القاهرة 29 مارس 2022 الساعة 01:03 م

بقلم: حاتم عبد الهادي السيد
أن تزور سيناء فهذه مغامرة أولى، أما أن تسكن بين هضابها وحول جبالها وسهولها ووديانها، فتلك هي المغامرة الكبري؛ تسمع في الليل صفير الرياح، وعواء الذئاب، وتستمع برؤية انعكاسات القمر على الصخور الملساء.. يسقط المطر كالسيل، وتشاهد الصواعق والبرق وآيات المولى العظيم؛ فاسجد لله شاكرًا، فسبحان الخالق القدير. إنها سيناء؛ أرض القمر والنخيل، والصقور المحلقة، أرض الغزلان والنمور والأسود، حيث عشب الله يتمدد في هذا البهاء عبر بريَّة الخلود الكوني. وهنا أنشأ المولى الأبجدية الأولى: "أبجدية سيناء" أقدم أبجديات العالم التي حفظت التاريخ، وكتبت بحروفها أعظم حضارة عربية خالصة.
هنا البحر، أسير معه في الليل أخاطبه، وفي الصباح تشرق شمس الجمال ليتعانق البلشون فوق النخيل السامق، ويجتمع البدو، وينطلق المزمار، والأرغول والربابة والمقرون، ويبدأ السامر الليلي المهيب حيث رقصات الدبكة والمربوعة والرزعة والمشرقية والهجيني، فسنطبق الشعراء في مجاراة شعرية تستنطق الفصاحة للشعر البدوي "النبطي" الساحر، ويختلط الكون بالموسيقى مع دندنات العشب وأصوات الطيور المسقسقة من حول الأشجار الممتدة.
سيكون لطيفًا جدًا أن تزور سيناء وتستمتع بطقوس شهر رمضان الجميلة، حيث قبائل سيناء وعشائرها تجتمع في الدواوين قبل آذان المغرب ليتناولوا إفطار رمضان بشكل جماعي، الكل يحضر من منزله ما طاب من الطعام وحلوى" الزلابية"، لتكتمل المائدة الرمضانية العامرة بكل أطايب الطعام من لحم ماعز وضأن، والفتة السيناوية العامرة بالفطير السيناوي "الفراشيح" التي يغطيها الأرز والمرق والثريد، والكل يأكل في فرح مستقبلين شهر الخير والبركات..
• عادات وتقاليد رمضانية مغايرة:
ويسبق إعداد الإفطار إشعال النيران والمواقد المتوهجة قبل الإفطار بساعة حتى يقبل عليها السائرون أو من يكون تائهًا فى الصحراء، ثم تستخدم فى إعداد الشاى والقهوة بعد ذلك.
كما يتولي عدد آخر من الشباب إحضار الأدوات الخاصة باعداد المشروبات أهمها: فناجين القهوة وكؤوس الشاى، ليتم إعداد "براد" شاى و "بكرج " قهوة، حيث يتم الاستعانة بكبار السن لإعداد القهوة لما لهم من خبرة في "ضبط مذاقها الجميل".
كما يجتمع العجائز الكبار والشباب والأطفال بعد صلاة العصر ويتناوبون قراءة القرآن واحدًا تلو الآخرفي الديوان، أو المقعد كما يسمونه.
أما الإفطار الجماعى بالدواوين والمقاعد فى العريش فهو من أروع مشاهد ومظاهر شهر رمضان، إذ يجتمع الرجال حول الموائد للإفطار، ولابد أن يحضر كل أبناء العائلة ولا يسمح بالتخلف أو العذر إلا فى حالات المرض الشديد أو السفر، خاصة أول أيام الشهر الكريم، ويفطر كل فرد من العائلة فى الديوان أو "المقعد"، كما يتوزعون على الموائد، وتلك العادة عند البدو لحبهم فى تنوع الطعام ولمشاركتهم الآخرين في الزاد أو العيش والملح كدليل إلي التعاون والمحبة كذلك.
• طعام البادية في شهر رمضان:
ومعظم طعام البدو فى رمضان يكون من الفطائر المصنوعة من الطحين والسمن، كما تقوم السيدات بإشعال النارفي منازلهن من أجل طهي الفطائر أو الفراشيح، لتكون ساخنة عند تناولها، إضافة إلى الفتة وفوقها الأرز واللوز وحمص الشام واللحم ، والبدو -عكس عادات سكان عائلات مدينة العريش- لا يأكلون السمك فى رمضان، ويجلس كل فرد فى أقل مساحة ممكنة حتى يكون هناك متسع لآخرين، ويتم تناول الطعام باليد اليمنى وبدون استخدام ملاعق سوى للضيوف فقط، وأن يتناول كل فرد الطعام من الجهة المقابلة ولا يتعدى على باقى الجهات، وبعد الإفطار تترك المائدة ولا يرفع عنها الطعام حتى بعد صلاة التراويح تحسبا لوصول أى ضيف أو عابر سبيل أو مار على الطريق ولم يفطر بعد .
