القاهرة 14 ابريل 2022 الساعة 01:07 م
قصة: إيتالو كالفينو
ترجمة: شيرين النوساني
في يوم من الأيام كان هناك تاجران يعيشان بعضهما في مواجهة البعض، وكان أحدهما له سبعة أولاد، الآخر سبع بنات. وكان أبو السبعة أولاد كلما فتح باب شرفته كل صباح يحيي أبو السبع بنات ويقول له: صباح الخير يا "أبو المكانس السبع"، فيغتم التاجر وينزوي في كل مرة في بيته، وينخرط في البكاء من الغيظ. وتشفق عليه زوجته حين تراه في هذا الحال وتسأله في كل مرة ماذا به، ولكنه كان يلزم الصمت ويواصل البكاء.
وكانت صغرى بناته في السابعة عشر من عمرها وتتمتع بقدر هائل من الجمال، وكان أبوها لا يرى الدنيا إلا بعينيها. وذات يوم قالت له: إن كنت تحبني حقًّا يا أبى افضى لي بسبب همك.
فقال أبوها: يا بنيتي، التاجر الذي يسكن في مواجهتنا يحييني كل صباح بهذه التحية: "صباح الخير يا أبو المكانس السبع"، وأبقى هناك كل صباح ولا أعرف كيف أرد عليه، فقالت الابنة: أهذا كل ما في الأمر يا أبى العزيز؟ اصغ إلىّ. عندما يردد عليك هذه التحية قل له: "صباح النور يا أبو السيوف السبعة. لنتراهن: لنأخذ مكنستي الأخيرة وسيفك الأول ولنرى من منهما يحضر لنا أولًا صولجان ملك فرنسا وتاجه، فإذا نجحت ابنتي في إحضارهما أولًا تعطيني كل تجارتك وإذا نجح ابنك أعطيك كل تجارتي" قل له هذا، فإذا وافق فاكتب معه عقدًا في الحال ودعه يوقع عليه.
ظل الأب يستمع إلى حديث ابنته فاغر الفم، وعندما انتهت من كلامها قال لها: ماذا تقولين يا ابنتي؟ أتريدين أن أخسر تجارتي؟ -لا تخف يا أبي واتركني أتصرف. اهتم أنت فقط بمسألة الرهان أما الباقي فاتركه لي.
لم تغمض للتاجر عين طوال الليل. وانتظر بفارغ الصبر طلوع النهار. وأطل من الشرفة قبل موعده وشرفة جاره لا تزال مغلقة. وفجأة انفتح الباب وظهر أبو الأولاد السبعة، وألقى في وجهه التحية المعتادة "صباح الخير يا أبو المكانس السبع" فرد عليه من فوره: "صباح النور يا أبو السيوف السبعة...لنتراهن أنا بمكنستي الأخيرة وأنت بسيفك الأول ولنعطي كل منهما حصانًا وكيس نقود ونرى من منهما يستطيع أن يحمل إلينا تاج وصولجان ملك فرنسا. ولنتراهن بكل تجارتنا فإذا كسبت ابنتي أستولي على كل تجارتك وإذا كسب ابنك تنال كل تجارتي".
فنظر إليه التاجر الآخر قليلاً ثم انفجر في الضحك وأشار إليه بإشارة يعنى بها أنه جُن، فقال أبو البنات السبع: إذن أنت خائف؟ أنت لا تثق في نفسك؟ فقال الآخر وقد شعر أنه قد جرح مشاعره: أنا موافق ولنوقع العقد حالًا، وليرحلا.
وذهب من فوره وحكى كل شيء إلى ابنه الأكبر. فملأ السرور قلبه عندما عرف أنه سيقوم بالرحلة مع هذه الفتاة الجميلة. ولكن عندما رآها ساعة الرحيل وهي ترتدى ملابس الرجال وتمتطى صهوة مهرة بيضاء أدرك أن المسافة لا تحتمل العبث، وفي الواقع وبعد أن وقع الأبوان العقد بدأت الرحلة، فانطلقت المهرة بسرعة كبيرة وتعثر الحصان القوى المتين في اللحاق بها.
