القاهرة 05 ابريل 2022 الساعة 12:11 م
كتب: حاتم عبد الهادي السيد
هل تصورت يومًا أن تقبض على الزمن بين يديك، فالزمن شيء محسوس فكيف يمكن أن تلمسه بيديك، وتعيد تصوراتك عن الماضي؟!
إنها الكاميرا، "عصفور التراث الفوتوغرافي"، أو آلة تثبيت الزمن للحظة وتسجيلها والقبض عليها بين يديك، لتصبح صورة تستدعيها وقتما تشاء لتتذكر مناسباتك، أو اللحظة التي كان من الممكن أن تنساها لولا وجود الصورة التي قامت بتبيث جزء من الثانية لهذا الزمان، وجعلت الزمن ملموسًا، وهو ما سمي بعد ذلك بعصر الصورة. لقد قامت الكاميرا بأعظم إنجاز علمي؛ وحولت الصورة في الكتابة إلى صورة مرئية يمكن أن نستدعيها أي وقت، وفاقت الصورة الفنية، وجسدت التاريخ لتقرأه عبر صور، تمثل دليلاً على الواقع والأشياء، ومن هنا اختزلنا الحياة في صورة؛ ووثقنا التاريخ والمعارك والأيام والأحداث عبر الكاميرا التي مثلت أكبر إنجاز علمي وحضاري؛ وأعظم تراث إنساني اخترعته البشرية كذلك؛ فقد تطورت الكاميرات ليتم استخدامها في الطب للكشف عن الأمراض والأوبئة، وتصوير جسم الإنسان، وعقله، لتشخيص المرض ومن ثم علاجه، كما تم استخدامها في المستكشفات الحديثة، وعبر تثبيتها في الطائرات لرصد الأماكن، وتصوير طبقات الغلاف الجوي وغير ذلك، فأفادت الحياة البشرية من الطرق كافة. هذا وتسمى الكاميرا بالعربية: قُمرة، أي البيت المظلم، وهي ترجمة لـما عُرف "بالغرفة المظلمة" التي استخدمها ابن الهيثم في تجاربه البصرية، والتي دخلت اللغات الأجنبية بمعنى (غرفة) خاصة.
ولقد أطلق على الكاميرا -في معجم المغنى، ومعجم العين اسم: «صَوَّارة» على وزن الآلة القياسي فَعَّالة- بفتح الصاد المهملة وتشديد الواو. ولقد عرف العرب الكاميرا عن طريق "محمد على باشا" في القرن التاسع عشر؛ الذي شهد فن اختراع التصوير.
• محمد علي باشا وأول كاميرا في مصر
منذ عام 1805م نهض محمد على بمصر، وأرسل البعثات واستقدم الخبراء في جميع المجالات، لتلحق مصر بركب الضارة المعاصرة، وفي عام 1839م بعدما أعلن "فرنسوا أرجو" في أكاديمية العلوم في باريس النجاح الذي حققه "لويس جاك داجيري" عن إمكانية إنتاج صورة قياسية دائمة عن طريق آلة تصوير فوتوغرافي، وما أن سمع محمد علي بالخبر حتى قرب إليه المصور الذي جاء بأول كاميرا إلى مصر؛ وهو المستشرق الفرنسي الرسام "أميل جون هوراس فيرنيه"، وكان محمد علي باشا متحمسا لهذا الاختراع، حتى إنه طلب من فيرنيه أن يعلمه فن وأسس التصوير، وبذلك أصبح " محمد على باشا" أول رجل في مصر يستخدم الكاميرا؛ ولقد كان تحمسه نابع لتصوير "معركة نصيبين" كأول توثيق تاريخي لمعركة حربية في التاريخ، وكان أن حدث؛ وقد تم ذكر ذلك في كتاب "وصف مصر". وخلال الأربعينيات من القرن التاسع عشر وفد إلى مصر سبعة مصورين معروفين منهم بريطانيين وخمسة فرنسيين كان من أهمهم المصور الفرنسي مكسيم دوكامب الذي صور مصر من سنة 1849 إلى سنة م1851م..
