القاهرة 13 ابريل 2021 الساعة 09:54 ص
بقلم: طلعت رضوان
وظــّـف جدودنا المصريون القدماء (ملكة الخيال) عندما رمزوا لشعبنا بأحد الطيور، حتى ولوكانت من الطيورالوافدة.. والتي تأتي إلى مصر لتتمتع بجو مصر المعتدل، حيث كانت مصر ملجأً لطيور الشمال من البرد القارس في الشتاء.. ولطيور الجنوب من حر الصيف في أفريقيا.. ومن بين الطيور الوافدة الطائر الذي ورد في الكتابة المصرية القديمة باسم (رخيت) وأطلق عليه الشعب (طائر الزقزاق).
ويرى كثيرون من علماء علم المصريات أنّ طائرالرخيت ارتبط بمنطقة الدلتا (قبل الوحدة السياسية بين الجنوب والشمال) وأنّ اسم مدينة (رشيد) ربما من مرادفات اسم الطائر(رخيت).. وتحوّل في اللغة القبطية إلى RxtRachit ثـمّ إلى رشيد.
حول هذا الموضوع كرّستْ له الباحثة المتخصصة فى علم المصريات Egyptology الأستاذة أمينة مهدي كتابها الضخم (رخيت: في الحضارة المصرية) الصادر عن هيئة الكتاب المصرية- عام 2020.
أهم ما جاء في البحث أنّ مدلول كلمة (رخيت) في النصوص المصرية القديمة، أنها تدل على (عامة شعب مصر) أو البشر بصفة عامة، كما ورد اسم الرخيت في نصوص الأهرام، ومن رأي الباحثة أنّ النصوص الكثيرة أثبتتْ دليلًا لا يقبل الشك في أنّ طيور الرخيت رموز للشعب المصري، وهو ما تأكد فى كتابات الحكيم (إيبور) وفي صلاة (سنوسرت الثالث) الذي يحمى طائر الرخيت بذراعيه، وكذلك نص (سيتي الأول) الذي أمر ببناء السور (في إحدى المعارك) لكي يطمئن (قلب الرخيت).
الملحوظة الثانية التي رصدتها الباحثة هي أنّ طائر الرخيت دخل ضمن منظومة تقديس العديد من الطيور (داخل الميثولوجيا المصرية) مثل الصقر (رمز حورس) وأبو منجل (رمز تحوت) وأنثى الصقر (رمز نخبت) Nxbt وكان لمثل هذه الطيور الدور البارز في المعتقدات المصرية، الأمر الذي أدى بالفنانين المصريين إلى تجسيدها على جدران المعابد، وعلى تماثيل الملوك (كنوع من الحماية).
وطائرالرخيت يــُـكتب باللغة المصرية القديمة، بعلامة لطائرله عرف على رأسه، شبيه بطائرالزقزاق، أوأبوطيط المائى.
وعن أهمية الطيور في المعتقدات الشعبية، أشارتْ الباحثة (من بين مراجعها العديدة) إلى رسالة ماجستيرالباحث (لؤي محمود سعيد) بعنوان (الفكر الشعبي الديني في مصر القديمة) وأثبتتْ الباحثة أنّ طائرالرخيت منقوش على لوحة عن الفترة السابقة على حكم الملك مينا، واللوحة موجودة على مركب فى مقدمة الميناء، كدليل على أنّ طائر الرخيت هو الذي يقود المركب.
وعن فترة حكم الملك زوسرالذى تميـّـزحكمه بالقوة والحكمة، وكان طائر الرخيت أحد رموز الحكم، وعبــّـر الفنان عن ذلك بنقش مذكور فيه أنّ الملك توجه إلى (مدن الرخيت) فى الشمال، ومن بين النصوص الدالة على أهمية دورالرخيت نص ورد به (تنظيم الأرض الزراعية غربـًـا وشمالا فى حماية الرخيت) وفى نص آخر (الغرب والشرق يبتهج بالرخيت) وهذه النصوص واللوحات التي ظهر فيها طائر الرخيت، موجودة في معظم متاحف العالم، ومن بينها المتحف البريطاني برقم 15508.
