القاهرة 19 ابريل 2022 الساعة 10:07 ص
بقلم: حاتم عبد الهادي السيد
يحيلنا الشاعر المغربي الكبير الدكتور أحمد مفدي في ديوانه: "في انتظار موسم الرياح" إلى ما ورائيات المعنى عبر فلسفة ذاتية تنحو إلي التصوف تارة، وإلى الذات والعالم تارة أخرى، وإلى الواقع المعاش، وعالمنا العربي والإسلامي كذلك، عبر حس عروبي قومي، ونزوعات نحو الرمزية واستلاب دواخل الروح بما يجعل القارئ -منذ بداية الديوان- يقف منتبها، فنحن أمام شاعر يمتلك القريض والبيان، ويمسك بزمام جواد اللغة ليصنع من حروفها عجينة الخلود الكوني، يتماس مع الذهن والروح، ويقتلع المعنى من شموخ الصور، وسحر المعاني، فهو شاعر تفعيلي -ما بعد حداثي- يعيد تثوير المعاني ويُثوَّرها في قلوبنا فتنطلق ثورة الكلمات مع صهيل الحروف، وهو عبر العنوان "في انتظار موسم الرياح" يحيلنا إلي فضاءات الريح العاتية، ولم يقل مثلا: في انتظار الفجر، فالرياح تدلل إلى معاني القوة، وهو ينتظر تلك الرياح لتجتث الظلم والرهبوت من العالم، فالرياح دليل العواصف التي يستتبعها الغبار والإنذار بالمطر القادم والثورة، حيث الوطن، يخاطبه ويعاهده، ويكلمه، يقول:
(يا وطني....
لَنْ تُضْمَـرَ فِي شَـفَـتِي كَلِمَاتُ الْعَصْفْ....)
(وَالْحَرْفُ إِذَا شَعْشَعَ فِي أَعْمَاقِ السَّـحَـرَهْ.....
لَنْ تُطْفِئَهُ أَمْوَاجُ النِّطْعِ وَلَا أَسْيَافُ القتَـلَـهْ...).
إنها ريح الثورة المقبلة، الغضب الساطع، آيات وأوراد الثورة، يمزجها بحس متصوف يقرأ "أوراد الثورة القادمة"، يقول:
لَـمَّـا سَـمِـعَـتْ (أَسْـمَـاءُ) مُـرُورَ قطيعٍ
يَفْظَعُ فِي سَطْـحِ (الصَّرْحِ / الْقَفْرِ) عَـشِـيًّا
كَـانَ يُرَتِّلُ فِـي جَـبَـلِ الْآبَادِ بِـقَـرْيَـتِـنَـا
أَوْرَادَ نُـزُولِ الـحَـرفِ كَـصَـاعِـقَـةٍ.....
تَـحْـكِـي آيَـاتِ الثَّـوْرَةِ.
وشاعرنا هنا يُغيِّبُ الرمز خلف ظاهر المعني، ويكسو قصائده بغلالة من مرموزات التصوف الذاتي، عبر المحبوبة المقدسة التي يطوف علي خلجانها، ويسوح معها في رحلة عشق مغاير، عبر "مقولات قروية" يغلق فيها الرموز لتصدح اللغة عبر تراكبات المعنى ومقابساته، ومخاتلاته، فهو يعرج مع الحبيبة، عبر العاذلة، وكأنه ينكر أي معني مُضاف، فالكلام للعاذلة وليس له، عبر رحلة العروج إلى أنثى الذات وتقوقعاتها، وعبر متخيلات المعنى عبر الصورة والظلال، والمعاني الثواني، وعبر ما بينيات الصور، وما خلف دوال المعنى تجيء القصيدة شامخة، عبر لغة ثرية مكتنزة، ذات دلالات منفتحة على التخييل والمعجم الجميل الملغز لشاعر ينسج من عباءة اللغة تصوفها هي كلغة، أولاً، وجمالياتها الكامنة في ترميزاتها غير المتراتبة، وكأنه يُشظي المعني عبر حقول دلالية وسيميائية، ودوال سيموطيقية تدور حول معان تفضي إلى مُستغلقات وتناصات سياقية، وأطر لا ميتافيزيقية، عبر فيزياء اللغة الجميلة التي تشعرك بشموخ، وحيرة، فتعيد القراءة من جديد، يقول:
قَالَتْ عَاذِلَتِـي:
كُـنْ فَـرْدَا....
