القاهرة 06 ابريل 2021 الساعة 09:51 ص
عاش الذكريات: صلاح صيام
في حياة كل مبدع ذكريات جميلة تبقى عالقة في الذاكرة لتذكرنا بكل ما هو جميل ورائع.. الشاعر الثائر "بابلو نيرودا" يقول عن المذكرات إنها تسجيل لصور فوتوغرافية؛ أما الذكريات فهي تسجيل لوحات تشكيلية من صنع فنان نحت الألم في قلبه الكثير..
في هذه السلسلة نحاول الغوص في أعماق المبدعين، نستخرج ذكرياتهم المحفورة في الذاكرة ونبحث عن الأشخاص الذين أثروا في حياتهم وصنعوا أشياءً لا تختفي بفعل الزمن.
واليوم موعدنا مع الشاعرة الشاعرة الجزائرية صورية حمدوش التي تحكي لنا ذكرياتها..
تزامن اليوم العالمي للشعر 21 مارس مع اليوم العربي لعيد الأم الذي تم التأسيس له من طرف الكاتب مصطفى أمين الذي أرسى دعائم هذا الاحتفاء اعترافا وعرفانا لكل الأمهات اللاتي يتحملن كل التعب والمهانة والذل في كثير من الأحيان من أجل أبنائهن..
وأنا فى مساري الأدبي لا لأحد فضل عليّ بعد الله سبحانه وتعالى سوى والدتي فهي ملكة الإنسانية دون منازع، أمي التي عاشت حياة اليتم ووالدتها حية مند الشهر الثاني لأن مجتمعنا الجزائري كانت تحكمه أعراف وعادات وتقاليد تقهر المرأة ولا تسمح لها بإبداء رأيها، ولقد كانت جدتي أم والدتي قوية الشخصية لاتحب أن تهضم حقوقها ولا أن يداس على كرامتها من أي كان وكانت جدة والدتي امرأة متسلطة، لم يحلُ لها أن تكسر كلمتها كنتها وتخرج عن المألوف فأحست أن كنتها قليلة التأديب لأنها تدافع عن حقوقها، فطردت جدتي، وعلى النقيض منها كان جدي من والدتي رجلا زاهدا حكيما، فرفقا بوالدته وطاعة لها قبل بانفصال جدتي عنه وكانت من دفعت ضريبة هذا الإحسان من جدي لوالدته هي أمي التي عاشت يتيمة، تحملت قهر زوجة الوالد وهي بنت الخمس سنوات عندما أحرقتها زوجة والدها بجمر في حجرها بعد طهي الكسرة، لكن الله لم يشأ أن تعيش ذليلة مقهورة فقد توفيت جدتها وتحرر والدها من عقدة تأنيب الضمير فطلق زوجته اللاإنسانية و تكفل بتربية والدتي التي كانت نعم البنت ونعم الأم ونعم الزوجة، فقد كانت بشهادة الكل تحمل صفات التميز والتفرد، فقد تكفلت بوالدة أبي وأخوانه الصغار بمساعدة والدها، بينما كان والدي يبحث عن لقمة العيش في فرنسا، لنكتشف أنه كان من المجاهدين الذين نقلوا الثورة هناك لأرض العدو، فقد كان أحد المتظاهرين في 11 ديسمبر إلا أنه كتب له الحياة ولم يرمى كغيره فنهر السين بفرنسا.
في هذه الآونة كانت والدتي تدفن أبناءها التي اختطفتهم الكوليرا، وتخبز للمجاهدين، وفوق كل هذا تبرعت بكل ما تملك من حلي فضية ما يعادل الخمسة كيلو، لأن والدها لم يكن له غيرها فكانت بالنسبة له ملكة مكللة على عرش قلبه، وبعد الاستقلال أراد أن ينتقل والدي إلى المدينة، لم تقبل والدتي لأنها لم تشأ أن تترك والدها في تلك المنطقة الريفية المنعزلة لأنه لم يشأ أن يترك أصوله وحياته البدوية إلى أن توفاه الأجل بعد ولادتي بثلاثة أشهر.
رحلت والدتي إلى مكان لم تألفه وحياة جديدة لاتملك فيها سندا، فوالدي بالغربة وهي من تحملت مشاق تربيتنا، وبعد عودته إلى الجزائر واستقراره هنا ما يزال يتكىء عليها، أذكر ذات حادثة أن سيارته تعرضت لعطب وقيل له أن تلك القطعة بها مجموعة من الحجارة الصغيرة مترسبة بها ولا توجد قطاع غيار مما اضطره إلى التنقل بسيارة أجرة إلى عمله، فشغلت أمي فكرها وقامت بتغلية ماء ساخن واستعملت قطعة حديد مما نستعمله للبناء وبدأت بعملية الدعك حتى حررت تلك القطعة من الحجر المترسب فيها، فيما عجز عن ذلك أخصائيون بإصلاح السيارات، كانت لا يعجزها شيئا تلك المرأة الأمية لا تعترف بالمستحيل ، حياتها وقوتها في مجابهة الحياة، بالإضافة إلى روحها المرحة وأيضا قرضها للشعر الملحون؛ هو من جعلني أتحدى هذا المجتمع الذكوري الذي لا يقبل بالمرأة القوية التي تبدع وتجاهد كل الأعراف والتقاليد من أجل اخراج ما ميزها الله به وحباها به من مواهب.
كنت أول ابنة تتعلم في عائلتنا الكبيرة، تلك العائلة الريفية، وأول واحدة تقرض الشعر وتوثقه وتجاهر بكل مشاعرها، وتكسر الرتابة التي توشح العائلة ومجتمعنا الشبه ريفي خاصة وأنني أكتب الرومانسيات كثيرًا فديواني الأول "أوراق من النبض" يحوي بين دفتيه 103 قصائد جلهم رومانسيات، وبديواني الثاني "بين فتق الجراح ورتقها" تعرضت إلى تابوهات مسكوت عنها في مجتمعنا المنغلق على كل شيء، ينادي بالحرية التي وهبنا إياها الإسلام، لكن مجتمعاتنا المريضة نسجت لنا قيودا وأحكمت علينا إقفالها، فليس من السهل عليّ أنا البنت المحافظة أن أجاهر بكل كتاباتي وأجول وأصول ليس ببلدي الجزائر فقط، فقد تجاوزت الحدود وكسرت كل القيود إلى الوطن العربي وشاركت بملتقيات عربية.
وبعدها طبعت طبعة ثانية من ديواني "أوراق من النبض" بمصر، وأيضا ديواني الثالث "دياجر الغياب" التي لم تبق منه سوى بعض النسخ وبإذن الله تعالى تحت الطبع ديوانين آخرين، ليس من السهل أن أكسر هذه القيود، لو لم تكن في عقلي جينات ورثتها عن أمي وجدتي من والدتي التان أعطياني دافعا لمواجهة هذا المجتمع المنغلق على ذاته، وأوله عائلتي ووالدي الذي لم يتقبل في البداية هذه الحرية التي أراد المجتمع سلبي إياها باسم الأعراف والمعتقدات وأسماء أخرى ما أنزل الله بها من سلطان.