القاهرة 15 ابريل 2021 الساعة 03:03 م
بقلم: حاتم عبد الهادي السيد
منذ البداية يماهينا الروائي وليد علاء الدين بلعبة الكتابة؛ في روايته "ابن القبطية"، فهو قابض على مسيرة السرد؛ يوجهه برؤيوية غاية في الدهشة والاقتدار؛ فقد بدأ روايته بتقرير طبي عن حالة يوسف الذي يعاني اضطرابات نفسية، وقد نصح الطبيب بأن يُعالج عن طريق الكتابة، ليكتب يوسف حكايته على طريقة "السيكودراما" وهي تمثيل ما يشعر به المريض بنفسه، وكأنه على خشبة المسرح، وهذه العملية في الاستدعاء الذاتي ستكون سببا – لا محالة – في المساعدة بسرعة الشفاء؛ وربما هذا ما يفعله المؤلف هنا، ولكن بوعي شديد، وبمهارة في تسيير الحدث عبر الفصول التي وضع لها عناوين لافتة مثل: "هواجس ليلة الدخلة"، "العود جميل يا يوسف"، "قنص الأصوات"، "أضغاث لجنة الاختبار"، "الغواية" وغيرها.
والعناوين هنا تستحث القارىء إلى تشاركية ذاتية؛ عبر سرده المتنامي، والذي يمثل هارموني لعقد تنتضم حروفه، عبر لغة دالة موحية، ومخيال تصويرى يضفي على -واصفات السرد المثيولوجي- مزيدا من الجمال الأبيستولوجي، ويعبر بالحكاية من أفق إلى أفق، فمن جلسات الحشيش والراقصة في ليلة عرس البغل، أو الخرتيت؛ وهو الوصف الذي أطلقه على "منصور" الضخم ذي الترهلات، وأمل الفتاة الجميلة، الرشيقة التي تزوجته لأنه على دياناتها، إلى "العود" الذي يلازمه طوال الوقت، ليعزف ألحان قلبه الحزين، أو "كراسته الزرقاء" والتي تمثل مع العود -بطلين مجاوزين جديدين لأبطال الرواية- والتي يسجل فيها يومياته، أو ما يعتريه من شجون، وفوضى شعورية، لذلك الشاب الذي تحول إلى مريض نفسى؛ كما نلحظ دخول شخصياته إلى مسار السرد بعفوية شديدة، وبذكاء سارد عارف بتفاصيل السرد السيميائي البديع، اللطيف، وعبر لغة الحشاشين، وما يعتريهم من نِكات، وقفشات بفعل النبيذ؛ أو الحشيش أو البانجو في الحارة المصرية، حيث الشيشة، وامتدادات الحكي، والمواقف الحياتية التي تستدعي "النكتة" كوسيلة للخروج من الأزمات المجتمعية، وكوسيلة للتطهر والعلاج، وكوسيلة لاستمرارية الحياة، وتحمل مشاقها، فهي تطهير وتنفيس، كما الكتابة، ودق العود هنا؛ وهما وسيلتاه للخروج من أزماته النفسية، وعودة يوسف إلى الحياة من جديد .
ولعلنا نلمح هنا "الحكاية داخل الحكاية" أو "القصة داخل الرواية" بما يشي باستخداماته لتقنيات القص، أو سينوغرافيا السينما؛ أو المسرح التراجيدي، أو الملهاة الساخرة، أو السرد الذى يكتبه –عبر النوعية– وتلك لعمري إلماحات أراها، أكثر تجديدا، باستدعائه - الراوي العليم – بل والكاتب – دون أن يشعر القارىء بذلك – لتتجسَّد مأزومية، وجمالية السرد ذو الاتجاهات المتعددة، كأننا أمام زوايا وانحرافات هندسية، متقاطعة، ومتواشجة للسرد، وعبر تعددية لصوت المسروديات الحكائية، عبر تناغم السارد، المؤلف/ الراوي، ومخاتلات الضمائر، والأصوات، واللغة الوشائجية الحميمية، الأقرب إلى الشعر.
ولعلنا نلحظ وجود الكاتب، والذى قبضنا عليه – لحظيا - متلبسا، لنندهش – مع رولان بارت- لنسأل عمن سرق المشار إليه في النص؟! وتلك لعمرى مهارة كاتب، وجمالية سردى يكتبه "عبر النوعية"؛ لتندغم الإجناسيات الأدبية للقصة والمسرح والرواية، باندغام صوت المؤلف والراوي والسارد العليم، لنقر "بعالمية السرد"، وتجاوزاته حد التوقع، إلى الإدهاشي، والمخاتل، الشاهق، والأثير ، والجميل كذلك.
