القاهرة 02 مارس 2021 الساعة 08:52 ص
بقلم: حاتم عبد الهادى السيد
ما بين الخبز والفرجار والموت تكتمل متوالية "دوائر الحكمة"* لدى القاص الأردنى حسين دعسة؛ وما بين لعبة الضمائر، والدوائر، يتمسرح القص ليشكل متتالية لعقد السرد الأنثوي البهىِّ الهادئ والمتدفق من نورانية عاشقة للأرض والخضرة، للفلاح القروى "ناصر" ذلك المزارع الذى أبهرته سيقانها فترك الحديقة معشوشبة ليفر بحسرته وليلتحف الجمال قلبه؛ فغدا يتمشى في طرقات المدن والقرى مبتهجاً برؤياها؛ وهى المطلقة التى أرادت أن تتحرر؛ بعد سرد لحياتها التى عانت فيها الكثير مذ كانت طفلة غريرة إلى أن كبرت؛ فهى تتوق للخضار؛ للحب، لذا لم تزرها رياح ذلك الحب مع الزوج، فطلبت الطلاق لتتأزم حالاتها؛ ويتلقفها الموت ليخلد قصة عاشقة تنزع للحرية.
وبداية فقد أخذنى "ناصر" -عبر التأويل- إلى الزعيم الراحل "جمال عبدالناصر" الرمز الوطنى العربى الكبير؛ وإلى مشهدية العروبة بعد موته كذلك، عبر قهر المدن والدول بعده؛ حيث الآتى من خلف الأشجار، وصوت فايزة أحمد : "يا أما القمر ع الباب" ؛ لكنها أحزان أنثى، في المطلق، ويمكن أن تنسحب على أحزان الأمة العربية عبر التأويل .
لقد رأينا جماليات التصوير: " الرغيف الساخن على الجسد العطشان؛ الجسد العطشان للحرية والعشق والدفْ، الفرجار الذى يرسم دوائر الأيام والسنوات؛ وحلمها المتكرر: (حدث أن كشفت لأمي عن حلمي، فقد أصابتني عين الفلاح الذي يهتم بمزرعة بيتنا، رصد شعري الأسود الليلي، مالت نظراته على صدري الثري، ونزل يتأمل تلك السيقان البلورية، غاب مصعوقا، وترك حديقة بيتنا بدون تعشيب) .
إن ترك الحديقة بدون تعشيب يشير إلى الشوق للتلاقي؛ للعشق الذى حرمت منه، والعطش إلى من يلملم جراحها، وهى البتول التى لم تأخذ حظها من الحياة رغم تدورات جسدها، وقدَّها النحيل، وجمال أنوثتها الطاغي.
لقد أجاد حسين دعسة رسم شخوص القصة ببراعة، فمع وجود الأم والأب والأخ والأخت؛ إلا أننا – هنا – قد وجدنا ساردة بصوت وحيد؛ وكأنها تعزف على مزامير الوحدة والفقد، وتنزع إلى الدفء والحنان؛ وتتعطش لسقيا الروح : "فالقمر على الباب" ، وشكواها لأمها من تنازع روحها لوجه البستانى الذى يحمل النماء، ويقطف الأعشاب، وهو الذى بخل عن إزاحة العشب عن حديقتها، فظل المكان والجسد معشوشبان برائحة التوق والخضار..
إنه السرد المثيولوجي، والجمال الرامز، وما خلف ظاهر النص السردى يمكن أن نتأوله على الوطن الجريح، والعروبة المذبوحة، والمرأة المطلقة التى تتوق إلى التحرر بالطلاق بحثاً عن غد جديد؛ لكنه الموت الذى يبرهن ويشير إلى اليقين، وهى بثوب العرس تتوارى في التراب بيد أخيها وأبيها وأهلها، وأبناء وطنها كذلك.
إن القصة تحمل رمزيات لدوائر الحكمة عبر الخبز الذى هو عصب الحياة، خبز الحرقة والتعطش للشبع بعد جوع نفسى وجسدى هادرين، وجوع عاطفى أثير، وتنهيدات تزفرها المطلقة، وأطر مجتمعية تمثل الطوق والأسورة حولها، فممنوع خروجها، وحرام بعد الطلاق، والعدة، ونزوعها إلى الحرية ولو عن طريق الحلم أمر فيه نظر كذلك، ويجىء القبر كشاهد على أوجاعها المتكررة، وكرمز ممتد، لحياة خشنة؛ فنراها تنشد الراحة والخلاص كأوجاعنا العربية المقهورة التي قبرت بفعل الهزائم المتكررة، والضعف الممتد.
ولقد رأينا التدوير؛ والإزاحة، والانتقال من مشهد إلى مشهد عبر سيمفونية الوجع والحزن، وعبر متتاليات السرد الوصائفى الذي يوظف كل معنى ويحوطه بالرمز لتتسع دائرة القراءة لدى القارىء الذى يتعاطف مع هذه الأنثى المطلقة التي تحلم بفارس يضمها، أوبعاشق يربت على أوجاعها، يحتضنها، وبناصر جديد لأحلامها الممتدة.
لقد استطاع الكاتب بمهارة عبر الراوية / الساردة أن يجسد لنا صورة القهر والحزن، ومشهديات الوجع واللهفة، والتوق إلى الحب والحرية، والعبور إلى المشتهى الروحى من جراء جماليات السرد الواصف، واللغة النورانية التى تخش إلى القوب من أقصر طريق، وعبر التشكيل البصرى الذى يجعل القارىء داخل الأحداث، وظل يمتعنا، وينتقل بنا عبر دوائر السرد والحكمة، وعبر رمزية الدائرة التى تنزع إلى الاكتمال عبر فرجار الحياة الحزين.
كما نلمح إشاريات اللغة، وبراعة السرد؛ لتظل الرمزية المطلقة هى مكتنزات هذا السرد؛ عبر النص؛ والنَّاص، وعبر تشاركية القارىء الذى يتأول فضاءات هذا السرد المكتنز الملهم؛ والذى عبر عنه المؤلف والقاص الأردني حسين دعسة بسهولة ويسر من خلال رمزية أنثى متعطشة للحب وللحرية، وللدفء من جديد؛ ومن خلال لغة سيميائية، لواقع حزين.
لقد أبدع دعسة في ردف السرد بإشراقات النور عبر هارموني متسق لمشاهد متعددة، وبأسلوبية، وصور شاعرة، استطاع من خلالها إضاءة مستويات السرد بجمالية وشوق اللهفة لأنثى تتلهف الحياة عبر لغة شهية، عجنها بدفء الأنثى، وبمثيولوجيا التأويل التى قد تنسحب إلى عجزنا العربى لأمتنا العربية، ولدموعنا التى تنهمر لأوجاع تلك الأنثى / الحبيبة العاشقة ؛عبر الكون والعالم والحياة.
* قصة "دوائر الحكمة" للكاتب والقاص الأردني حسين دعية منشورة بكامل فر باب قصة على صفحات مجلتنا "مصر المحروسة".