كان الطريق إلى فرنسا يقتضي اختراق غابة كثيفة مظلمة ليس بها طرقاً أو مسالك. فانطلقت المهرة في الجري فيها كأنها تجرى في بيتها فتدور على يمين شجرة بلوط وتلف على يسار شجرة صنوبر وتقفز من فوق أكمة عليق، وكانت لا تعدم وسيلة دائمًا في التقدم إلى الأمام. أما ابن التاجر فكان يتخبط في التقدم بحصانه الضخم فيصطدم أحيانًا بذقنه في غصن شجرة منخفضة ويقع من فوق السرج، وأحيانًا أخرى تنزلق أقدام الحصان في وحل مغطى بالأوراق الجافة فيقع الحصان على بطنه، وأحيانًا يتعثران في النباتات الشائكة ولا يستطيعان التخلص منها. وبينما هما كذلك كانت الفتاة قد اخترقت الغابة وتنطلق في العدو بعيدًا عنها.
كان الطريق إلى فرنسا يقتضي اجتياز جبل مليء بالمنحدرات والوهاد. وكانت البنت قد وصلت إلى سفحه عندما سمعت عدو حصان ابن التاجر القوى وهو يكاد يلحق بها. فأقبلت المهرة على المرتفع بصدرها وأخذت تلف وتقفز كأنها في بيتها وسط الحجارة الضخمة وتجد دائماً طريقها إلى الممر ومنه انطلقت في الجري فوق المروج. أما الشاب فكان يدفع حصانه للصعود دفعاً فيجذبه من اللجام بشدة وبعد ثلاث خطوات كانت تتساقط صخور الجبل فيعود من حيث بدأ حتى أصابه العرج.
كانت الفتاة تعدو بحصانها بعيداً نحو فرنسا. ولكن الوصول إلى فرنسا كان يقتضي عبور نهر. وكانت المهرة تعرف مسالك العبور كأنها في بيتها، فألقت بنفسها في الماء وانطلقت في الجري كأنها تجري على طريق مرصوف. وعندما وصلا إلى الضفة الأخرى التفتا إلى الوراء فرأيا الشاب قادماً على حصانه الضخم وهو ينخزه بالمهماز في الماء ليتعقبهما، ولكنه لم يكن يعرف مسالك العبور، وما أن دخل الماء حتى جرفه التيار هو وحصانه.
ووصلت الفتاة إلى باريس وارتدت ملابس الرجال وقدمت نفسها لأحد التجار فألحقها بالعمل صبيًّا له. وكان التاجر يمد قصر الملك بالزاد. ورأى أن هذا الشاب حسن المظهر فكلفه بتوصيل الزاد إلى القصر. فلما رأه الملك قال: من تكون؟ إنك تبدو أجنبيًّا. كيف جئت إلى هنا؟
فرد الصبي: يا مولاي.. اسمي تمبرينو وكنت أعمل طاهيًا لملك نابولي، ولكن سلسلة من المصائب ألقت بي هنا. قال الملك: وإن وجدت لك وظيفة طاه في قصر ملك فرنسا فهل تشغلها؟
- لتسمع منك السماء يا مولاي
- حسنا، سأتفاهم مع سيدك.
وفي الواقع تنازل التاجر عن صبيه على مضض للملك، فعيّنه الملك طاهيًا، ولكن كلما نظر إليه تسرب إلى نفسه الشك، حتى كاشف أمه ذات يوم وقال لها
-هناك شيء يا أماه في هذا التمبرينو لا أجده مقنعًا.. يداه ناعمتان وخصره نحيل ويعزف ويغني ويقرأ ويكتب. تمبرينو هو المرأة التي يقتلني هواها.
فقالت الملكة الأم: هل جُننت يا بنى!