فِـي رَضْـواكَ وَلاَ
تَـخْـشَ ــ مِـنَ الـنَّـاسِ وفِـي اللَّـهِ.....
وَفِـي يَـدِكَ الـمِـشْـكَـاةُ
مَـتَـى سِـرْتَ عَـلَـى الـمَـمْـشَى ــ أحَـدَا.....
وأَنَـا أَعْـبُـرُ شَـوْطَ الـمَـرْوَةِ
حَـتَّـى صِـرْتُ بِـعَـيْـنَـيْـكَ صَـدَى.....
فَـتَـأَمَّلْ.....
إِنْ كُـنْـتَ تُـحـبُّ الـمِـعْـرَاجَ لِـمَـلْـقـانَـا.....
هَـلْ تَـدْرِي أَنِّـي
فَـاتِـنَـةُ الأَعْـطَـافِ وكَـاشـفَـةُ الأسْـرارِ لِـمَـنْ
سَـوَّى الـسَّـوْرَةَ
ثُـمَّ يَـكُـونُ. الـنَّـجْـدَانِ كَـمَـا كَـانَـا.....
سَتَـرانِـي عِـنْـدَكَ أَسْـكُـنُ غُـنْـجَ امْـرَأَةٍ.....
حِـيـنَ (الـقَـوْمَـةِ)
فِـي ظَـلْـمَـاءِ الـوَادِي أَوْ أَسَـدَا......
تُحْـكِـمُ فِي الْحَيِّ رِتَاجَ الْبَابِ غَـدَا....
عِـنْدَمَا تَـغْـشَـى
فِـي نَـجْـوَاكَ سَـتَعْلَـقُ
مِخْلَاةُ الْعَلْـفِ بِأَعْنَاقِ جِيَادِ السَّبْقِ فَـيُـمْـسِـي
شَـبَـقُ الـخُـنَّـاسِ هَـبَـاءً مُـرْتَـعِـدَا....
عِـنْدَمَا تُوقَدُ نَارٌ
فِي أَغْصَانِ الْحُزْنِ الْمَكْسُورَةِ
تُـشْقِي مَنْ شَاكَسَ غِرْبَانَ الدِّمَـنِ....
فَـهُـنَـاكَ تَـرَى عَـجَـبـًا:
شَطَـحَاتِ النَّهْبِ.....
وَعَـيْـنُ الـعَـاشِـقِ تَـبْـكِي مِـنْ وَهَـنِ.
وشاعرنا يُغَلِّقُ مقصدياته عبر مرموزات سياسية وترميزات واستدعاءات تاريخية لنيرون وهامان، النمرود، ومن عقروا الناقة "ناقة صالح عليه السلام" وكلها مرموزات لظلم الحاكم والسلطان والملك، ولقسوة وبطش من حوله، وهو هنا يجابه الجبروت، وينتقد الطغمة الحاكمة ويعصرهم، لكنه لا يستطيع الجهر إلا من خلال "تغييب الرمز" وكأنه يصنع "أحجيات الملك داود"، عبر لغة التصوف وهيوليتها، ويبحث عمن سرق المُشار إليه في النص، فالدال لا يفضي إلى مدلول، والمدلول تستتبعه رموز ومستغلقات، عبر صور غاية في الأناقة والشموخ، فاللغة هي البطل الذي نلتف حوله، لنستلهم منه معاني الشموخ والثورية، وما خلف ظاهر المعنى هو المعنى المراد، وكأنه ينشد ما بعد حداثة المعنى ليعيد القارئ لفك بنيوية الشيفرات، وتفكيكها، وحل الرموز المُبتغاة، يقول:
لَـمَّـا سَـافَـرَ فِـي عَـنَـتٍ
مَـنْ فَـقَـدَ الـصَّـحْـبَ ولاَ
يَـتَـمَـلَّـكُ في الـمَـسْـرَى مُـلْـتَـحَـدَا....
هَـلْ يُولَـدُ مَـوْلُـودٌ
فِـي مَـأْوَى (الـنَّـيْـرُونِ) الـمَـوْؤُودِ
-جـثِــيًّا- بِـالسُّـفْـرةِ
شَـابَـهَ (هَـامَـانَ) كَـأَنَّـهُـمَـا
(طِـيـنَـانِ) اتَّـحَـدَا....!؟
يَـمْشِي مُـحْـدوْدبَ ظَـهْـرٍ
غَـالـبَـهُ الـعِـصْـيَـانُ فَـأَمْـسَـى الـغَـيُّ بِـهِ مُـتَّـقِـدَا.....
