القاهرة 12 ابريل 2022 الساعة 12:18 م
كتب: شعبان ناجي
ربما يكون اسم زوران جيفكوفيتش مجهولا تمامًا من قبل الكثير من النقاد والكتّاب في عالمنا العربي؛ ذلك لأنه لم يترجم إلى لغتنا العربية من قبل، وروايته العجائبية الفريدة غريبة الأطوار الموسومة ب"المكتبة" والتي نختصها بالقراءة في هذه المساحة الضيقة هي أول ما يطالعه قراء العربية من إنتاج هذا الكاتب الصربي الجنسية، والحاصل على الدكتوراه من جامعة بلغراد في نظرية الأدب، وله أكثر من 70 كتابًا في أدب الخيال العلمي.
رواية "المكتبة" الصادرة عن دار أثر بالسعودية، بترجمة سلسلة ودقيقة لنوف الميموني، لاقت رواجًا كبيرًا على المستوى العالمي، مما أهلها لأن تترجم إلى أكثر من عشرين لغة؛ فضلا عن تقديمها على خشبة المسرح في عدة دول أوروبية مثل إيطاليا والبرتغال وروسيا.
نص "المكتبة" هو نص خيال علمي بامتياز، لكنه يكسر نظرية الواقعية السحرية التي ظلت سائدة حتى بداية الثمانينيات، وهو يتشابه في ذلك مع رواية مهمة ومثيرة اسمها "المؤتمر الأدبي" للكاتب الأرجنتيني سيزار آيرا.
العمل مكتوب بلغة أدبية رائقة شفافة، لذا فهو يأخذ بتلابيبك منذ السطور الأولى، حيث يفاجئك هذا الكم الهائل من الدهشة والإبهار، فلا تستطيع ترك هذه الرواية القصيرة الماكرة إلا بعد الإجهاز عليها تمامًا، فرغم أن الكاتب يحدثنا عن موضوع ربما يكون عاديًا للبعض، ومملا للبعض وربما محايدًا من قبل البعض الآخر، وهو موضوع الكتب التي لا تهم إلا النخبة القليلة المثقفة، فإننا نجد أنفسنا منساقين إلى كتب جيفكوفيتش متتبعين في تلهف عارم إلى مغامراتها المثيرة للدرجة التي نستشعر فيها أننا مشاركون بكليتنا في تلك المغامرة العجائبية.
الكتاب إذن، هو بطل هذه الرواية القصيرة، وهو ليس أوراقًا وغلافًا وحروفًا مرصوصة بجوار بعضها، وإنما هو حياة كاملة نابضة مفعمة بالصدق؛ حياة بكل ما تحمل من متناقضات غريبة ومريبة وغير متوقعة، فمن خلال الكتاب تستطيع أن تجوب العالم من موقعك، وتستطيع من خلاله أيضًا أن تغير مجرى حياتك كلها.
يقدم زوران فهرسة متباينة لمكتبته عبارة عن ستة أقسام وهي المكتبة الافتراضية، والمكتبة المنزلية، والمكتبة الليلية، ومكتبة الجحيم، وأصغر مكتبة، والمكتبة النفيسة، وفي كل قسم من هذه الأقسام نجدنا مأخوذين إلى رحلة أسطورية نظن أنه لا رجعة لنا منها؛ لكننا نعود منها لندخل في مغامرة جديدة تمامًا، لكنها في ذات الوقت تكون على اتصال وثيق بالمغامرة السابقة عليها، ومؤكدة لها في الوقت ذاته.
في المكتبة الافتراضية، يكون تعامل البطل مع الحاسب الآلي، حيث يفاجئ بأحد المواقع وقد نشر رواياته الثلاث رغم أنه لم يمنح تصريحًا بنشرها في هذا الموقع وهو ما يعد من جرائم القرصنة الأدبية، لكن على الفور تصله رسالة من الموقع تطمئنه بأن رواياته لن يراها غيره فلا أحد يستطيع الدخول هنا إلا هو، والرسالة موقعة باسم المكتبة الافتراضية التي تخبره بأن رصيده المكتوب من الروايات سيكون ثماني عشرة رواية لن يستطيع نشرها جميعًا في حياته، بل إن المدهش أن البطل عجز عن دخول هذا الموقع مرة ثانية فقد أخبروه أن الدخول يكون مرة واحدة فقط.