وتعتبر هذه العادات نوعًا من التكافل الاجتماعي السامق، حيث يتناول الغني طعام الفقير ويتناول الفقير طعام الغنى، وعند آذان المغرب يؤدون الصلاة بعد توزيع التمر والمياه والعصائر، ثم يقبلون على المائدة.
• آداب تناول الطعام عند بدو سيناء:
لتناول الطعام عادات وتقاليد خاصة عتد بدو سيناء يجب أتباعها ويلتزم بها الجميع، فالأكبر سناً يجلس أولًا على المائدة، ثم الأصغر سنًا ليكتمل العدد حول المائدة، حيث لا يقدم الصغار الطعام إلا بعد فراغ الكبار من الأكل، ولا يمد البدوى يده أمام غيره، ولا يأكل بواقي الطعام ويأكل بيده اليمنى فقط، ولا يأكل باليسرى، لأي سبب من الأسباب، ويقوم صاحب المنزل أو الديوان بتقطيع اللحم أمام الضيوف، وحثهم على الأكل فلا توضع كمية كبيرة من الطعام بالفم، ولا يقدم طعام "الكرشة والرأس والأرجل" من الذبائح، كما لا يتناول البدوى الأسماك -قديمًا- لأنها كما يقولون : "دود البحر"، ويعتبر "المنسف" أشهر طعامهم، وتملأ المائدة من اللحم والأرز والخبز، فلا ينثر البدوي يديه من بواقى الطعام العالق عقب الانتهاء من تناول الإفطار، بل يلعق الطعام من على الأصابع، وللبدو عادات وتقاليد خلال الشهر الكريم في المأكل والمشرب.. فالفتة هي الوجبة الرئيسة على موائد الإفطار.. حيث يقوم البدو بتقطيع الخبز إلى قطع صغيرة ووضع المرق عليه والأرز واللحم أو الدجاج وتقديمه طازجًا قبيل آذان المغرب، بقليل كما تتزين مائدة الإفطار-في مدينة العريش- بالجرجير، والفجل، والزيتون الأسود والأخضر، إلى جانب العصائر خاصة الخروب المصنع يدويًا، وغير ذلك.
ويجرى الأكل باليد اليمنى مع عدم استخدام اليد اليسرى خلال تناول الطعام، مع عدم استعمال الملاعق، والجلوس فى أقل مساحة حول المائدة حتى تسع أكبر عدد من الحضور.. على أن يكون الجلوس للضيوف أولا، ثم المحلية: "أصحاب الديوان".. مع عدم جلوس الأطفال على المائدة إلا بعد فراغ الكبار من الطعام.
ومن الممنوعات فى شهر رمضان الكريم عدم تناول الأسماك.. حيث إن طعام الإفطار المفضل لدى البدو هو اللحوم فى المرتبة الأولى، ثم الدواجن فى المرتبة الثانية، ويحرص البدوي على عدم صدور أى صوت خلال مضغ الطعام، ويتم مضغه فى جانب واحد من الفم، وعدم ملئ الفم بالطعام، وكذا عدم مص العظام، وعدم القيام من على المائدة والفم مملوء بالطعام، وعدم نثر الطعام العالق باليدين بعد الفراغ من الأكل.. بل يلعق الطعام من على الأصابع.
وفي حالة حدوث حالة وفاة خلال شهر رمضان يقوم أهل المتوفي بتجهيز مقعد لاستقبال مشايخ وعواقل البدو، وتجهيز الإفطار لهم لمدة ثلاثة أيام؛ مدة العزاء.
• من آداب وعادات الضيف:
للضيف مكانة وأهمية خاصة في مجتمع البادية، حيث يتم الترحيب به بحفاوة، وتترك له مائدة إفطار خاصة به، كي يتم رفع الحرج عنه، وكنوع من الكرم، كما تقدم له المائدة عامرة بأطايب الطعام، وبعد أن يفرغ الضيف من الطعام، ويشرب القهوة أو الشاي، يقوم بالدعاء لأهل المكان.. ويشكرهم للحفاوة الكبيرة، بينما يقوم أصحاب الديوان بقراءة الفاتحة على أرواح الراحلين، وإهداء ثواب الطعام لهم.