كَـيْـفَ تَـقُـولُ لَـهُ:
خَـفِّـفْ عَـنْـكَ عَـنَـاءَ الـحِـمْـلِ وَسِـرْ
مُـتَّـئِـدَا....
قَـالـتْ: يَـا سَـيِّـدَ مَـنْ أهْـوَى...
هَـذَا، الـخُـنَّـاسُ الآفِـكُ / يَـلْـهُـو /
يَـعْـبَـثُ / يَـنْـقُـرُ / فِـي اللـيْـلِ /
نَـواقِـيـسَ الـبَـابِ /
وَيَـسْـطُـرُ فِـي لَـوْحِـهِ إِمْـرَا....
هَـلْ تَـدرِي
مَـنْ سَـوَّدَهُ فِـي الـظُّـلْـمَـةِ قِـرْدَا....!؟
فَـتَـمَـلَّـكَ فِـي تَـاريـخِـهِ إِ صْـرَا...
هُـوَ. (نَـمْـرُودٌ)...
تَـعْـرفُـهُ (الَـعَـرَّافَـةُ) فَـاحْـذَرْ ....
الـمَـارِدُ يُولدُ مِـثْـلَ شُـواظِ النِّـقْـمـةِ
يَـبْـذُرُ مَـيْـسُـورَهُ عُـسْـرَا...
يَـمْـشِـي فِـي الـحَـارةِ مُـلْـتَـفِـتَـا...
يَنْطُفُ ثَـلْـجـًا / نَـارًا /
مِنْ مُقَـلٍ تَـجْـحَـظُ فِي نَافِذَةِ الصحراءْ....
لِـتَـرَى كَـوْكَـبَ نَـارٍ وَجِـمَـالاً حُـمْـرَا....
تَـتَـمَـطَّـى فِـي عَـيْـنِ الـشَّـاعِـرِ قَـرْيَـةَ مَـنْ
عَـقَـرُوا ( الـنَّـاقَـةَ ) ظُـهْـرًا.....
تَـبْـدُو لِلْـعَـاشِـقِ ظُـفْـرًا....
يَخْدِشُ....
يُـسْـرِجُ خَلْفَ غُبَارِ الوأْدِ جِـيَـادًا
كَـانَـتْ تَـحْـرُسُ أبْـطَـالَ ( الـبَـلْـقَـاءْ )...
وإذا كان الشاعر يغلق، أو يخفي كل المفاتح للبحث عن مفاتيح لفك المُستغلقات، إلا أن المعنى الكاشف هنا -عبر الاستيحاءات- والتضمينات تأتي كشذرات لتحيلنا إلي نيرون وحرقه لرومان، أو عنت فرعون وحديثه لهامان لأن يبني له صرحا ليصعد ليرى إله موسي عليه السلام، وهو دليل التكبر والجبروت، أو يأتي بقصة من عقروا ناقة صالح لظلمهم وتجبرهم، أو النمرود الذي قال: "أنا ربكم الأعلي"، فسلط المولي عز وجل بعوضة تطن له في أذنه، ولا يريحه إلا الضرب علي رأسه بالنعال وكلها مرمزوات تكشف عن قصدية المعني الذي تغياه عبر رفضه للسلطة ونظام الحكم –آنذاك– ولكن بصورة رامزة، ولقد حاولنا –هنا– فك مستغلقات المعني عبر التأويل، وازاحة المعاني السطحية، والكشف عن البني العميقة التي تحتفي وراء ظلال المعنى ومرموزاته البعيدة، لذا رأيناه يكمل ما بدأه –وما تأولناه– في قصيدته: "المقولة الـمَـسْـجُـورَةُ"، فهو -هنا- عبر العنوان الرامز، والدوال التي يخفيها، ويرمز لها بشيفرات تكشف عن كنهها عبر غلالة المعنى، والصور التي تشبه السوريالية، أو شجرة جميلة عراها الخريف، فنراها شامخة جميلة رغم تعريها، فهو يكشف لنا عورات النظام والأنظمة العربية، ويهرف في مرمزواته ليُسجّر مقولاته بأقفال، وشيفرات، يقول :
يا ليلَ الْحَاضِرِ، طُلْ إِنْ شِئْتَ زَمَانَا
فَأَنَا أَنْـتَظـرُ....