وأهم ما جاء فى بحث الباحثة، هو تأكيدها على أنه لفت نظرها أنّ صور طائرالرخيت على الجداريات، وفي البرديات، أنّ الفنانين- عبـــْـركل عصور الحضارة المصرية- كانوا يرسمون طائرالرخيت (في شكل إنساني) خاصة التأكيد في الرسم على أنّ لديه (يديْن) يــُـشبهان يد الإنسان، وأجنحته ليست معقودة خلفه، واليد اليسرى مضمومة إلى الصدر، واليمنى مرفوعة إلى أعلى، في وضع يشبه بعض الملوك أثناء التعبد في الصلاة، أو في طقس يسمى (الهنو) أي تقديم التمجيد أوالابتهاج والفرح، حيث تقوم أرواح السلف المقدسة، لمدن مصر العليا والسفلى، برموز خاصة بالآلهة مثل (رأس صقر) الذي يرمز إلى (حورس) ابن إيزيس وأوزيريس، أو برأس (ابن آوى) وهو يؤدى تحيته للشمس المشرقة فجر كل يوم.
وأضافتْ الباحثة أنّ عبادة أرواح الآلهة مثل (نخن) وردتْ فى بردية تضمنتْ عبارات قديمة، كــُـتبتْ بالخط الهيروغليفى، وفســّـرعالم المصريات (ريتشارد ولكسون) فى كتابه (دليل الفن المصري القديم) أنّ أرواح (نخن) تدل على أنها أتباع (ملوك الصعيد) وفســّـرعبادة أرواح آخرين بأنها أتباع (ملوك الوجه البحرى) ومن آن لآخر تظهرالكائنات المجسدة ذات الأهمية الرمزية مثل الرخيت.
وفى نقش للملكة حتشبسوت على الجدارالجنوبى لمقصورة الإلهة (حتحور) بالديرالبحرى بالأقصر، تــمّ العثورعلى رسم صوّرفيه الفنان الملكة حتشبسوت وهي تستقبل القرابين، وبجانبها يظهر طائر الرخيت وقد رفع يديه (في وضع تعبد) وتحيط به علامة (سمتاوى)، وشكل لإله النيل بجسمه الممتلىء وعلى رأسه نبات الجنوب، وفي الناحية المقابلة على رأسه نبات الشمال، لتأكيد وحدة القطريْن المصرييْن (جنوب الصعيد والدلتا).
وتـمّ العثورعلى نقش فى حديقة النباتات بالكرنك (على الجدار الجنوبي) لعصر الملك تحتمس الثالث -من الأسرة الثامنة عشرة-، وهذه الحديقة بها رسومات بديعة لنباتات وحيوانات وطيور جمعها الملك فى حملاته الحربية، لصد هجوم الغزاة الآسيويين، وعــُـثرعلى نقش لمعبودة سكان الغرب (آمنت- حامية الموتى) وهي تنظرإلى الأسرى مكبلين وبجانبها نقش لطائر الرخيت، ونقش آخر للملك وهو يقدم نبات البردي وزهرة اللوتس للمعبود (رع) وخلفه المعبودة (حتحور) وكذلك المعبود (رع- حور أختي) أي أفق الشمس وبيده طائرالرخيت كرمزعلى أنه الملك لكل المصريين، وأنّ الطائر يمثل شعب مصر، وفي نقش لتمثال على (هيئة أبوالهول) من البرونز المرصع بالذهب مكتوب عليه (كل الرخيت يتعبدون لرع) وفي الشرح: عملية خلق الملك آمن-حتب الثالث كتجسيد لولادته على (عجلة الفخرانى بواسطة الإله خنوم) والملك يمسك طائرالرخيت.
وفي (معبد آتون) بالكرنك تـمّ العثورعلى نقش لطائرالرخيت بأذرع إنسان مرفوعة في وضع تعبد، وبجوار النقش خرطوشة لأخناتون ونفرتيتي.
