القاهرة 29 مارس 2022 الساعة 12:20 م

حوار: صلاح صيام
في البدء كان الكلمة، فالحضارات القائمة والحضارات المندثرة بدأت سفرها في الوجود انطلاقًا من الكتاب الذي ليس التَّوليفات الورقية أو الرُّموز المرسومة، بل إنه يحمل روحًا لطيفة وقُدرة نافذة تخترق قلب الإنسان فتحوله إلى شخص ذي مبدأ ورسالة في الحياة، والكتاب يُغَير القارئ أوَّلا، ويخلق في وعيه حرارة المعرفة، ويَدفع به إلى الفعل والأثر في الواقع ثانيًا، وكم يقُصُّ علينا التَّاريخ نماذج حضارية وإنسانية؛ كان الكتاب هو الأثر الحاسم في تغييرها، فالكتاب في الأصل هو من يقرأنا ويعيد تجديد حياتنا، ولسنا نحن من نقرأه.
فإذا كان الكتاب يفعل ذلك مع القارئ، فكيف يفعل مع المبدع، وهل هناك كتاب أثر في المبدع وغير مسار حياته الإبداعية.. هل ما سنعرفه في هذه السلسلة...الكاتبة السورية ميادة مهنا سليمان:
كانتِ الكتابةُ، والقراءةُ الرّفيقتَينِ الجميلتينِ بالنّسبةِ لي، وكنتُ قارئةً نهمةً، قرأتُ كتبًا منوّعةً وأنا لم أتجاوزِ الثّانيةَ عشرةَ من عمري، كانَ أبرزُ تلك الكتبِ للجاحظِ، ورغمَ صعوبتِها آنذاكَ إلّا أنّني كنتُ أستمتعُ بها.
ولكنَّ كتابَ (الأجنحة المُتكسِّرة) لجبران خليل جبران كانَ أكثرَ كتابٍ تركَ أثرًا في نفسي، وقد قرأته عندما كان عمري ثلاثة عشر عامًا، حينَ طلبتُ من أبي شراءهُ لي، وحين أعجبني بدأ أبي كلّ مطلع شهرٍ يزوّدني بأحدِ كُتبِ جبران حتّى حصلتُ على الكُتبِ العربيّةِ منها والمعرّبةِ، ولكثرةِ حبّي وإعجابي بجبران كنت أضعُ صورتَه في غرفتي قربَ سريري، وأجمعُ كلَّ ما تقعُ عليه عينايَ من مقالاتٍ وكتاباتٍ أدبيّةٍ عنهُ في الصّحفِ، والمجلّاتِ.
أولًا: من هو جبران؟
هو شاعر وكاتب ورسّام لبنانيّ من أدباء المهجر، ولد في 6 يناير 1883 في بلدة بشرّي شمال لبنان، هاجر إلى الولايات المتّحدة الأمريكيّة ليدرس الأدب وليبدأ مسيرته الأدبيّة، وقد امتاز أسلوبه بالرّومانسيّة وكانَ عضوًا في الرّابطة القلميّة.
كما أنّه درس فنَّ الرّسمِ، فكانَ فنّانًا بارعًا، وأديبًا وقاصًّا متميّزًا، وقد اتّسمَ بِسعةِ الخيال، وعمق التّفكير، وغزارةِ الإنتاجِ، توفّي في 10 أبريل 1931 عن عمر ناهز 48 عامًا بعد معاناة طويلة مع المرض، وتظلّ مقولته الشّائعةً تخلّد ذكراه ككلّ كتاباته:
"جئتُ لأقولَ كلمةً، وسأقولها، وإذا أرجعني الموتُ قبل أن ألفظَها يقولها الغدُ، فالغدُ لا يتركُ سرًّا في كتابِ اللانهاية."
من مؤلّفاته:
النّبيّ (وهو أكثرها شهرةً)، دمعة وابتسامة، المواكب، الأرواح المتمرّدة، العواصف، المجنون، رمل وزبد، التّائه.
ثانيًا: ما مضمون الأجنحة المُتكسّرة؟
في هذا الكتاب يروي جبران قصّة حبّ روحيّ طاهر بينه وبين سلمى، الحبّ الّذي لا يُكلَّل بالزّواج، ولكنّه يستمرّ سرًّا لمدّة خمس سنوات، ثمّ تغادر سلمى الحياة، بعد أن كانت تلتقي بحبيبها في معبد صغير -بعيد عن بيتها- مرّة كلّ شهر.
لا أستطيعُ نسيانَ الحالةِ الّتي مررتُ بها حين الانتهاءِ من قراءةِ الكتابِ، لقد شعرتُ بحزنٍ شديدٍ وتأثّرٍ كبيرٍ على النّهايةِ الحزينةِ لسلمى كرامة -أو حلا الظَّاهر اسمها الحقيقيّ- الّتي أحبّها جبران ولم يزوّجها له أبوها وزُوّجت لابنِ أخِ المطران (منصور بك) والّذي كان معروفًا بطمعهِ بأملاك سلمى ووالدها، وآلَمني أكثرُ وفاة سلمى بعد ولادة طفلِها في نهايةِ الرِّواية.
كنتُ أقرأ الرّواية، وحين تنتهي، أعيدُ القراءة، وكأنّني غيرُ مُصدّقةٍ لنهايتِها القاسيةِ، يقول جبران في بدايتِها:
"كنت في الثَّامنةَ عشرةَ من عمري عندما فتح الحبّ عينيَّ بأشعَّتِهِ السِّحريَّةِ، ولمسَ نفسي لِأوَّلِ مرَّةٍ بِأصابعهِ النَّاريَّةِ."
ويقول لسلمى حينَ تخبرهُ بأمرِ زواجها:
"غدًا يسير بك القدر إلى أحضان العائلة المملوءة بالرّاحة والهدوء، ويسير بي إلى ساحة العالم حيث القتال والجهاد. أنت إلى عالم يسعد بجمالك وطهر نفسك، وأنا إلى مكامن أيّام تعذّبني بأحزانها وتخيفني بأشباحها".
ومن العبارات الّتي أحبّها في الكتاب، والّتي حفظتها لأنّني كنت أزيّن صفحات كتبي ودفاتري المدرسيّة بأقوال أنتقيها من كتب جبران، ومن الرّواية أختار لكم:
"الحبّ الّذي تغسلهُ العيونُ بدموعها يظلّ طاهرًا وجميلًا وخالدًا".
"ما أجهلَ النّاسَ الّذين يتوهّمون أنّ المحبّة تتولّدُ بالمعاشرةِ الطّويلةِ، إنّ المحبّةَ الحقيقيّةَ هي ابنةُ التّفاهمِ الرّوحيّ، وإن لم يتمَّ هذا التّفاهمُ بلحظةٍ واحدةٍ، لا يتمُّ بعامٍ ولا بجيلٍ كاملٍ".
"إنَّ للجمالِ لغةً سماويّةً تترفّعُ عنِ الأصواتِ، والمقاطعِ الّتي تُحدثها الشّفاهُ، والألسنةُ...".
"إنَّ الجمالَ لغةٌ خالدةٌ تفهمها أرواحُنا، وتفرحُ به.
الجمالُ الحقيقيّ هو أشعّةٌ تنبعثُ من قدسِ أقداسِ النّفسِ، وتنيرُ خارجَ الجسدِ مثلما تنبثقُ الحياةُ من أعماقِ النّواةِ، وتكسبُ الزّهرةَ لونًا وعطرًا".
|