مَـنْ يَـأْتِـي.....
لَا بُـدَّ مِـنَ الـصَّـحْـوَةِ كَـيْـمَـا
أَرْقُم حَـرْفًـا مِـنْ
ثَـوْرَةِ أَسْـرارِ ( الـنُّـونِ) وَقَـدْ كُـتِـبَـتْ...
وَهَـجـًا فِـي سِـجِّـيــلٍ
مِـنْ صَـمْـتِـي الـصَّـيْـفِــيِّ الـمَـكْـبُـولْ....
وَاُسَـجِّلْ....
ثُـمَّ أُسَـائـلُ عَـنْ آزِفَـةِ الـغُـمَّـةِ
تَـارِيـخَ الأُمَّـةِ مَـنْ سَـلّـمَ أَوْطـانـا....
(وَمَـفَـاتِـيــحَـهُ) للـقُـرْصَـانْ....
مَـنْ بَـاعَ الـخُـلْـجَـانَ.....
وحَـيَّـا قَـوْمَـهُ شَـزْرا
حِـيـنَ رَمَـى
وِجْدَانَ الـصَّـحْـرَاءِ
بِـأَحْـضَـانِ الـشَّـيْـطَـانِ وَنَـامَ مُـهَـانَـا.....
إن المقولة المسجورة هنا تكشف عن مؤامرة، لتسليم الصحراء المغربية للقرصان في إسبانيا، كما يكشف دال الصحراء والقرصان واستتباعاتهما عن التراخي من قبل القصر الملكي في شأن قضية الصحراء رغم مؤامرات ومخططات إسبانيا ومحاولاتها سلخ الصحراء الغربية في منطقتي: "الساقية الحمراء"، "ووادي الذهب" وفصلهما عن التراب المغربي بإنشاء دولة صورية هناك تكون تحت نفوذها ووصايتها، ومعنى لفظ القرصان حين ذكر الصحراء، فالإسبان كانوا القراصنة الطامعين منذ قرون، ولما قرروا العودة رأينا التراخي من قبل الملك الحسن الثاني، وهذا ما استدعى منا –الحتمية التاريخية– لفك الغازية المعنى المسجور، وفك شيفرة القرصان والصحراء عبر مثاقفات المعني والتأويل .
وفي قصيدته: مَـلَـكُـوتُ الـثـورة نرى انتقال الرمز، فالقرصان هنا ومرموزه انسحب على الظلم للحاكم ورجل السلطة والمتغطرس، كما رأيناه يصرح بمغاليق مرموزاته فقد قامت الثورة، لكنها هنا ثورة داخلية، يدعو لها من خلال صوفية عاشق في الوجد، وكأنه يتخفى وراء الدال الصوفي تارة، ووراء الدال الرامز ليحيلنا إلى ما ورائيات المعنى، فالثورة هي الثورة بظلمها وظلامها، لكنه يدلل بالرمز وبالوجد والعشق للمرأة ليحيلنا إلي الحبيبة ظاهريا، وإلى عمق المجتمع الاشتراكي الثوري المغاربي، كما رأيناه ينفجر ويتشظي، فلم يعد يحتمل لتنطلق المعاني زاعقة في فضاءات المغرب كلها من طنجة إلى فاس ومن مكناس إلى مراكش، وهو المغني ينشدها أشعاره وكوامنه، يُسمع العالم صيحاته عن الحرية والفجر الجديد،
يقول:
كَـيْـفَ انْـفَـلَـتَـتْ
شَارَاتُ الثَّوْرَةِ.
مِـنْ مَـلَـكُـوتِ الْأحْزَانِ....!؟
بـبَـابِ الـوَجْـدِ / تَشُدُّ الأَهْـوَالُ
حِـبَـالَ الرُّؤْيَـا لِلْخَلْفِ، وَتَـنْـسَـى
أَنَّ الْعَـاشِـقَ
آبَ سَـنِـيًّـا في الفجرِ إِلـَى
بَـيْـتِ الـحُـبِّ وَقَـدْ
كَـانَ يَـعِـيـشُ بِـلاَ أَوْطَـانٍ....