وفي مقبرة الملك (توت- عنخ- آمون) نقش لوحدة الجنوب والشمال، ووحدة شعب مصر، ويــُـظلل النقش تجسيد لطائرالرخيت، كذلك رسم الفنان الملك وهو يمسك رمز(حقا- ماعت- العدل) بيده اليمنى، وطائر الرخيت بيده اليسرى، أي أنّ الفنان أراد التعبيرعن استقرارالحكم، بتحقيق العدل من ناحية، وبتقديس الطائرمن ناحية ثانية.
وعــُـثرعلى نقش فى معبد الملك (سيتى الأول) بمدينة أبيدوس (الاسم اليونانى للمدينة المصرية Ab- Dw الواقعة قرب (جرجا) الحالية، وتشتهر بوجود مقابر الأسرة الأولى والثانية، وكان يحج إليها المصريون طوال عصور الحضارة المصرية، وفي النقش المذكور تجسيد للملك في وضع تعبد للإله (آمون- رع) وبيده طائر الرخيت كرمز على أنه ملك لكل الشعب، وفي نفس المعبد نقش آخر لطائر الرخيت بأذرع إنسانية في وضع تعبد ممسكا بنبات اللوتس، رمز الجنوب، وبجانبه نقش آخر، وبيده نبات البردي رمز الشمال.
وفي نقش من عصر الأسرة التاسعة عشرة، تجسيد للملك رمسيس الثاني وبجواره طائرالرخيت بأذرع إنسان، وفي نفس النقش خرطوش للملك عليه اسمه (وسر- ماعت- رع- ستب ن رع) أي رمسيس الثاني- مرى آمون- محبوب بتاح- رب ماعت التي تسمع الدعاء، وهذا النقش وُجد على كتلة من الحجر الجيرى، ومحفوظ بمتحف اللوفر.
وعــُـثر على نقش بمعبد (أبو سمبل الكبير داخل قدس الأقداس) وهذا المعبد هومعبد جنائزى بناه الملك رمسيس الثانى- الأسرة التاسعة عشرة؛ بهدف عبادة (رع- حور أختي) أي أفق الشمس، ويزيــّــن واجهته أربعة تماثيل ضخمة للملك، وبهوالأعمدة يتميز بعدة مناظر أشهرها انتصاره فى معركة (قادش) وبجوارالملك نقش لطائر الرخيت كرمز للشعب.
وفي معبد الأقصر نقش يمثل الملك (سيتى الثاني) الأسرة التاسعة عشرة ويحتوي على اسم الملك (وسر- خبرو- رع- مري آمون- سيتي الثاني) المحبوب من الآلهة ومن كل طيور الرخيت، أي المحبوب من كل الشعب.
وفي نقش على قاعدة تمثال من الجرانيت الأسود، من الأسرة العشرين (عصر الدولة الحديثة) وهذا النقش موجود بمدينة طيبة الغربية (مدينة هابو) وبها تماثيل ونقوش عن الملك رمسيس الثالث، وفي قاعدة أحد التماثيل طيورالرخيت، كرمزللشعب.
وتـمّ العثورعلى نقش في معبد (مدينة هابو) لمقصورة (مركب آمون) عصر الأسرة العشرين، في عهد الملك رمسيس الثالث، وفيه تجسيد لطائر الرخيت بهيئة إنسان (بجسده كله وليس الوجه فقط) وفي وضع تعبد، وتضمن النقش هذا السطر المكتوب بالكتابة الهيروغليفية (كل طيور الرخيت يتعبدون للآلهة الذين فى الأرض، ويتعبدون للآلهة الذين فى السماء) وفى سطرآخر شرح الفنان على جانب النقش أنّ هذا النقش يمثل الملك رمسيس الثالث (وهو يقدم البخور، وماء التطهر للربة حتحور، ويــُـظهر طيور الرخيت).
