القاهرة 23 فبراير 2021 الساعة 08:52 ص
كتب: حاتم عبد الهادي السيد
"أدب المخيمات واللاجئين"، "أدب المقاومة"، "أدب الحرب"، مسميات متباينة؛ تعكسها لنا قصة المبدع الجميل "حسين دعسة"؛ عبر ثلاثيته القصصية / المشهدية: (طريق القلوب إلى النهر)؛ فهي مشاهد تتنامى مع هارموني السرد المتهادي؛ كنهر على زورق الروح المترقرقة عبر ماء القلب الآسن، والوجع الشهي الزاعق بقلوبنا؛ وقضايانا القومية الكبرى، والقضية الأم "فلسطين"؛ ابنة الخلود؛ وزهرة مدائنها القدس؛ التي غابت خلف بيارات البرتقال، وسلال الزيتون المضيئة بمشهديات الدم، وصور الأهوال، والبيوت المحطمة، وحيث اللاجئين يعبرون إلى نافذة الحياة؛ التي لا تفتح لهم؛ فهم يفرون من الحرب إلى الموت؛ عبر قصف الطائرات، وأهوال الجحيم؛ والمعيشة البائسة التي خلفتها الحروب اللا إنسانية البشعة، حيث صور الأطفال تحت عجلات المجنزرات؛ ومشهديات الجثث المتناثرة التي تغطي الطرقات عند الصباح في مشهد مهيب، حزين.
إنها الحرب.. اللاجئون الذين لاذوا من ويلاتها؛ فإذا بها تلاحقهم أهوالها، يقاومون بالكلمة، ويتصبَّرون بالغناء، ويحلمون بيوم جديد للحرية السعيدة، لكن الحرب لا ترحم، لتغيب المخيمات، ويظل الشاهد الوحيد واقفًا يتذكر "أم مريم" التي فقدت الحلم، وغيبتها الدنيا مع غياب القضية، "غياب مريم"، غياب العرب، غياب الحقيقة الكبرى، وضياع فلسطين.
إنها مأساة فلسطين: "مريم الضائعة"، وأم مريم الحزينة"؛ ترسل رسائلها إلى حفيدها / المستقبل؛ وتبكي "جائحة الحرب"؛ والتي هي أقوى من "جائحة كورونا الحالية"، تقول: "حفيدي، لم أرك منذ آخر جائحة، أحب أن أنسى جوائح العالم، قلبي فيه من الدمامل ما تعجز عنه الحكايات!". إنها إذن تبكي مأساتها التي هي أقوى من أي جائحة تكتنف العالم، فالفقد وضياع الأوطان، هو الذي أضاع مريم التي أكلها الغول؛ لما صمت العالم عن نُصرة المسكينة الوحيدة، لذا لا غرو أن تتنامى القصة بمثيولوجيتها؛ ومرموزاتها؛ عبر التراكم؛ والإزاحة، ولنتأول خلف ظاهر المعنى لنشاهد المأساة الكبرى: مأساة مريم البائسة، وأمها الحزينة، مأساة فلسطين العربية، ابنة العرب، وجارة القمر، وأخت النهر والبحر، والقلب الحزين.
إنها "طريق القلوب إلى نهر الحزن"؛ بين "جبل ونهر الشريعة في الأردن" النهر التاريخي المقدس الأردني/ الفلسطيني قبل ترسيم الحدود؛ ونهر الحزن بقلب أم مريم الحزين؛ والراوي/ المؤلف/ "النَّاصّ" وجدناه يمشى على "الحافة" للحلم البعيد بتحرر الأوطان، وعودة اللاجئين من مخيمات "العار العربية"؛ و"العجز"، و"الفضيحة"، وسقوط وانهزامية الإرادة في نصرة "الأقصى الحزين". فلسطين التي نشتم رائحة برتقالها، والشيح البري"، والزيتون المضيء بالسلام، وتعانق الأديان، ومجنزرات الموت التى تحصد كذلك بيارات البرتقال الحزين.
ولنلمح تكثيف وتراكمية الصور الدافقة، وما وراء ظاهر المعنى الإزاحي المتراكم؛ عبر وصفات "السير – ذاتي"؛ لحكاية الأسر الفلسطينية البائسة؛ في مخيمات اللاجئين الممتدة"؛ عبر المنافي؛ فهو يكثف الوصف، عبر لغة سلسالة، تصور المشهد عبر صور بصرية، وكأنه يجسد لنا لوحات تشكيلية؛ نشاهدها، ونعقد تشاركية معها - كقراء- بدواخلنا، عبر سرده السيميائي، ومخيالات اللغة، ودفوقها المتألق، عبر بساطة الوصف، وعمقه، ودلالاته الإحالية الرامزة: وعبر صور يرسمها بروحه، تأخذ بألبابنا؛ وتَخُشُّ إلى قلوبنا – دون استئذان – فهو سرد مكتنز، حالم، حزين، عبر دلالات الترميز التى تكتنز أفق ومخيال مسروديات الأحداث الممتدة.