وفي المكتبة المنزلية تزداد الإثارة حيث يجد في صندوق بريده كتابًا ضخمًا مرسلا له من جهة مجهولة اسمه أدب العالم ويندهش لدخول هذا الكتاب من الفتحة الضيقة لصندوق البريد، وتتكرر المسألة كل يوم بحصوله على أجزاء من سفر أدب العالم التي وصلت في النهاية إلى ثمانية آلاف وثلاثمائة وخمس كتب، حتى ازدحمت بها شقته الضيقة المكونة من غرفة واحدة وصالة، وهو الأمر الذي اضطره لبيع بعض الأثاث من أجل توسيع المكان لكتابه الضخم.
عندما زار المكتبة الليلية حدث له ما لم يكن في الحسبان، فقد أغلقت الأبواب فجأة واكتسى المكان بالظلام مما أصابه بالرعب لاسيما أن الغد سيكون أجازة أسبوعية، لكنه بعد وقت قصير يصطدم بالحارس الليلي، وبعد حوار بينهما يفهم أن هذه المكتبة لا تحوي كتبًا عادية بل إن كل كتاب مخصص لفرد يكون هو كتاب حياته بكل تفاصيلها الدقيقة، ولقد خاض البطل هذه المغامرة وذلك عندما أخرج كتابه وراح يقرأه، وذهل عندما وجد أن كل ما يفكر فيه حتى في لحظته الآنية مسجل فيه، وهذه الأجواء ربما تذكرنا برواية "المكتبة الغريبة" للياباني هاروكي موراكامي التي تدور أحداثها حول صبي في المدرسة، تبدأ رحلته مع الكتبة بهدف إنجاز مشروع بحثي؛ لكنه يصل إلى نفق مظلم ويصطدم برجل عجوز غريب الأطوار يريد أن يسيطر على عقله. كما نرجح أيضا أن جيفكوفيتش قد أفاد كثيرا من كتاب "المكتبة في الليل" للكاتب الموسوعي ألبرتو مانغويل.
أما في مكتبة الجحيم، فإن القراءة تكون إجبارية، حيث يقبع صاحبنا في زنزانته المظلمة بتهمة عدم القراءة، الأمر الذي أوقعه في بعض الخطايا؛ لكنه يعتبر هذا رمزا لما يحدث للمذنبين في جهنم، وهو ما عبر عنه حارس مكتبة الجحيم بقوله: الغاية هي أن يتخلص نزلاؤنا من العيب الرئيسي الذي رماهم هنا، فلو قرأوا أكثر لما كان لديهم الوقت ولا الدافع ليرتكبوا ما ارتكبوه، فالقراءة وسيلة علاجية ناجعًا لهؤلاء وليست عقابا سرمديًّا.
في ساعة الدخول إلى المكتبة الصغيرة، يصبح البطل قارئا نهما، يبحث عن الكتب أينما وجدت؛ لذا نجده زبونًا دائمًا عند بائعي الكتب، وفي إحدى المرات كانت له مغامرة مثيرة مع أحد الكتب، فقد فتحه على الصفحة الداخلية المدون بها العنوان واسم المؤلف، ولكنه عندما أغلقه وفتحه ثانية وجد الصفحة ممسوحة تمامًا، وعندما كرر الأمر حدث الشيء نفسه، في النهاية فطن إلى أنه لابد أن لا يترك أي كتاب إلا بعد أن يقرأه كاملا.
لكنًّ الأكثر إثارة هو ما حدث له في المكتبة النفيسة، حيث أراد البطل التخلص من كتاب ممل موجود بمكتبته، فما كان منه إلا أن رماه في سلة المهملات؛ لكنه عندما يعود إلى البيت يجد الكتاب منتصبا على رفه، فيسحبه ويصطحبه معه إلى الخارج وعندما يصل إلى النهر يلقي به ثم يعود إلى البيت راضيًا منتشيًا؛ لكنه عندما ينظر إلى المكتبة يصدم بوجود الكتاب المتمرد، يكرر محاولاته لوأد الكتاب التمرد مرة بإلقائه من فوق بناية عالية ومرة بوضعه تحت عجلات القطار؛ لكن مسعاه كان يخيب دائما فيعود الكتاب متحديًا قابعًا في مكانه الأثير؛ لكنه في النهاية يختفي باختياره؛ لكن بعد أن يكون قد انتهى صاحبنا المعذب من قراءته تمامًا.
|