القاهرة 13 ابريل 2021 الساعة 10:02 ص
بقلم: حاتم عبد الهادي السيد
يرسم الشاعر اليمني يحيى الحمادي صورة مغايرة لليل اليمن، وتحديدًا بتوقيت العاشرة، عبر قصيدته، وتوقيتاتها التي تخالف التوقيتات الزمنية المعهودة، فهنا بتوقيت – ليس جرينتش -، ولا بتوقيت مونت كارلو، ولا بتوقيت الزمان الذي نعرفه، بل بتوقيت القرى الحزينة، العاقرة؛ التي لا تنجب سوى الحزن، حيث تعود للأموات أرواحهم، وتضحك الدنيا على الآخرة، ولعلنا نلحظ شعرية المخاتلة، فالدنيا تضحك على الآخرة لتعيد الأموات من جديد؛ لا ليسعدوا؛ بل ليزدادوا تعاسة وحزنًا، وكأنها تعكس الصورة، ويقدم تخالفية معكوسة للحياة، عبر الصور الاستعارية الرشيقة، وعبر المعنى الرامز المتضمن لحمة الحزن، عبر مخيال نمطي؛ محدد لصور الأحزان في ليل العاشرة باليمن الحزين / السعيد / الجديد / القديم، فهنا حالة من الجنون / الحزن، تغايرية الأحداث عبر تبدليَّة الزمان والمكان والحياة المغايرة، الغريبة، يقول:
هُنا.. بتوقيتِ القُرى العاقِرةْ
وفي تَمامِ الساعةِ العاشرةْ
تَعُودُ لِلأمواتِ أرواحُهُم
فَتَضحكُ الدُّنيا على الآخرة
ويَهجُرُ الأحياءُ أَحياءَهُم
وهُم لَمَردُودُونَ في الحافِرة
ويُطفِئ المَجنُونُ مِذياعَهُ
على عَوِيلِ الليلةِ الماطرة
فَيَحبِسُ التاريخُ أَنفاسَهُ
مُسائلًا: ما هذه الظاهرة؟!
ثم نراه يجيئنا بتوقيت جديد؛ مغاير للسابق، ألا وهو: توقيت البلاد التي تمد ساقيها على الذاكرة، فهو توقيت موجع، لا يأمن فيه أحد للنجاة من الحرب الدائرة، حرب الطوائف في اليمن، حرب العقائد المتعصبة، وحروب الوكالة، وحروب التمظهرات، وللأسف يدفع الفقراء والأطفال والنساء والشعب تذكرة الزعامات الهشّة؛ والإمارات المزعومة التي تعلي رايات الدين والجهاد والحرب المقدسة والدين منهم براء جميعًا، من القاتل والمقتول، الشاهر سيفه في وجه أخيه المسلم لإرضاء مظهريات وتعصب لسنّة أو شيعة، أو مذهب أو طائفة مقيتة، ولعلنا لن نحاسبه كذلك على الخروجات والخروقات للوزن، لكنها قصيدة المعنى: الإنسان، عبر تعبيرية قلب مجهض؛ أنهكته الحرب فغدا يهذي بصور معكوسة، وكأنه يجسِّدُ حالة الخارجين من تلك الحروب، يقول:
هُنا.. بتوقيت البلادِ التي
تَمُدُّ ساقَيها على الذاكرة
وحيثُ لا جَدوى، ولا يَأسَ مِن
خُروجِها مِن حَربها الدائرة
وحيثُ لا يُصغَى إلى صَوتِهِ
سِوى الكلاشنكوفِ والطائرة
وحيثُ يَستَجدِي الضُّحى شَمعةً
ويَستَجيرُ الفَقرُ بالفاقِرة
وحيثُ لِلأعمارِ تَلويحةٌ
سريعةٌ، كالطّلقةِ الغادرة
ومع أن الشاعر – هنا – لا يشبع قوافيه، ولا يحافظ على معمارية الشعرية؛ إلا أننا سنخرجه من هذه الدائرة لمبدأ نبيل: أنه خرج من الحرب، التي رأى فيها الأهوال، بل غدا يكتب الشعر على غير مثال، عبر صور معكوسة لوضع حياتى مقلوب كذلك، فهو يكتب بتوقيتات الوجع: الجراح، البلاد المنهكة؛ الدمار، مناظر الأطفال، أشلاء الجثث والدمار، وكلها مظاهر لدمار الروح والعقل، فيكتب وكأنه مخمور، أو لا يريد أن يتذكر الحرب من جديد، يقول:
هُنا.. بتوقيتِ الجِراحِ التي
تُطِلُّ مِن مأساتِها ساخرة
تُراوِدُ الأَيّامَ عَن ضَمَّةٍ
وتَكتَفي بالفَتحةِ الظاهرة
وتَزدَرِي الحِرمانَ، وهو الذي
أَخَفُّهُ كالطَّعنِ في الخاصرة
وتَقرأُ الأحزانَ مَقلوبةً
كأنها ليست بها شاعرة
وتَنهَرُ ابنَ اللّيلِ.. لكنه
مُكابرٌ في حَربِهِ الخاسِرة
ثم نراه يختم قصيدته بتوقيت الحروف التي تتداور حول من هاجروا، الذين فروا من الحرب، اللاجئين في مروج العالم، ولعلنا نلمح صورًا باذخة هنا متراكمة، تنصب على المجنون، الجائع للكرسي، الطامع في حكم على مشاجب الدماء، الذي يلغ الدماء وهو يحسب أنه يصنع معروفًا؛ فإذا به يرى مجنونًا، يتخبط مرة بفكره، ومرة ينقاد وراء حرب خاسرة، ومن يعارضه فله السجن أو الموت رميًا بالرصاص، لذا نرى القصيدة تطلب منه أن يغادرها فلم تعد على احتمال جلدها، وقد أحسنت صنعًا بذلك لتفر من هول الرهبوت والنار والدمار، يقول:
هُنا.. بتوقيتِ الحُروفِ التي
تَحُومُ حول السّفرةِ العامرة
وحيثُ لا تَدري اللُّغَى أَيُّها
مَشَاعةٌ، أَو أَيُّها نادرة
يُحاولُ المَجنونُ إدراكَ ما
يُريدُهُ مِن ذاتِهِ الحائرة
فَتَارَةً يَهوِي على فِكرةٍ
وتارةً يَطفُو على خاطرة
وبين بابِ السجن والملتقى
قَصيدةٌ مَخنوقةٌ فاغِرة
تَقُولُ: غادِرنِي.. فإنّي على
احتمالِ نَفسِي لم أَعُد قادرة
إن شاعرنا يحيى الحمادي هنا يحاول أن يصف مشهدية لليل اليمن الحزين بتوقيت العاشرة، حيث لا يسمع في الليل إلا صوت المتفجرات والبارود والرصاص، ولا صوت للقصائد أمام المدافع وأزيز الطائرات.
غاية نبيلة ينشدها شاعرنا الذي تحلل من تركيبية القصيدة ليندغم مع المعاني المتواشجة خلف ظاهر الحروف المهزومة، كالإرادة التي تكسَّرت في اليمن بتوقيت العاشرة ليلًا، حيث الليل يزيح النور، وحيث العتمة والحرب وصوت الرصاص وهدير المدافع التي تسربل الموت في العاشرة.