• تراث التصوير والمصورين عبر العالم
لقد كان اكتشاف "الكامير" أو التصوير، أحد أهم المخترعات الحديثة في العالم؛ ولنعرف أن لتاريخ التصوير الفوتوغرافي حكاية جميلة تقول: "كان للتصوير الفوتوغرافي بداية مُشوقة منذ عام 1826، على يد الفرنسي «نيسيفور نيبس»، واستمر في محاولاته لاختراع الكاميرا الفوتوغرافية حتى عام 1833، حين تُوفي فجأةً دون استكمال ما بدأه، فقام «لويس داجير» (1787–1851) بتكملة هذا المشروع «العظيم»، رغبةً منه في الوصول إلى نتيجة حقيقية تُمكنه من تحقيق إنجاز كبير، وهو ما حدث بالفعل في 7 يناير/كانون الثاني 1839، حين أعلن العالم الفرنسي «فرانسوا أراجو» في أكاديمية العلوم بباريس عن هذا الاختراع، وسرعان ما أصدر الملك لويس فيليب أوامره بضرورة التنفيذ العملي لهذا الاختراع فسُميت الكاميرا المُصنعة بـ «الآلة الداجيرية»، وسُميت طريقة التصوير نفسها بـ «طريقة التصوير الداجيرية أو الداجيروتيب» تيمنًا بداجير مخترع الآلة، وكان ذلك في أغسطس من نفس العام.
وبعدها بحوالي شهر فقط، قام «هوراس فيرنيه» (1789–1863)، الرسام العسكري الفرنسى الأشهربالسفر إلى مصر مُصطحبًا معه آلة داجير (مُعدلة تعديلًا بسيطًا في عدستها بواسطة عالم البصريات ليربورز)، واثنين من رفقاء السفر ابن شقيقه تشارلز بورتون، والرسام -صغير السن وقتها وتلميذ فيرنيه- «فريدريك جوبيل فيسكيه» (1817-1878)، الذي تعلم سريعًا طريقة التصوير الداجيرية، وكان مُصور الرحلة الأول، وكان ذلك بدعوة من محمد على باشا لتصوير معركة " نزيب" أو " نصيبين " لتصويرها بريشته، إلا أنهم اصطحبوا الكاميرا الحديثة لتظهر الصور الحقيقية للمعركة،وليست رسومات فنية؛ ولقد تم التقاط أول صورة في مصر وقارة أفريقيا؛ في "الحرملك" الخاص بمحمد على من الخارج؛ بقصر التين عام 1839م؛ ولقد استغرق تصوير الصورة دقيقتين ونصف، فلما شاهدها محمد على أبدى دهشة فائقة؛ ثم صور بعدها "عمود بومبي" بالإسكندرية، ثم هرم خوفو، ومقابر سلاطين المماليك في المقطم، وتوالت الصور، لنقر بتنويرية "محمد على باشا" باعث النهضة في مصر والوطن العربي آنذاك، ولقد طور "فرنيه" تاريخ الصور بإدخال رسوماته الفنية على الصورة ليمزج بين الفن التشكيلي، والتصوير؛ وكانت هذه صيحة أخرى في تاريخ الكاميرا الدياجيرية، التي تعتمد على الغرفة المظلمة وطبع الصور من خلالها كذلك. ولعل هذه الصور قد أدهشت الفرنسيين فقد صوروا معالم القاهرة، وأسوان، ونقوش المصريين، وصورهم على الجدران، وهو المر الذي حفز الكثيرين في العالم لزيارة مصر، ومعرفة تاريخها الحضاري والثقافي، بما يشير إلى عظمة الفراعنة ومعرفتهم فن "التصوير والرسوم على الجدران" بما يعكس شمس الحضارة المصرية القديمة.
ولقد تطورت الكاميرا التي صنعت بداية من الخشب والجلود، إلى الحديد والبرونز، ثم من الذهب، فقد رأينا "كاميرا الملك فاروق" وكاميرا الرئيس "جمال عبد الناصر"، وكاميرا صاحب السمو الشيخ / "محمد بن راشد آل مكتوم" –رئيس دولة الإمارات مصنوعة من الذهب الخالص، بما يدلل إلى تطور عصر الكاميرا، وصناعتها، وبما يعكس رمزية وجودها الإنساني، ومدى قيمتها وأهميتها في النهضة العالمية، لذا حرص الملوك والرؤساء في كل دول العالم على اقتناء تلك الكاميرات، وأصبحت تقدم كهدايا عظيمة للملوك، وبين الفنانين والمطربين الكبار، بل وبين العلماء، وعظماء ومشاهير العالم كذلك.