وفي نقش آخر يظهر الملك رمسيس الثالث وبجانبه الربة ماعت (رمزالحق والعدل والانسجام الكونى) وبجواره طائرالرخيت في هيئة إنسان له أجنحة، ونقش آخر في (معبد خونسو) بالكرنك من الأسرة 21 - عصرالملك (حريحور-1080- 1074- ق. م) وهذا الملك كان من عامة الشعب والتحق بالجيش وترقى حتى وصل لرتبة ضابط، وذلك في عهد رمسيس الحادي عشر وعاصر الملك (سمندس) في الأسرة21، وظروفه شبيهة بظروف الملك (حور- إم- حب) أي أنه كان من عامة الشعب أيضــًـا، والنقش يــُـظهر الملك (حريحور) وهو يتسلم (عقد المنات) وهو العقد الذى يبدأ مع بداية تسلمه للسلطة ويتلقاه من الربة (حتحور) وتحميه الربة إيزيس، وخلف النقش يظهرالملك وهو يمسك طائر الرخيت، فى تأكيد من الفنان على أنه ملك يحكم مصر.
وتـمّ العثورعلى نقش فى معبد (بوباسطة) من الأسرة 21، وهذا النقش يمثل أربعة من عروش السماء، أوالمقاصير، ويبرزصورة الملك (أسركون) ابن شيشنق الأول (ثاني ملوك الأسرة 22 الليبية) وبالرغم من ذلك رسمه الفنان وهو يرتدى زي المعبود المصرى (أوزير) وبيده شارة الحكم، وأسفل النقش تظهر طيورالرخيت بأيادى البشر، وهذا النقش يؤكد حقيقتيْن: الأولى تأثرالملوك الأجانب بالحضارة المصرية، الثانية التأكيد على وجود طائر الرخيت في النقش كرمز للشعب المصري.
ومن بين النقوش المهمة النقش المكتوب بالكتابة الهيروغليفية ونصه (يا كل المطهرين، وكل المرتلين، وكل طيورالرخيت، وكل الكتبة، وكل الأحياء على الأرض، الذين يمرون على مقبرتى، امدحوا.. وأحبوا آلهتكم المحلية) وهذه المقبرة موجودة في الضفة الشرقية للنيل (بين إسنا وإدفو).. وترجع أهمية هذا النص (ص322 في كتاب الباحثة) إلى أنه يؤكد ما كتبه كثيرون من علماء علم المصريات Egyptology من أنّ الحضارة المصرية عرفتْ (تعدد الآلهة)، وأنّ هذا التعدد أنتج (قيمة تقبل معتقد الآخر) والتعايش مع كل المعتقدات، بدليل أنّ أتباع أوزير يحتفلون مع أتباع حتحور، وهكذا مع كل المعبودات، وهي الظاهرة التى انتقلتْ فى العصرالحديث، حيث إنّ أبناء طنطا يحتفلون مع أهالي القاهرة بمولد السيدة زينب، ومولد الحسين.. إلخ، وهي الظاهرة التي رصدها علماء علم الاجتماع وأشهرهم عبد الحميد يونس وسيد عويس ونعمات أحمد فؤاد وآخرون.
ورصدت الباحثة ظاهرة غاية فى الأهمية، وهي أنّ ظاهرة طيور الرخيت كرمز للشعب، استمرتْ حتى بعد الاحتلال اليوناني والروماني لمصر، بدليل العثورعلى نص مكتوب باللغة القبطية (ص348)، بل إنّ تأثير هذا الطائر المرموز به للشعب المصرى امتد لعصر البطالمة؛ حيث تـمّ العثورعلى لوحة (محفوظة بالمتحف المصري) اكتشفها العالم ليبسوس بشرق الدلتا عام 1866، مكتوبة مرة بالحروف الهيروغليفية ومرة بالحروف اليونانية، والتركيزعلى علاقة الطائر بالشعب المصرى (ص352).
وفي نقش آخرعن إيزيس فيه (تلاوة بواسطة الأم العظيمة، سيدة السماء والأرض، والعالم الآخر)، ويتوسط التلاوة طائرالرخيت (368).