والـكَـوْنُ الْمُشْرِقُ
فِي المَـلَـكُـوتِ يُـصَـلِّـي / يَـنْـمَـاثُ /
يَـدُورُ / يُـسَـبِّـحُ حَـمْـدًا /
يَـحْـلُـمُ بِـالْـمَـعْـشُـوقِ هُـيَـامًـا....
وَيُـحَـثْـحِـثُ مَـا كَـانَ بِـأَيْـدِي الإخوانْ....
تَتَوَهَّجُ أحْلَاَمُ الْقَرْيَةِ رُؤْيَـا....
في خَـاصِـرِ عَـاذِلَـتِـي
كَـي تَـجْـرِفَ أَدْرانَ الأَوْثَـانْ..
هَـلْ تَـلتمِـعُ الـسٌّـقْـيَـا....!؟
وَالْكَرْمةُ مِـنْ سَـيْـفِ الـفَـارسِ
تَـقْـطُـرُ مِـنْ ثَـمَـراتِـهِ تَـكْـبِـيـرَةُ أَلـوَانْ....
لِـتَـرَى نبْعَ يَقينٍ ونُـجُـودا
كَـعَـنَـاقِـيـدِ الـثَّـوْرَةِ صَـارَتْ
أَتْـراحـًا / أوْ أَفْــراحـًا / أَوْ أشْـجَـانْ....
تَمْتَصُّ شَرَايِينَ الـخَـمْـرَةِ
لَـيْـلا....
(وَيُغَنِّي النَّاسُ صبَـاحًا /
فِي ليلِ بِلَادِي / الـدَّامِـسْ...
يَتَرَجَّوْنَ سَـراحًا)......
وَثَـكـالَـى الـسَّـوْأَةِ
يَـبْـكِـيـنَ عَـلَـى أسْـمَـالِ الـحَـارِسْ.....
لَـمَّـا هَـجَـمَ الــقُـرْصَـانْ.....!؟.
فالقرصان هنا هو الظالم، المتعطرس، الغدو الطامع الغاصب، والعدو الداخلي المقيم، فالقرصان هو القرصان بحسب المفهوم القديم عنه من سلب ونهب وغدر وسرقة للبسطاء من الشعب، وحكمهم بالعصا والرصاص كذلك.
ولا يكتف الشاعر بالتصريح بل نرى جهره بالأمر ومعارضته على الملأ بعد تعمية الرمز فقد ضاق صدره بصدع بأمر ربه، في قصائده المتتالية:
رسائلُ منسيةٌ في دائرةِ القهرِ، للثائر الخطابي، رِسَالَةُ سِرِّيَّةُ إِلَى الْكَتِيبَةِ الْمُرَابِطَةِ فِي الْوَاجِهَةِ، عَفَّـتْ قَافِلَةُ الرِّيفِ ( الـعِـلَّـةَ ) والـمَـعْـلُـولْ....!، ِطَاقَةُ تَعْرِيفٍ، أَوْ رِسَالَةُ الْوَصَايَا السَّبْعْ، لَحْظَةَ الْعُبُورِ فِي قَافِلَةِ الْمَنْفَى،(أَنَوَالٌ) فِي مُنْعَطَفِ التَّارِيخِ،َ وْدَةُ أَيُّوب إِلَى الْمَدِينَةِ الْمَرِيضَةِ .
ولعله من المنطقي أن يستدعي رمزية "جيفارا"، ليرمز للحرية المفقودة، والحرية التي تنشدها الثورة من زوال الطغمة واستتباب الأمن وتحقق العدل والكرامة والحرية لكل أفراد الشعب المقهور، قلقد ضاق ذرعا، وجهر بما يستطيع من قوة ليسمع العالم صياح ثورته المتمردة الثاثرة، يقول:
الـحُـزْنُ تَـمَـادَى وَالدَّمُ يَـجْـرِي...
يَتَدَفَّقُ مِـنْ بَـيْـنِ شَـرَايِـيـنِ الـوَطَـنِ.....
بِالْجُرْحِ الْفَائِرِ فِي الْقَدَمِ
لِيُعَانِـقَ كَالـنَّارِ، الْمُهَجَ المهروقَـةَ فِي الْأَوْحَالْ.....
بِالرَّفْضِ وَمَا
فِي هَذَا (الْقَلَمِ) المأسورِ بِـبَـابِ الْأحْزَانْ....