كما تقدم بعد الطعام أطباق الحلويات الشرقية من "القطايف والكنافة والزلابية وحلقة الأصبع وبلح الشام وغيرها"، كما تقدم عصائر الفاكهة على المائدة البدوية السيناوية.
كما تجتمع النساء والفتيات لتناول الإفطار فى المنازل، طوال شهر رمضان الكريم. ولقد بدأت تتراجع تلك العادات والتقاليد الجميلة بشكل كبير، لكنها لا تزال موجودة إلى الآن أيضًا.
وعند آذان المغرب يتم توزيع التمر والمياه والعصائر، ثم يؤدون الصلاة، وبعدها يقبلون على المائدة. وحين انتهاء الطعام يجلسون لشرب القهوة والشاي الأخضر والأسود.
• السامر السيناوي والشعر والغناء:
بعد انقضاء صلاة العشاء، ثم صلاة التراويح ، يبدأ البدو في اشعال النار في حطب شجر العادر والزيتون والخوخ، ليبدأ السامر بالشعر والغناء، ويبتدأ السامر بالمديح والشعر الديني، وينشد المنشدون أغانٍ من التراث البدوي الديني،الذي يبدأ فيه البداع أو المنشد بذكر المولى عز وجل، والصلاة علي النبي العدنان محمد بن عبدالله أشرف الخلق والمرسلين، ثم يبدأ في الإنشاد الجميل، ويتم التصفيق بالأيدي، وقد يرقصون بالدق علي الأرض كنوع من النشوة والشعور بالسعادة والبهجة "الرزعة" أو " الرزيع"، ويظل السامر ممتدًا حتى قرب موعد السحور، فيرجعون إلي بيوتهم للسحور مع النساء والأطفال .
• الديوان والمندرة بالمنازل لاستقبال الضيوف:
كما توجد في كل بيت من بيوت ومنازل مدينة العريش في الحضر حجرة مستقلة عن المنزل يطلق عليها الديوان أو المندرة أو المقعد؛ وفي البادية "الشق" المصنوع من الخوص ونبات العادر "عريشة"، والمندرة معدة ?ستقبال الضيوف والزوار، وفيها يتناولون الإفطار فيأتي الضيف إليها دون استئذان وهي مخصصة لذلك طيلة شهر رمضان، وهنا يتجسد كرم الإنسان العربي الأصيل وتستخدم المندرة مكانًا للتسلية والسمر بعد صلاة التراويح مع تناول الحلوى مثل الكنافة واللحوحى والمشروبات والعصائر والقهوة والشاي بالحبق حتى موعد صلاة التهجد، وبعد ذلك ينصرفون إلى منازلهم لتناول وجبة السحور التي تتكون من الفراشيح واللبن الحامض " الرايب "، والجبن المصنوع من لبن الماعز.
ولا تشارك النساء الرجال في حلقات السامر -في شهر رمضان فقط- بل تقتصر الليالي على المديح، وحضور الرجال والشباب والفتيان من الأطفال الذكور، وليس البنات كذلك.
• عادات الأطفال في ليالي رمضان:
تنتشر في سيناء الفوانيس المصنوعة من الأقمشة الملونة المعروفة باسم "الخيامية" التي تشتهر بها الأجواء الرمضانية، فيما يظهر الفانوس الخشبي بكثافة؛ كما توجد حديثًا الفوانيس المصنوعة من الصاج والبلاستيك والملحق بها أغانٍ كما في كل الأقاليم المصرية الحديثة.
ولقد كنا كأطفال -قديمًا- في مدينة العريش نضع "شمعة" في "الكوز" - وهو عبارة عن علبة من علب الصفيح من علب السمن أو المأكولات ونربطها بحبل، أو بسلك مقوى؛ كي نحمل به الفانوس، أو الكوز- ونغني الأغاني المحفوظة في كل القطر المصري:
حالو يا حالو.. حالو ياحالو رمضان كريم ياحالو
فك الكيس وادينا بقشيش نروح ما نجيش يا حالو
كما كان الأطفال يغنون قائلين:
"وحوي يا وحوي إياحة"..
وهي تحريف لجملة هيروغليفية كان الغرض منها الترحيب بالقمر، فكان المصريون يستقبلونه بأنشودة جميلة عند عودته، وهي «وحوي يا وحوي إياحه»، وتعني «إكليلًا وترحابًا بمجيء وعودة القمر»، فكان المصريون يتغنون بها كل ليلة قبل ظهور هلال كل شهر، ويحتفلون بظهور القمر نحو اثنتي عشرة مرة في السنة.
وكان الأطفال يقفون على أعلى تبة رمال في المنطقة، وعند سماع آذان المغرب فإن الكل يجري إلى بيته ليخبر الأهل بموعد الآذان.