-أقول لكِ إنه امرأة. فماذا أفعل لأتأكد من هذا؟
قالت الملكة الأم: الطريقة موجودة. اذهب للصيد معه فإذا طارد السمان فقط فإنه يكون امرأة لا تفكر إلا في الشواء، وإذا طارد الحسون فإنه يكون رجلًا لا يهمه إلا الصيد..
وهكذا أعطى الملك بندقيته إلى تمبرينو واصطحبه للصيد معه. وكان تمبرينو يركب مهرته التي كان يحرص دائماً على أن يصحبها. وراح الملك يطلق النار على طيور السمان ليخدعه. ولكن المهرة كلما ظهر طائر السمان كانت تشيح عنه، وأدرك تمبرينو أنها لا تريده أن يصيد السمان، فقال للملك: اغفر لى جرأتى يا مولاي ولكن هل من المهارة التصويب على السمان؟ لقد حصلت على ما تريده من الشواء، فصوب بندقيتك أيضاً على الحسون فهو أصعب.
وعندما عاد الملك إلى البيت قال لأمه: نعم كان يطلق النار على الحسون لا على السمان، ولكنى لست مقتنعاً فيداه ناعمتان وخصره نحيل ويعزف ويغنى ويقرأ ويكتب
. فقالت الملكة: حاول مرة أخرى يا بنى..
اصحبه إلى البستان لجمع الخس، فإذا جمعه من أعلاه فإنه امرأة، لأننا نحن النساء نتمتع بالصبر أما إذا جمعه من جذوره فهو رجل. وذهب الملك إلى البستان مع تمبرينو وأخذ ينزع الخس من أعلاه. وهم الطاهي بأن يفعل مثله ولكن المهرة التي تبعته أخذت تقضم وتقتلع الخس من جذوره فأدرك تمبرينو أنه يجب أن يفعل مثلها. وسريعاً جمع سلة من الخس اقتلعه كله من جذوره وبطين الأرض. وصحب الملك الطاهي إلى أحواض الورد. وقال له: انظر...ما أجمل هذا الورد يا تمبرينو. فأشارت له المهرة ببوزها إلى حوض آخر. فقال تمبرينو: الورد يدمى بشوكه. التقط القرنفل والياسمين ودعك من الورد.
أصاب الملك اليأس ولكنه لم يستسلم وردد على مسامع أمه: يداه ناعمتان وخصره نحيل ويعزف ويغنى ويقرأ ويكتب. تمبرينو هو المرأة التي يقتلني هواها.
-ما دمنا وصلنا إلى هذا الحد فليس أمامك، يا بنى إلا أن تصحبه معك للاستحمام. وهكذا قال الملك لتمبرينو: هيا معي، لنذهب للاستحمام في النهر.
وعندما بلغا النهر قال تمبرينو: اخلع ملابسك أنت أولاً يا صاحب الجلالة. فخلع الملك ملابسه ونزل إلى الماء. وقال لتمبرينو: تعال أنت أيضًا. وهنا تعالى صوت صهيل حصان وظهرت المهرة وهي تعدو بجنون والزبد يغطى فمها. فقال تمبرينو: مهرتى! انتظر يا مولاي يجب أن ألحق بمهرتي الجامحة! وفجأة لاذ بالفرار.
ووصل إلى القصر الملكي وقال للملكة الأم: مولاتي.. مولاي الملك خلع ملابسه ونزل في النهر. وجاء حراس لا يعرفونه ويريدون القبض عليه. وقد أرسلني لأحضر له صولجانه وتاجه ليتعرفوا عليه.
فأخذت الملكة الصولجان والتاج وناولتهما لتمبرينو.. وما أن وصل التاج والصولجان إلى يد تمبرينو حتى امتطى صهوة مهرته وانطلق وهو يغني :رحت ورجعت يا نور العين ومعي الصولجان والتاج وعبرت النهر، واجتازت الجبل، واخترقت الغابة، وعادت إلى البيت وكسب أبوها الرهان.
|