القاهرة 16 فبراير 2021 الساعة 09:36 ص
بقلم: محمد إمام
استيقظ عاملنا - جد خونس إيو إف عنخ - تحسس الفراش إلى جواره فلم يجد زوجته المدعوة مريت أمون - أي محبوبة أمون - التي استيقظت قبله لتغتسل قبل أن تعد وجبة الإفطار، نهض من فراشه ليمارس طقوس نظافته الشخصية فالمصريون اهتموا بنظافتهم وهندامهم بشكل بالغ.. تناول رفقة أسرته الطعام المكون من لبن وخبز وعسل.
ارتدى ملابس العمل، فقد بدأ العمال يتجمعون للذهاب إلى وادي الملوك، وتأهبت هي الأخرى للذهاب إلى عملها في معبد مدينة هابو القريب من قرية دير المدينة محل إقامتهم، فهى إحدى مغنيات أمون. لمحت "مريت أمون" قلقه، سألته عنه فلم يعرف بما يجيب، طبعت قبلة حانية على جبهته وشجعته على الذهاب إلى العمل موصية إياه بأن يبتهل لخونسو في طيبة -ابن أمون رع وموت الثالوث الطيبي الشهير- فقد سمعت إحدى زميلاتها في الفرقة تحفظ ابتهالا لخونسو ليحيميهم من كل الشرور والأمراض ولعنات الموتى وبطش المعبودات الأخرى وحتى من نفسه، فالمعبودات يرحمون من يدعوهم ويبطشون بمن يعصيهم -عُثر فى طيبة "الأقصر حاليا" على قرابة الثلاثين بردية تؤرخ بأوائل العصر المتأخر أغلبهم من سيدات موجهة إلى خونسو ليحميهم- وعليك بتقديم قربان له حتى يستجيب نداءك. شجعته كلماتها على تجاوز القلق قليلًا وخرجا إلى الشارع، كل إلى وجهته.
تحرك المسير باتجاه وادي الملوك فهم يقطعون الطريق يوميًّا وكل عشرة أيام عمل يحصلون على يوم للراحة بخلاف أيام الأعياد الرسمية، سار إلى جواره صديقه "نخت إف موت" وأخبره أنه أخطأ في المشاجرة مع زميله، فالأخير كان يضحك معه مثلما يفعل كل مرة ناصحًا إياه بالاعتذار، فهم أصدقاء في الأساس وجيران أيضًا، ابتسم له وحثه على السير حتى لحقا بزميلهم لتنتهى المشكلة، انخرط في عمله ولم يدر ما الوقت حتى موعد الاستراحة، آوى إلى ركن ظليل يحتمى فيه من وهج الشمس، رأى أحد الكتبة الماهرين يجلس على مقربة منه، تبادل معه أطراف الحديث وتطرق إلى محاولته لتعليم أبنائه ليوفر لهم مستقبلًا أفضل، واتفق معه على أن يعلم أبناءه الكتابة فى مقابل مقدار كذا من الخبز وكذا من الشعير وكذا من القمح، على أن يوثقوا هذا الاتفاق أمام مجلس القضاة الصغير -وهو ما يشبه في وقتنا هذا المجالس العرفية أو ما يسميه البعض "قعدة عرب" والتي تختص بالفصل في القضايا البسيطة- بعد يومين، فطار فرحًا، أكمل يومه بهمة ونشاط.
عاد إلى زوجته مستبشرًا فرحًا ليخبرها بما حدث احتضنته من شدة فرحتها، وجمعا أبناءهما ليخبروهم أن مستقبلهم سيتغير ولن يكونوا في شقاء أو يعملون في أعمال منهكة، لم يقل لهم خطبًا عصماء عن أهمية التعليم مكتفيًا بتذكيرهم بكلمات من تراث الأجداد آنذاك للحكيم خيتى دواو إف: "لا شئ يعلو على الكتب، الإنسان الذي يسير وراء غيره لا يُصيب نجاحًا، ليتني أجعلك تحب الكتب، لا توجد مهنة من غير رئيس لها إلا مهنة الكاتب هو رئيس نفسه، إنّ يومًا تقضيه في المدرسة يعود عليك بالنفع".. وأضاف بكلمات حكيم آخر لم تسعفه ذاكرته قول اسمه: "ليتني أجعلك تحب الكتب أكثر من حبك لأمك"، واختتم كلامه أن المكتبة تسمى "بر غنخ" والتي تعني بيت الحياة، وكأن التعليم هو الحياة.. ابتهج الأبناء قليلا ثم اندفعوا إلى الخارج ليلعبوا مع أصدقائهم بألعابهم الخشبية رديئة الصناعة، التي يصنعها نجارو القرية في أوقات فراغهم ليزيدوا من دخلهم المادي.
