القاهرة 25 مايو 2021 الساعة 08:15 م
د. محمد سمير عبد السلام
تنتشر حولي لافتات كثيرة، تشير إلى صور المثلجات، والمقاهي، واللحوم المشوية، وماركات السيارات، وصور الألعاب، والأفلام في هذا الشارع الواسع؛ أشم الآن روائح التبغ، والموز، والقهوة، وبعض الحشرات الميتة؛ وأستمع إلى أصوات منخفضة، تأتيني من شوارع جانبية؛ أميز من بينها أصوات أوراق الكوتشينة، والدومينو؛ أرى الجوكر يمسك بسيف طويل أسود، ممزوج بحمرة سائلة؛ وهو يضحك بقسوة فوق اللاعبين، يبدو أنه يلتفت إلي أيضا؛ وكأنه يغويني بمغامرة اللعب، فأنصرف، بينما تنهمر حولي أرقام الدومينو ممزوجة بعلامات استفهام سائلة تحت منضدة أخرى، تنفلت ضحكات اللاعبين، وتذهب إلى المساحات الفارغة وراء البلاط، أو إلى البالوعة.
فجأة تأتيني أصوات نسوة يضحكن بصوت عال من مكان قريب لا أميز ملامحه؛ فتبرز أمامي شفتا امرأة في فضاء أبيض؛ وكأنها تقوم بعرض فني؛ فتبتسم، وتتلوى، تقبل نحوي، وتغيب تدريجيا في فجوة تؤدي إلى كهف مجهول قديم، بينما تعبرني الآن شلالات من مياه بنفسجية تبدو كثيفة، ثم شفافة، ثم تصير طيفية تماما مثل الهواء فتمر من خلالي بصورة متكررة دائرية، وتسير تحتي، وتخرج من رأسي، وتطير في مرح حول الصور واللافتات، وسقف المقهى.
تبرز امرأة تمسك بميكروفون، وتقول:
-انتظروا.. انتظروا.. توقفوا يا سادة.. سنقدم اليوم عرض الشارع البهيج.
تخرج المرأة، ومساعدوها شاشة كبيرة، وتبتسم، وتبدأ في تقديم عرض لديناصور كبير يترنح، ويغمز لي بعينيه، بينما يفتح فمه، يصل صوته إلى أذني متقطعا كأنه مياه مندفعة، أو فيضان، ويقول بصوته المائي:
- لا تعتقد أنني أنا الصورة التي تراها الآن.
- ومن تكون إذا؟ أنت مجرد صورة.
- سنرى.
تنفتح من بطنه فجوة، تشبه المقبرة، وأرى وجه رجل يلعب الكوتشينة، يشبه كلوف في مسرحية بيكيت، يلقي الأوراق داخل الديناصور، ويرمي واحدة باتجاهي أرى فيها امرأة بوجهين؛ أحدهما الوجه القديم لملكة اللعبة، والآخر لامرأة؛ كأنها الموناليزا؛ طيف كلوف يبدو مرحا، ثم يصمت، ويبدو مشغولا في حوار عميق مع شخصيات الأوراق، بينما يأتيني صوت مائي آخر لتمساح، ولكنه يمتزج بنغمات متقطعة لطبلة حادة، ونغمات تشيلو، يبدو أنها تخرج من الفجوة المظلمة.
-لم لا تدخل إلى فجوتنا الجميلة، ألا تريد اللعب مع كلوف، والديناصور، والأميرة؟
اصعد الخشبة واستمتع باللحن..
تدخل الآن المذيعة بحلة جديدة،
تقول بصوت بهيج وحاد:
هل ترون هذا المهرج يا سادة؛ هل ترون ما معه من أوراق فاتنة؟
أترون فيها تاريخ الفن؟ أم ترون أنفسكم؟
أذهب ناحيتها.
-هل تعبثين بعقولنا يا امرأة؟
-ما ذا تقول يا سيدي، ألم تستمتع بفقرات الحفل؟
-بالطبع استمتعت، ولكنك تعبثين بعقولنا أنت، وهذا الديناصور؟
-ديناصور؟ أي ديناصور يا سيدي؟ هذا صديقي المهرج؛ وهو معي منذ بدأ الحفل.
-أنت إذا تمثلين دور مذيعة الحفل.
- ماذا تقول؟ أمثل؟ أنا المذيعة فعلا ..
-أنا لا أصدق يا سيدتي، أنت ممثلة عبثية ..
-اصمت قبل أن أضعك حالا على خشبة مسرح، أو أضع صورتك على ورقة من أوراق اللعب بحقيبة المهرج.
-لن تستطيعي..
يقترب منى المهرج وأرى خلفه طيفا لرجل قصير أعور كأنه نبت للتو من عوالم فاجنر الأسطورية؛ يحاول الرجل أن يتحدث، ولا يستطيع، ثم يخرج صوته كالتمساح، ويقول بصوت خافت متقطع: شارك معنا في هذا السيناريو؛ بينما أشعر بصوت المذيعة يضحك أو يتألم، ويأتي ممزوجا بتيارات المياه البنفسجية.. تقترب مني مرة أخرى.. وتقول:
- ألا ترى يا سيدي أننا نقدم لعبة مثيرة؟
- بلى، ولكنني أشعر أن امرأة أخرى غيرك كانت هنا منذ قليل، وكانت تصطحب حيوانات تشبه كائنات هيرونيموس بوش..
- أتسخر مني يا سيدي؟ اذهب مكانك، وشاهد في صمت.
-أيمكنك أن تغيري مسار اللعب قليلا يا سيدتي، وتنزعي عنك جاكت تقديم الحفل..
- حسنا.. ولكن ماذا تريد؟
- سترين أنك ببساطة قد تكونين جزءا من فقرات أخرى كانت هنا منذ قليل..
- عدنا لحكاياتك الخيالية إذن، تفضل هذا هو الجاكت.. هل استرحت؟
تبدو الآن المذيعة في حلة أخرى تتقاطع فيها المياه البنفسجية، وبقع سوداء كثيرة، وشفاه لنسوة يصرخن، رغم تناسق ألوان الروج الأحمر..
-أترين يا سيدتي أنت ممثلة إذا كما قلت..
-وما يعنيك في هذا الأمر؟
.. لتذهب إلى المقهى الذي جئت منه وتتركني وشأني..
-لن تكملي فقرات الحفل إذا..
- لقد تأخرت، يجب أن أعود..
- إلى أين؟
- إلى هذا الجبل البعيد..
تشير إلى صورة لجبل شفاف، تظهر خلف تكوينه الطيفي اللافتات، والصور، والألعاب، والمباني، والديناصورات، والمرايا البراقة التي لا تعكس شيئا.
-هل يمكنني أن أصطحبك اليوم إلى هناك..
-هيا..
نقترب، نصطدم أحيانا، نتباعد، نستمع إلى أصوات نسوة يضحكن، يمثلن أدوارا كوميدية، ويصرخن أحيانا، نقفز في الهواء، ثم نغيب..