كما يستخدم المؤلف تقنيات "الصورة والظل"، و"الصوت والصدى"، وكأنه يستخدم "الفلاش باك" في السينما ليعيد إنتاجية المسرودية التى يتغيَّاها؛ عبر وعي كاتب، وإيهام بالسرد، لكنه يكتب "الذات والمتخيل" عبر شخصية "يوسف" العاقلة، وليست صورة يوسف المريض نفسيا كذلك، وكأنه يخاتلنا بغير اليقين؛ ليصل إلى اليقين، وباللامعقول ليصل إلى المعقول، وبالحلم والغياب ليصل إلى جوهر الواقع والذات والأشياء، وكأنه يعيد إلى أذهاننا عصر "تيار الوعب" ليناهضه بغياب الوعي لدى يوسف، وبغياب الوعي لدى الجمهور، والمجتمع، والعالم، وكأنه يقدم لنا رواية كونية، ما بعد حداثية، من خلال "وعي الكاتب، ولاوعي الراوي"، وغياب الذاكرة للسارد، أو تعمية الأحداث، عبر :" القناع "؛ لإظهار جوهر الحقيقة والبرهان، وتلك لعمري فلسفة كاتب، وبراعة سارد، وحنكة حكاء وراوٍ، يدغمها جميعا "بعجينة السرد السيمولوجية"، عبر مسيرة السرد العالمي المنير، ذو الأبعاد المختلفة عبر النوعية تارة، وعبر السرد الروائى السيميائي المخاتل كذلك، والشاهق في كل الأحايين، أيضا.
ولعل الكاتب –هنا– ينشد "رواية ما بعد حداثوية" تندغم فيها الهويات في قالب إنساني واحد، وتغيب فيها معالم الأديان والطبقية، بما يشي بفكرة: "عولمة العالم"، ثم نراها تصرح ليوسف "بأنها تريد من صلبه ابنا" لمعرفتها بحب العرب للبنين، لكنها تعود في كلامها، وتتمنى مجيئها أنثى، والأنثى هنا مصدر التوالد، وكأنها تنشد إعادة إنتاجية لهذه البذرة المتخلقة في رحمها بدماء الأديان جميعا؛ فتعرج إلى الأماكن والجهات عبر القارات، وكأنها تريد عالما جديدا يقوم على الحب، عبر اندغام الإنسانية في عولمة ممتدة، تقول:
(أريدها أنثى تأخذ من تربة إفريقيا خصوبتها، ومن رمال آسيا نعومتها، فتكون لقاء الطين بالرمل، قلت لي: يا يوسُف، عندما كنتَ لي، إن أجساد الرجال هي الرمال، بينما الطين الرخو أجساد النساء).
كما نلمح تعدد مستويات السرد من المخاطب إلى المتكلم؛ إلى السارد / النّاص؛ إلى الكاتب ذاته، فتندغم لعبة الأصوات بتبادلية الصورة والظل، لتصنع رواية أكثر رؤيوية ودهشة، وجمالية عبر لغة يندغم فيها الشعر بالنثر، بالمثيولوجيا الشعبية، والأغاني العامية، وقصيدة النثر التي كتباها معا في "شرم الشيخ"، وربما يدلل المكان هنا على رؤية كان يطمح إلى تنفيذها الرئيس الراحل محمد أنور السادات ليجمع الديانات كلها في مدينة الأديان بالقرب من "دير سانت كاترين".
وفي النهاية: فلقد نجح الكاتب وليد علاء الدين في تقديم رواية مخاتلة، تتلبَّسَنا، وتطرح قضايانا بمشمولياتها، وتنويعاتها، وتحاول محو الهويات والأعراق، وانصهار العالم في هوية حداثية جديدة، يجمعها الإسلام الذي يحوي كل الأديان والمعتقدات كذلك.
ستظل هذه الرواية المابعد حداثية – تثير الأسئلة، كلما أعاد المرء قراءتها، وكل قراءة ستعيد إبراز زاوية جديدة فيها، وكأنها "الموناليزا العربية"، "جيوكاندا الشرق الجميل"؛ تعبرنا عبر جهاتها، فأينما تنظر تجد عينيها، عين الفتنة والجمال، وعين المبدع، وهنا نحن أمام رواية تستهوي القارىء، فتتجدد الرؤيوية كلما أعدنا القراءة، وكأنها بها السحر، بل هي "السحر الجميل"، والسرد الماتع المهيب، والتى تنشدا اكتمالية الوجود الإنساني، وتدعو إلى سلام العالم والإنسانية، فهى رواية "إنسانية بامتياز"، ورواية مابعد حداثية أيضا.