القاهرة 29 مارس 2022 الساعة 11:32 ص
كتب: شعبان ناجي
هل فكر واحد من بيننا في مثل هذه الفكرة الغريبة؟ هل فكرت أسرة من الأسر عندنا أن تشتري شاعرا ليعيش معها، يأكل ويشرب ويناقش ويختلف ويغرق مع هذه الأسرة في مشاكلها التي لا تنتهي؟
فكرة رواية "هيا نشتر شاعرا" للروائي البرتغالي أفونسو كروش، كان من الأجدر أن تنبع من بيننا نحن، من ثقافتنا العربية، وذلك لأننا أكثر المجتمعات التي تحتاج إلى شاعر يكون بمقدوره أن يخرج لها النهار، بعد أن ينجح في فتح ثغرة في الجدار، بحسب تعبير أمل دنقل، لذا فأنا أشعر بالحسد تجاه هذه الفكرة وتجاه صاحبها، وتجاه الأمة البرتغالية نفسها.
لكن مجتمعاتنا العربية لم يكن لها أن تفكر في مثل هذه الفكرة البراقة، ربما لأنها لا تقبل على المغامرة حتى ولو كانت محسوبة، فهي تحب أن تعيش وأن تمشي جنب الحائط، فالتفكير له ناسه، والمغامرة لها من يستحقها.
والبيئة العربية منذ الجاهلية إلى ما بعد الإسلام، وربما إلى الآن.. كانت تشتري الشعراء، لكن ليس من أجل أن تغير حياتها إلى الأفضل، وإنما من أجل إرضاء غرورها وسد نقصها وتخليص مصالحها، لكن ناس البرتغال يعشقون المغامرة، لذا فهم يهرعون نحو التفكير المغاير الذي لا يحده حدود ولا يظله سقف.
من هنا فقد قررت إحدى الأسر وهي على مائدة الغداء أن تشتري شاعرا من السوق، وقد جاء هذا القرار بعد أن جفت حياة هذه الأسرة واضطربت مسيرتها، وأصبحت في طريقها إلى الضياع بعد أن سيطرت لغة الأرقام على كل شيء، فكان حتميا وجود قيمة إنسانية، قيمة تعتمد على المشاعر الإنسانية، فكان لابد من وجود هذا الشاعر.
والشاعر يعتمد على المجاز، والمجاز عدو لدود للمادية الاستهلاكية التي تتنفسها هذه الأسرة، لكن العجيب أن المجاز لم يؤثر قط على المادة، ولم يلغها، وإنما رتبها وقننها ووضعها في إطارها السليم. .هنا وجدنا الأسرة وقد أقبلت على الشعر، فراحت تقرأ وتقرأ، وتفكر وتتأمل، ثم تكون المناقشات الحامية بين أفرادها.
وفي الحقيقة أن هذه الأسرة لم تكن أول الأسر التي تفكر في شراء شاعر، وإنما كانت هنا أسر أخرى قد سبقتها في شراء شعراء ورسامين ونحاتين، بل وممثلين أحيانا، إذن هي طقس مقدس عند الجميع، فالجميع يسعون جديا نحو التغيير.
والأسرة عندما قررت شراء الشاعر، لم يكن هذا القرار نابعا من قبيل السيادة أو الرفاهية، وإنما كان القرار نابعا من اقتناع حقيقي بالتغيير الجدي نحو الأفضل، وهذه المرحلة في نظر الأسرة تحتاج إلى الشعر، ثم وجدنا التغيير قد وقع بالفعل وقد تبدل حال الأسرة، فالأم الخاضعة تنتفض وتطلب الطلاق من الأب المتسلط، وذلك حينما تأكد لديها أن حياتها الماضية لم تكن أكثر من سراب.
والأب الذي لم يعرف يوما إلا لغة الأرقام، هذه اللغة التي زجت به إلى الإفلاس، تنقذه لغة الشعر والشاعر في اللحظة الفارقة، فجملة واحدة من الشاعر احتفظ بها الأب في ورقة صغيرة، تقول "القبلة هي الأنجع لحرارة الجسم" هذه الجملة التي نبهته إلى أن يضع تدفئة لمصنعه أثناء فصل الشتاء.
هنا نلمس ذكاء السلطة المتمثلة في الأب، فقد وجدناه وقد تخلى عن عنجهيته، ولم يركب هواه أمام كبرياء الشعر الذي يعدم دوما عدوا لدودا للأرقام؛ لكن هذا العدو العاقل هو الذي يوجهه إلى التفكير الهادئ المنظم فيستطيع أن يحل مشكلته ويخرج من كبوته.
لكن الملاحظ أن هذه التغيير لم يحدث بضربة حظ، أو من دون مقدمات، وإنما كان هذا التغيير يسعى حثيثا فيتسلل بنعومة إلى حياة الأسرة، فتستشعره الأسرة في كل مفاصالها.
الحبكة في هذه الرواية تعلو تدريجيا، ثم تصل إلى الذروة، ثم تهبط بشكل تدريجي، وهذا يتضح من خلال تدوير الأحداث وتصاعدت في شكل هرمي، بل يتضح أيضا من خلال اللغة التي لم تكن لغة أدبية في كثير من المواضع، وهو ما يتوافق أحيانا مع الفكرة الغرائبية للرواية.. انظر إلى أول جملة في الرواية:
"أكلت ثلاثين جراما من السبانخ هذا اليوم بسعر الكيلو اثنين من اليوروهات"
أو اقرأ في موضع آخر ما جاء على لسان البطلة:
"أبي ليس طويلا ولست بأحسن حالا منه، ولذا كانوا يسمونني في المدرسة بالأجر الأدني"
أو "أمر أبي في البيت بترتيب السرير للشاعر".
وكلها كما نرى تغيب عنها اللغة الأدبية تماما.. ربما هذا هو شأن الأعمال التي تعتمد على الفكرة البراقة.
وعندما قررت الأسرة إرجاع الشاعر ترشيدا للنفقات لا سيما بعد أن انتهت مهمته، عادت البنت إلى البيت باكية محزونة فانعزلت في غرفتها، وعندما دخلت عليها الأم، صدمت البنت، وقالت لأمها أراك صرت عجوزا يا أمي.. فما كان من الأم إلا أن قالت بلغة الشعر.. التجاعيد هي العواطف التي تجتاحنا في هذه الحياة.. ولما لا فقد كان عنوان الفصل الأول من الرواية "ثلاثون جراما من السبانخ"؛ بينما انتهى فصلها الأخير حاملا عنوان "لا يمكن ترك الشعر أبدا".
نلحظ أن هناك تماسا لهذه الرواية مع رواية ساعي بريد نيرودا، فساعي البريد الذي يتفرغ تماما لتوصيل الرسائل إلى الشاعر المشهور، تدخل حياته في انعطافات وسياقات أخرى، حتى يتحول هو نفسه إلى شاعر.
أنهى الكاتب روايته بنقطة من الأهمية بمكان، هذه النقطة تتعلق بعنصر الخيال، مؤكدا أن الخيال هو كل شيء في هذه الحياة، ذلك أن حياة الإنسان بدأت بالخيال، بل إن موت الإنسان ما هو إلا خيال.. وهو هنا يذكرنا بعبارة لوليم بليك في أغاني البراءة والتجربة، والتي تحمل المعنى نفسه.
من الجدير بالذكر أن الرواية قد صدرت عن دار مسكلياني، بترجمة عبد الجليل العربي.
|