ولعلنا نلمح تنويعات السرد؛ ومشهديات الأحداث، وجمالية الوصف حتى مع تلصص حارس المخيم على أم مريم، وهي تدهن جسدها البرونزي الجميل / الواهن بزيت معتق؛ وتعطره بالشيخ، عبر واصفات السرد السيميائى السيمولوجي المدهش، يقول: (ذات ليلة شاهد العجوز تمسح خصرها بزيت السيرج ومنقوح الشيح، مد رأسه داخل الخيمة وصمت، عقد لسانه من فرط ما تخفي العجوز من محاسن الجمال وإن ترهل على ألم، خاف أن يحلم بها فيصاب بالجنون، أذهلته تلك الوشوم التي تناثرت حول حضنها؛ وما بان من زغب يخفي عجائب ما زالت ترشح بالمسك والعنب). إنها أحزان الجميلة المقهورة؛ التي غَيّبَ جمالها الحزن، لكنه لم يغب، عبر وصفه الرائع الشاهق الأثير، وعبر كراهته لأولئك الصهاينة الذين شردوها، وضيعوا مريم، لتظل "أسطورة مريم" متواشجة مع السرد الذي ضفَّره بالغناء الشعبي على أنغام "آلة الأرغول" وهو يغني لها، للمخيم، لفلسطين الضائعة، لبقايا المخيم الذى كان بالأمس، قائمًا؛ ثم أصبح وقد تناثرت أشلاؤه في اليوم الثاني، ليغنى وحيدا، كشاهد على التاريخ الدموي للحروب وأهوالها، يقول: "بدنا نحارب حتى نموت.. أو ترجـع فلسطينيا"؛ ولقد كانت تغني معه العجوز قبل أن تغيب مع الموت، والدمار، والرصاص، والقصف.
إنها المقاومة باقية؛ حتى لو لم يبق إلا الحارس؛ إلا أن المستقبل في أيدي الصغار الذين سيوالون الجهاد المقدس؛ لتحرير فلسطين.
لقد استطاع المبدع الرائع حسين دعسة أن يوظف مستويات السرد، ويعمقه؛ بالغناء، وبأغاني الموروث الشعبي الفلسطيني؛ ليندغم الحلم مع المستقبل، ولتتواشج أحزان أصحاب المخيمات واللاجئين في المنافي العربية، وفي "غور الأردن"، لتظل أسطورة ضياع مريم الجميلة عند باب نهر الشريعة"؛ هي حكاية فلسطين التي تكاد تضيع على بوابات القدس الحزينة، فهي قصة الطريق المؤدية إلى قلب العالم عبر قصة النهر الخالد.
لقد استطاع القاص حسين دعسة - ببراعة - تكيف الرمز، والصورة، وتجسيم القضية عبر مشاهد متواترة، متراتبة، ومتقاطعة، تظهر القضية الفلسطينية بقوة، لنحزن مع دموع مريم التي هي أقوى من كل جوائح العالم القاتلة، فهي قضية أمة، وحكاية عروبة، ومشهديات "الدم المراق على طرقات الأقصى الحزين، فمن؛ وكيف سَتُقرعُ الأجراس، ومتى يؤذن الطفل المقاوم للغد الوليد، وللحرية الغائبة؟!
إنها القضية الفلسطينية؛ يطرحها كاتبنا بحصافة عبر "بوابة المخيمات"، وحكايات النهر، وأحزان الأم الثكلى، مريم المجدلية الحزينة، وللقدس السليب المجروح على عتبات الكون والعالم والحياة.
إنها حكاية عروس غائبة، وأمة تحتضر، وعالم يتفرج، ووطن عربي مجروح، عبر صراخ الأطفال، وبكاء الثكالى، وصلوات القديسين، وتبتل الراهبات، ومآذن المساجد التي لم تُعد تُسمع من بعيد أيضًا.
لقد نجح الكاتب حسين دعسة في تجسيد القضية عبر حكاية المخيمات، وعبر مثيولوجيا الحكاية، وترميزات الغناء الشعبي، والسرد المكتنز؛ وسيميائية الوصف، وجمالية المعمار، والتصوير الشاهق، الماتع، الباذخ، الأثير. ونحن إذ نثمن ما كتب؛ فإننا عبر القصة نطمح إلى غدٍ جديد، تتعانق فيه الكنائس مع المساجد، وتعم أغصان الزيتون على كل أرجاء فلسطين، لتطير حمائم السلام فوق أقبية الأقصى الحزين. وكأنه يقول في براعة: "دعوا السلام ينمو في الأرض.. وليرحل الظلام، ولتخرج شمس الحرية بالحب؛ لتطير الحمائم في سلام".
طريق القلوب إلى النهر..
قصة / حسين دعسة / الأردن
المشهد الأول: المشي على حافة الحلم
ظل يتذكر تلك الممرات التي فيها وجد نجاته، وقت كان الضياع يسلب اللاجئين صوابهم، غيبتهم الحرب التي نقشت تفاصيل مختلفة لاتجاهاتهم بحثا عن مكان آمن، متاعهم أطفالهم الذين شلعتهم القذائف، جرجرتهم عائلات تاهت في غياهب السهول والأودية ومخاضة النهر.
