدم مثل تلك الطرائف والظرائف بصورة أسهل وأسرع، وأما الباحث فلن يعتمد على كتاب للتسلية لا علاقة له بالمنهج العلمي إلا قليلًا، ولا يقدم رأيًا مستنيرًا، كما لا يقدم أفكارًا متجانسة أو وجهة نظر مخالفة.
|