أَتَحَدَّى، أَقْـهَـرُ مَا فِي الْعَالَمِ مِنْ أَكْفَانْ
أَرْفُـضُ أَنْ أَبْقَى جَسَدًا مَنْفُوشًا، تُعْوِزُهُ الْأَشْوَاقْ....
يَمْشِي مَهْمُومـًا لَا يَـخْفِقُ بِالدَّمْ
مَصْلُوبَ الْمِعْصَمِ كَالـظِّلِّ عَلَى الْجُدْرَانْ....
يَـا صَـاحِـبَـتِـي: الـشَّـعْـبُ أَمِ الأَوْثَـانْ......!؟
فَـأَنَا لَوْ يضعونَ الرَّسَنَ الْمَسْنُونَ عَلَى قَدَمِي
وَالزَّاجَ(الْمَدَرْدَرَ) فِي الأعْـتابْ....
لَا بُـدَّ غَـدًا أنْ أَمْضِيَ مَلْهُوفًا لِلْوَطَرِ..
يا وطني....
كَيْ أَسْكُبَ مَا عَتَّـقْـتُ زَمَـانَ صِـبَاِيَ مِنَ الْأَلْحَانِ....
فِي وَطَنِي....
قَـدْ جِـئْـتُ أُعَانِقُ فِي الْفَجْرِ الضَّاحِكِ
نَشْوَةَ إِيحَاءِ الْقَمَرِ....
ويتابع الشاعر الجهر والرفض بكل قوة فلم يعد يرهبه أي شيء، ولا تخيفه قوة الظلم، فقوة الايمان والارادة أكثر قوة وصلابة من بطش السلطان والنفي والتشريد والسجن، يقول:
لَوْ يَحْـثُـونَ الرَّمْلَةَ فِي الْحَدَقَـهْ
كَيْ أَعْمَى فِي لَيْلِ الْقُرْصَانِ
(فَيَمُـرُّونَ) أمَامِي فِي عَرَبَاتِ النَّهْبِ
فَأَنَا أُبْصِرُ فِي اللَّيْلِ
وَأَزْرَعُ فِيهِ الإعْـصارْ....
حَتَّى لَوْ قُـصَّ جَنَاحِي....
أَتَحَدَّى....
وَأَدِبُّ عَلَى قَدَمِي
لأُحَـطِّـمَ مَـا بَـقِـيَ الآنَ مِـنَ الأَوْثَـانْ.....
حَتَّى أَتَعَمَّدَ فِي وَطَـنِـي
يَا آخِرَ لَـحْـنٍ رَجَّـعَـهُ إِصْرَارُ الـحَـزَنِ....
والديوان ينطلق من زاوية خاصة، عبر تغريبة نشدها، وترميزات تغياها، ولغة خاصة يتناولها بمرأى جديد، ومن زاوية خاصة، ولعل سيميائية وسحر اللغة لا تجعل أحدا يشك في تصوفه، لكنها لغة الثورة التي أعلن عنها في النهاية، فبدأها بالرياح، وأنهاها بالثورة والهتاف.
وفي النهاية: نحن أمام شاعر ثائر، مهموم بالوطن طوال الوقت، يماهينا ويخاتلنا بعروجه نحو الحبيبة تارة، وتصوفه تارة، لكنه تصوف العاشق للوطن، عبر محبوبة هي الحرية، التي ينشدها طوال الوقت. فقد ألغز مرموزاته في البداية، وصدح بها في النهاية، وكأنه يعرض للمراحل التي مر بها المغرب العربي من ظلم ورهبوت، وانتظار وصبر، ثم لما ضاقت الدنيا أتت الرياح بما لا نشتهي السفن فكانت ثورة في النور، أو هو ينشد ثورة الذات، بعد أن كانت داخل الروح والقلب والوجدان لتخرج ونصيح معه عبر الفجر الجديد، وهواء الحرية الجميل.
يظل الشاعر أحمد مفدي شاعر المغرب الكبير، باعث الوطنية، وصوت الثوار، وقائد التنوير بالشعر ليقود الشعب إلى مسيرة التحرر، ولقد كانت الكلمة سلاحه والشعر مدفعه، فانتصر الشعر على الظلم، واقتلعت رياح الثورة قصور الظلام والرهبوت، وتربعت الحرية عرش المغرب العربي الكبير، ومملكته الرائدة الممتدة عبر شواطئ الأطلسي الساحر المهيب.
|