• روحانيات رمضانية وقداسة خاصة:
ولشهر رمضان قدسية خاصة؛ وروحانيات لا غنى عنها فى البادية السيناوية، لما للشهر الكريم من قدسية مميزة حيث يظهر روح التواصل والتكافل الاجتماعي والوحدة بين أبناء القبائل والعائلات، وتضفي قدسية الشهر الفضيل المحبة والمودة بين الجميع ؛ فضلًا عن حرصهم على نبذ الخلافات جانبًا، والاحتفال بشهر رمضان من خلال عادات وتقاليد بدوية موروثة من أسلافهم وأجدادهم منذ مئات السنين، حيث تؤكد على القيم والسلوكيات الحميدة، وكيفية كرم الضيف، والاحترام المتبادل بين الكبير والصغير، والتعاون، وتلك قيم البادية الأصيلة .
• هلال شهر رمضان:
ولرمضان طبيعة خاصة جدا عند أهل سيناء فهم يستطلعون هلاله من أعلى القمم الجبلية والمناطق الخلوية المرتفعة ومع ذلك يلتزمون بالرؤية الشرعية التي تقوم بها الأجهزة الرسمية بمصر وبالرغم من أن عادتهم لا تقل أهمية في رصد هلال رمضان عن الأجهزة الحديثة فلديهم مقولة لم تخطئ أبدًا، وهي أن خامس الصوم صوم؛ بمعنى أنه إذا صام الإنسان في العام السابق مثلًا يوم السبت فعليه أن يعد خمسة أيام ليكون الصيام هذا العام الأربعاء مثلاً، وعند ثبوت الرؤية تعلق الزينات وترفع الأعلام البيضاء للتعبير عن الفرحة باستقبال شهر رمضان.
• عدم الزواج أو الخطبة في شهر رمضان:
في شمال وجنوب سيناء تتشابه عادات البدو كذلك، ومن العادات الصارمة في الشهر الفضيل توقف المجالس العرفية وجلسات القضاء العرفي في شهر رمضان، لحرمة هذا الشهر الكريم، وكذلك مراسم الخطبة والزواج قديمًا حيث يتفرغ الناس للعبادة وقراءة القرآن.. كما تقل المشكلات في أيام الشهر الكريم.. علاوة على أن حفلات الزفاف يتم تأجيلها فى رمضان.. حيث يفضل إقامتها خلال أيام العيد.. بينما يتم عقد القران بدون إقامة أفراح.
• توقف القضاء العرفي وفض المنازعات في رمضان:
يمنع أي إنسان من الشكوي من الآخرين، أو رفع دعوة للمجلس القضائي في شهر رمضان، إلا إذا كانت حادثة قتل فيتم فيها رمي ما يسمى بالوجوه، ثم تؤجل الجلسة إلى ما بعد العيد، وتعني هذه العادات ألا يتعرض أحد من أهل المجني عليه إلى أحد من قبيلة الجاني مراعاة لحرمة الشهر الكريم.
• إفطار بيت العائلة في رمضان:
من العادات الأسرية، دعوة الأخوة والأخوات والعمات والبنات لإفطار جماعي يوافق أول جمعة في شهر رمضان تكون في «بيت كبير العائلة»، وهي عادة يحرص عليها الجميع، رغم أن الرجل يتناول طعامه في المجلس، إلا أنه يحرص على أن تحضر إفطاره الأول ابنته وأحفاده وعماته، وإذا كانت مريضة أو لا تستطيع الحضور يرسل لها وجبة إفطارها، وهذا تقليد موجود حتى الآن بين أبناء سيناء من أبناء المدينة والبادية..
• وليمة الرحمة:
يحرص أبناء سيناء على إعداد وليمة كبيرة يطلق عليها: "وليمة الرحمة" في شهر رمضان، وهى عادة خاصة بأبناء القبائل البدوية، حيث يتم نحر رؤوس الماشية والماعز، وإقامة وليمة بنية إفطار الصائمين، ودعوة كل الأقارب والأصدقاء إليها، وتوزيع اللحوم على منازل الفقراء في الحي..
• تبادل طعام الإفطار كنوع من التكافل الاجتماعي:
ومن أجواء رمضان زمان الجميلة يتم تحضيرالإفطار قبل موعد الأذان، ويتم ارسال الأطفال على الجيران، والديوان، بصحون الأكل فيقومون بإرسال صحون إفطار مختلفة من الجيران، ولو وجدت عائلة فقيرة ليس لديها وجبة الإفطار، فإن هذه العائلة يكون عندها قبل موعد الإفطار أكثر من أربعة أصناف من الأكل.
|