لقد عنى الملوك من أسرة محمد على باشا في مصر ومن جاء بعدهم "بفن التصوير" وشجعوا المصورين على التقاط الصور التراثية النادرة، والتي عُدّت بعد ذلك "الأرشيف الحضاري والتراثي والثقافي" لمصر المعاصرة، ومن ثم للوطن العربي والقارة الأفريقية، والعالم كذلك؛ كما أصبحت الصورة تراثًا وذاكرة وتاريخًا ، تحكي الواقع عبر صورة، وتسجل الزمان عبر المكان، والأمكنة، وتقبض على اللحظة التاريخية، فأصبح العصر يتسم بإسم "عصر الصورة"؛ وغدت الصورة الوثيقة التاريخية، وشهادة على العصر، في تصوير المعاهدات، وتوثيق الأحداث، فلما جاءت الحربين العالميتين: الأولى والثانية، كانت الصورة هي الذاكرة الحقيقية، والشاهد على التاريخ؛ دون تزييف لحقائق، أو تشويه للأحداث، وتم استخدام الصور في الأعمال العسكرية والطبوغرافية، بعد ذلك؛ وغدت نهضة علمية وتراثية وثقافية كبرى بفعل اختراع هذه "الآلة العجيبة" التى استخدمت بعد ذلك في توجيه الصواريخ والمقاتلات، وفي الطائرات، وفي الطب والهندسة، ولقد أفادت في العلوم الطبية والهندسية، وفي تصوير طبقات الغلاف الجوي، وطبقات الأرض، حتى غدت الصورة هي الحياة.
ولقد حرص الأدباء والفنانون؛ والملوك والرؤساء على مصاحبة الكاميرا لهم في تجوالهم لتسجيل اللحظات التاريخية في عمر الأمم والشعوب، ودخلت الكاميرا عالم الفن ليتم إنشاء السينما، واختراع التلفزيون، والكمبيوتر، والحواسيب، والهواتف الذكية، وأصبحت الكاميرا سمة للعصور التي أعقبت اختراع الكاميرا، ودخلت -الآن- كل المنازل والبيوت بتطور اختراع "الهواتف النقالة الذكية"؛ لأنها تسجل الواقع صوتًا وصورة، ليدخل العالم إلى عصر "الرقمنة الرقمي" ولتتقدم العلوم والفنون وشتى مناحى الحياة بفضل هذه "الآلة العجيبة:، والتي تمثل أعظم اختراع بشرى أفاد الإنسانية، وعاد بالخير على كل سكان الأرض عبر العالم والكون والحياة.
لقد كان ولازال للصورة سيادتها المطلقة في كل العصور؛ فقد سجل الإنسان تاريخ حياته منذ عصر الكهوف عبر الصورة، والرسوم على الجدران والمعابد؛ والصورة الآن هي المهيمنة على الساحتين: الإعلامية والثقافية، عبر قنوات "السوشيال ميديا"، وللصورة الآن أبلغ الأثر في قياس الرأى العام للدول والشعوب، وعبر "شبكات التواصل الاجتماعي" فقد تقلب الصورة موازين القوى، وتستقطب أحاديث العالم وهلعه، أو فرحه، كما أن الصورة هي إحدى مكونات "السلطة الرابعة " التي توجه الجمهور في الصحافة والإعلام، وتحشد الحشود في الميادين، وتقيم الثورات، وغدت الصورة وسيلة من وسائل تحفيز الرأى العام، او توجيهه ليرى أحداث العالم، ويشارك فيه عبر الميديا، وقنوات الاتصال، لننتقل إلى عالم "ما بعد الصورة"؛ فقد تحررت الصورة كذلك من "الغرفة المظلمة" التي حصرت ذفسها فيها، لنشاهد "الكاميرات الرقمية" في كل مكان تصور وتسجل بعيدًا عن الغرفة الدياجيرية، لنعبر بالعالم إلى عصر مابعد الصورة إلى الفضائيات الممتدة عبر الثقوب السوداء، وعبر قارات العالم؛ وفضاءاته الممتدة.
|