كاد النوم يسلبها ما حملته، طفلة لم تتجاوز الخامسة، صرة من بقايا مصاغ وبقايا خبز وجبن أصفر جاف.
في حلمها الكابوسي أضاعت ابنتها مريم، رأتها تنام في ظل شجرة برتقال على حافة الشريعة، تئن، تغفو من جوع ومن متاهتها.
ترى في حلمها أنها تهيل التراب، تعفر رأسها وتندب الخواء، أكملت رحلة اللجوء، عبر حواف النهر، رفيقها الخوف وجسدها جف من عري تفضحه الوحدة، كانت تغوص في طين المخاضة وحيدة، شقق التراب والصخر قدميها تفقدت كل خيام الحافة، ضاعت مريم.
بقيت تهذي سنوات وغالبها همّ الفقد.
المشهد الثاني: رائحة الشيح
في آخر رسائلها إلى مريم، طلبت منها ان تبعث بريدها إلى حفيدها، تأملت صورة تلك الطفلة وقد التهمها غول الجبل، فكتبت ما وهن من إحساسها.
– حفيدي، لم أرك منذ آخر جائحة، أحب أن أنسى جوائح العالم، قلبي فيه من الدمامل ما تعجز عنه الحكايات؟
ومع تلك البقايا من أثوابها المطرزة، كانت أوراق الشيح، ورسالة لم ترسل تقول لحفيدها إن صورة مريم تلاحقها وقد أصبحت سيدة تتراقص حلماتها مع كل ضحكة، تجدل شعرها بعد كل رقصة، يحتضنها الغرباء، وفي الرسالة ترجو أن يرسل لها ما تبقى من صور العائلة، كتبت أنها تموت حنانا وحميمية لكل من غاب بعد موسم الهجرة، والشتات في مخيمات المتاهات، الركض وراء تعبئة جالونات الماء والتدافع على ممرات صناديق ومطاعم وكالة الإعاشة.
رسمت من خيط الدم عدة قلوب على ورق لا يحس حرارة الدم.
قبل حمامها الأخير، قالت الداية إنها شاهدت في عيونها المصقولة، لمحات لحقيبة ساعي البريد (…) وصل ساعي البريد وغيبتها نشوة الصور فركنت جسدها تضم الأثر ولا تتنفس.
رائحة الشيح كفنتها مع الحناء والبلسم، طلبت من القابلة _ بحسب أقوال القابلة الداية التي أخرجت مريم الى الحياة - التي غسلتها بوضع الصور على صدرها وتعطيرها بورق ندي من شيح نبت إلى جوار خيمتها في طرف المخيم.
على صفحة النعي، أدارت مريم قلم الكوبيا على ورق تئن رتوش الصورة التي غلقت مسام وجعها.
المشهد الثالث: صمت المغني
قهقة حارس المخيم تتواصل في كل أوقات الحراسة، يتحرش بأسرار تلك الخيم الوحيدة التي تغلق أبوابها عكازات، ذات ليلة شاهد العجوز تمسح خصرها بزيت السيرج ومنقوح الشيح، مد رأسه داخل الخيمة وصمت، عقد لسانه من فرط ما تخفي العجوز من محاسن الجمال وإن ترهل على ألم، خاف أن يحلم بها فيصاب بالجنون، أذهلته تلك الوشوم التي تناثرت حول حضنها وما بان من زغب يخفي عجائب ما زالت ترشح بالمسك والعنب.
في جولته الصباحية، مر الحارس وغنى لتلك المرأة في سدرة الخرج الحامي لأسطورة النهر الذي أكل مريم نبهته إلى أن أغنيته القديمة لا تموت، تاه يتذكر ما تبقى من أهازيج كان يرددها مع الثوار، وكيف علمتها الأمهات للأطفال الذين تشردوا وتيتموا، ركز يده على عمود الخيمة وسرح في بيارة البرتقال:
"مهما طـال عتم الليل.. بتجليه شمس الحرية"
.. واه يمه قلبي تاه والقمر غاب.. تركناها وغصنا في سيل المتاهة وضاعت يا ام، بكى وغنى:
"مهما طـال الليل وطال.. وغطى سواده ع الأطلال"
.."يا غائبة عنا فــي الوطن أبطال… بتعيد شمـس الحرية"..
مسحت دموعها بطرف ثوبها، غمست سخام القنديل ودهنت وجهها، رددت مع المغني الصامت همهمات تشلع القلب:
"لأجـل الزيتونة والتوت.. وأشجـــار المندلينا"
.. يا يمه، زمليني، جف الدمع وهاجت يماماتي:
"بدنا نحارب حتى نموت.. أو ترجـــع فلسطينيا".. في اليوم التالي، كان المغني ينفخ على اليرغول ضاربا في شعث المخيم، وحيدا.
يدك أردان خيمة العجوز ويشاهد صورتها الأخيرة في "لجن" النحاس المشبع بزيت معتق.