انفرد بزوجته ليدبرا كيف سيدفع نفقات التعليم، قال لها إن له دينا عند العامل "رع نب" - يعني اسمه رع السيد-، سيطالبه به وعندما يحصل عليه سيدفعه للكاتب فالدين يغطي نصف ما اتفقوا عليه، وسيحاول تدبير ما استطاع، وأخبرته زوجته أنها ستدبر في نفقات البيت ليشتروا لهم أدوات الكتابة، وفي المساء خلد الجميع إلى النوم، ألقى نظرة على تمثال "بس" رب المرح وابتهل لحتحور ربة الحب، وآوى إلى زوجته ونام قرير العين، فغدا يوم الإجازة وسيحصل على دينه.
ذهب في الصباح إلى رع نب ليطالبه بسداد الدين، فأنكره وقال له إنه لم يأخذ منه شيئًا، أُسقط في يد جد خونسو إيو إف عنخ فحلمه يكاد يتلاشى من عينيه، هاج وثار وكادا يشتبكا لولا أن فصل بينهما العمال، وقال عاملنا سأقاضيك في المحكمة لآخذ ديني.. سخر منه رع نب فله من الأصدقاء من لهم القدرة على حمايته ومنهم با نب ذلك الماكر الذي قتل رئيسه في العمل وحل محله ولم يستطع أحد محاكمته آنذاك، كما اتهم بسرقة أحجار من مقبرة الملك سيتي الأول ولم تثبت التهمة عليه، -ولكن عثر علماء الآثار على المسروقات في مقبرته عند اكتشافها في القرن العشرين- استشاط عاملنا غضبا وأقسم أنه لن يفرط في حقه، وذهب إلى مجلس القضاء في دير المدينة.
تكون المجلس من كاتب وعامل وكاهن وأربعة أشخاص ممن لهم مكانة في مجتمعهم، دخل عاملنا إلى المجلس وأقسم بأمون أنه أعطى لرع نب ما قيمته كذا وكذا من القمح والكتان ويريد الحصول على دينه ولكنه يأبى السداد.. سأله القاضي أين وثيقة الدين وأين الشهود؟ لم يرد فهو لم يُشهد عليه أحد كما لم يوثق الاتفاق عند كاتب كما يحدث في المعتاد.. لأنه وثق فيه فهو جاره وزميله.. استدعت المحكمة رع نب وطلب منه القاضي القسم قبل أن يتكلم، لأنه من أساسيات القضاء، فأقسم ببتاح أنه سيقول الصدق وأنكر أنه تقاضى شيئًا من عاملنا الذى كاد أن يفترسه لولا خوفه من العقوبة.. وانفض المجلس.
لم يعد جد خونسو إيو إف عنخ إلى منزله، فلا يعرف ماذا يفعل، قادته ساقاه إلى معبد مدينة هابو، البوابة مغلقة فالشمس أوشكت على المغيب، نادى بتاح فهو يسمع المصلين راجيًا إياه أن يساعده في استرجاع دينه، ولما أفلت الشمس عاد إلى بيته حيران أسفا لا يدري ماذا يصنع.. جزعت زوجته من منظره وفهمت ما حدث، تركته يستبدل ملابسه وينام.
لم تستطع مريت أمون أن ترى زوجها هكذا، فهى تعلم أنه قد يرتكب حماقة إذا لم يأخذ حقه، ظلت طوال الليل مستيقظة تناجي خونسو أن يحميهم وتبتهل لأمون أن يدبر أمرهم فهو الرحيم بأتباعه -أحد ألقاب أمون في العصر المتأخر- ولما أوشك الصبح أن يتنفس، دوت صرخة في القرية أيقظت الجميع، صرخات متوالية تأتي من بيت رع نب، منذرة عن مصيبة كبرى!