القاهرة 11 مايو 2021 الساعة 01:25 م
قصة: محمد أبوزيد محمد
- صباح الخير يا خلوو
- صباح الزفت على دماغك
- طب اركب يلا وقولي مالك!
الآن فاتت عشر سنوات بالتمام والكمال وهو يشكو لي ما تقترفه زبيدة في حقه من مطالب وآثام ليس له شفيع عندها فترحمه، ولا يجرؤ أن يبطحها بطحة تنهي الأمر، فيدخل السجن ويضمن المبيت والزاد، وكلما التفتُّ للطريق، ينهرني بشدة ويصرخ:
- هو أنا باحكي لمين رد عليا أنا غلطان..؟ اخلص منكم في ساعة واحدة قادر يا كريم
فأبتسم له، يزداد غيظًا ويزيد صخبه، ما دفعني للصبر عليه أول الأمر "أجرته" التي اختتم بها يومي، والوحيد الذي لا يُفاصلني، كل يوم فصل من قصة زبيدة، تجعلني لوددت أن اقتلها وارتاح، تعاطفا معه ومللا منها، الفصل الأول منها حينما أوقفني بميدان عبد المنعم رياض "عابدين يسطا" وقفت، ركب، ودار الحديث بيننا..
- بتاعك التاكسي ده
- آه يا حج
- طب جدع والله بتكسب كويس، مقصدش أعرف حاجه والله أنا بدردش معاك، ربنا يباركلك فيه
- ولا يهمك يابا أهي ماشية وبـتُرزق
- حلو شغلني معاك أنا لسه طالع معاش طازة
تبعها بضحكة:
- ماتخفش أنا ما صدقت ارتاح تلاتين سنة شقا
وبدأ يُهمم ويتأوه على ما مضى ويطلب الستر فيما هو آت، وأولها كارثة الزوجة الثرثارة، وحكى قصة زواجهما وما فعلته من صراخ وعويل ليلة الزفاف حتى خرجت الحارة عن بكرة أبيها وخرج الجيران من الشرفات، ولكن فيما بعد اعتاد الجميع على نغمات الكروان الهادئة كل صباح، عجيب أمره، ساخر لأبعد الحدود، كلما تعمَّـقت مُصيـبته كان أكثر سُخرية، ورغم ما عدَّ من كوارثها أفاض من محاسنها وحبه لها الذي وصفه بالدواء، مُـرٌ لكنه يُشفي من علّة الأيام وقسوتها، أنيسته الوحيدة يأنَسُ بأحضانها في المساء، وفي الصباح تُـؤنسهُ بـمُـحاسبته على ما اقترفه من ليلة الزفاف حتى خمسة وعشرين عاما لحقت بها.
وصلنا، أشار لي بالصعود معه للضيافة، ثم رجع في كلامه..
- ولا أقولك عدي عليّا بُكره سبعة الصبح هتلاقيني على القهوة دي
صباح اليوم التالي ذهبت ووقفت أمام المقهى، طلبت من "القهوجي" أن يُشير إليه بأني هنا، فنداه بصوت عال وهو ينظر لشرفته:
- يا خلوو التاكسي وصل
فأتى مُسرعًا ولطمه على خده واضعًا يده على فمه
- بس يا مهّـروش هتجيبلنا مُصيبة
ثم تأبطه بعيدًا وعاد لي مُشيرًا بالذهاب..
- كورنيش التحرير
- حاضر
- انت اسمك ايه يا وله؟
- حمادة!
- وراك حاجة؟
- لا مروح!
- تعالى اصطاد معايا
- مليش فيه، و تعبان والله يابا
- تعالى أفطر معايا طيب
وبعد إلحاح، ذهبت توفيرا وجوعا، أخرج سنارته وألقى خيطها للصيد، لم يشغلني الجوع بقدر ما فعله، لماذا يلقي خيط "سنارته" دون طُعم..؟ نظر لي وضحك، سألته عن أولاده لم ينجب، شرد عني متأملا المياه الجارية تحت قدمه كالمرآة ناظرًا ليّ فيها، أحسّ ما على وجهي من متاعب، وضع يده على كتفي و"طبطب" برفق ظللت معه شهور، وذات صبيحة في موعدي انتظره بالمقهى، لم أره، أخبرني الجالسون أنه لم يصح بعد، صعدت وأنا كلي شوق ورجفة أن ألتقي بالست زبيدة، الباب مفتوح، إذ به مُلقى بالأرض، نظرت في جميع الغرف، لم أجد أحدا، دخلت الشرفة المُطلة على المقهى وصرخت في أحدهم أن ينجدني، صعدوا وأفاقوه معي، وكلٌ رجعَ من حيثُ أتى، سألته عن زبيدة..
- راحت السوق إلهي ما ترجع
ظللتُ معه حتى الظهيرة خوفا عليه، لم تأت، اتصلت بي زوجتي فأخبرته أني ذاهب إليها.. أمسك بيدي كطفل يخشى أن يُـترك وحده..
- انت كمان عاوز تمشي زي زبيدة؟
- أكيد قربت تيجي!
- هو يابني اللي بيروح بيرجع..؟
بعد عودتي أحضرت له ما يلزم من دواء في السابعة صباحا من اليوم التالي، ناديته بصوت عال متعمدًا، صَخب.. وضحك الجالسون، صار يجري وراء أحدهم، لحقتُ به، وأخذته من يده، أدخلته التاكسي..
- تعالى احسن لو شافتك هتسوّد عيشتك
- زبيدة دي ست الكل، هي بس عصبية حبتين والله، هما بيكرهوها عشان ستهم، هي اللي بتدافع عني، عشان كدة مش بيحبوها.. ايه ده انت جبت سنارة جدع يا وله...
حـبَستُ دموعي ونزيف ألمي لما به، يختلق كل هذا فقط ليأنس بخيال من صُنعه، فضَّل أن يعيش بحُلم، خيرًا من واقع يُميته، رميتُ خيطُ سنارتي بلا طُعم، فـضحك..
- هو انت كمان عندك زبيدة وخايف تجيب "طُعم" لتقولك اللي يعوزه البيت يحرم على الصيد؟
وهكذا فاتت العشر سنوات، كل يوم، في نفس الموعد، السابعة صباحا..
- يلا يا خلووو عمّال تقولي صباح الزفت على دماغك وزعلان إني اتأخرت عليك، وأديك نمت تاني يا سيدي.. خلوو، خلوو، عم خليل..!