القاهرة 09 فبراير 2021 الساعة 03:38 م
تأليف: دانييل لفانتي بال*
ترجمة: د. عبد الله عبد العاطي النجار*
ميدان كالفاريا بالعاصمة بودابست، محطة الحافلات، تصل الحافلة الكهربائية رقم ثلاثة وثمانون. ينزل منها أناس، ويندفع نحو الأبواب آخرون، ويستقلونها. تتسمر أم شابة كثيرة السعال، ضعيفة بلا حراك، عربة الأطفال ثقيلة. لا تقوى على رفع عربة الأطفال إلى الحافلة. درجات سلم الحافلة الكهربائية مرتفعة، لا تستطيع وضع العربة في الحافلة الكهربائية بمفردها. يقف والد الطفل بجانبها، ينتبه إلى شيء آخر، يمضغ التبغ ثم يبصقه.
تمر دقيقة، وتتبعها أخرى. عوضا عن الحافلة رقم تسعة، تصل حافلة كهربائية أخرى تحمل رقم ثلاثة وثمانين. ينزل منها أناس، ويندفع نحو الأبواب آخرون، ويستقلونها. تقف الأم الشابة بجانب عربة الأطفال، وتنظر صوب طريق أورتسي، تنفخ محتويات أنفها، وتراقب الطفل، الطفل نائم، بلا حركة، وعلى طرف فمه قطرة لعاب جافة. كان ذكرًا، يشبه أباه. أنفه وذقنه مثل أنف وذقن أبيه تمامًا. الأم الشابة لا تبتسم. ينفض الرجل السيجارة ويخرج هاتفه وينظر فيه. الأبواب تغلق. تغادر الحافلة الكهربائية.
تمر دقيقة، وتتبعها أخرى. تصل الحافلة رقم تسعة. ينزل منها أناس، ويندفع نحو الأبواب آخرون، ويستقلونها. يندفع الرجل نحو الحافلة، ويستقلها، يلتفت إلى الخلف، ويلوح للمرأة بالإسراع. تهم الأم الشابة برفع عربة الأطفال. لكنها ثقيلة وممتلئة بالأكياس والحقائب. كل متعلقاتها فيها وكذلك متعلقات الطفل. ما زال الطفل صغيرًا، وقد يحتاج إلى أي شيء، لا يمكن ترك شيء في المنزل. كل هذا بالإضافة إلى الطفل، وطرف مجلة نسائية يبرز من العربة.
تحاول بكل قواها رفع عربة الأطفال إلى الحافلة. الفراغ بين حافة الرصيف وباب الحافلة أكبر من المعتاد، يبدو بوضوح أنها لا تقدر على رفع عربة الأطفال بمفردها. يمكن للأعمى أيضًا أن يرى ذلك، كانت هناك امرأة عجوز رأت أيضا ذلك. تُدلي بتعليق. لا شيء. تكرر بصوت أعلى: يوجد بداخلها انتقاد تجاه شباب اليوم، وتجاه رجال اليوم أيضا، خاصة أنها في أيامها كان يسرع إليها ستة رجال عندما تهم بالصعود إلى الحافلة، كانت أوقاتا مختلفة، كان يقف عند كل إصبع من أصابعها رجل. والد الطفل لا يحرك ساكنًا ولا تتحرك شفتاه بشيء، ينظر في هاتفه المحمول، لديه مهمة أخرى يجب أن يقوم بها، لدى الآخر أيضا مهام يجب أن يقوم بها، يجب أن يكسب مالًا، يعول أسرته، ويوفر لهم الطعام والشراب والكسوة، هو أيضا يقوم بمهمته الآن.
أخيرا ينتبه فتى شاب، يذهب إليها للمساعدة. يمسك بعربة الأطفال، ويرفعها إلى الحافلة، ويدفعها إلى جانب النافذة. تتنفس الأم الصعداء:
- شكرا لك.
ينظر الأب إلى الفتى، لا يبحث عن كلمات، ويصيح مباشرة:
- ماذا تفعل بحق الجحيم؟
لم يكن الفتى ضعيف البنية، بل كان يقارب طوله المتر وتسعين سنتيمتر، يحمل على كتفه حقيبة رياضية، إذا أخذ نفسًا ترقص عضلاته تلقائيًّا.
- قال الفتى: رفعت طفلك الصغير إلى الحافلة. بدلا منك.
لم يكد الأب يسمع الرد حتى نظر إلى الأم صائحا:
- ماذا قلت لك؟
تنهدت الأم، تشهق وتنفخ:
- لقد ساعدني فحسب...
نظر الرجل إلى الفتى مرة أخرى، قائلًا:
- لا تنظر إليّ! لا تنظر إليّ! سأصفعك على وجهك!
يأخذ الفتى نفسًا، ويسحبه الرجل من أمامه:
- سأركلك! لا تنظر إليّ! سأركلك!
ثم ينظر إلى الأم:
- ماذا قلت لك؟ ماذا قلت؟!
تتنهد الأم، يأخذ الناس جانبًا. يمسك شخص ما في الخلف بهاتفه المحمول كأنه يستقبل مكالمة.
يواصل الرجل كلامه، إلى الأم:
- أدير ظهري إليك فتبدأين في الاختلاط بالآخرين! كنت أعلم ذلك دائمًا! إذا لم أنتبه إليك تتوددين إلى رجل آخر. ألتفت عنك فتبدأين في إثارة الآخرين.
يتحول إلى الفتى:
- هل لك حاجة بها؟
يتحول إلى الأم:
- هل تريدين أن تعيشي مثل أمك؟ هل ترغبين بذلك؟
يتحول إلى الفتى:
- ماذا دهاك؟ هل تريدها لنفسك؟
يتحول إلى الأم:
- لقد كانت فتاة وقحة.
يتحول إلى الفتى:
– لا تنظر إليّ! أتسمعني، لا تنظر إليّ!
ينظرن الآخرون إلى الخارج من النافذة، لا ينظرون إليهم ولو مصادفة، فلديهم ما يكفي من المتاعب، لا يتدخلون عندما لا يضطرون إلى ذلك. استمر الرجل في الصياح، وظل الفتى يراقب في صمت لربما يصطدم به أو يحدث شيء من هذا القبيل. تحدق الأم في الطفل الرضيع وتلف أذني إحدى الأكياس المتدلية. تتابعهم العجوز لفترة وكأنها تريد أن تقول شيئًا. ثم لا تقول شيئًا، وتنفخ الهواء، وتنظر من النافذة. الشئون الخاصة هي شئون خاصة، التدخل فيها ليس دائمًا يحالفه الحظ، هذا ليس علم اجتماع، وهؤلاء لم يعد من الممكن مساعدتهم. وإذا قدمت مساعدة، ففي المنزل لن يصب غضبه عليك أنت، ولن يضرب رأسك أنت في زاوية السرير، ولن ترقد أنت نصف ميت تحت منضدة المطبخ.
*القصة من كتاب "الحي الثامن – بودابست" لدانييل لفانتي بال المتوقع نشره في منتصف 2021 بالقاهرة عن الأكاديمية المصرية للترجمة والنشر.
*دانييل لفانتى بال "P?l D?niel Levente": كاتب وشاعر ومؤلف مسرحي مجري شهير، ترجمت أعماله إلى عدة لغات أجنبية من بينها العربية، منها ديوان "لم نعش سدى" الذي صدر في القاهرة العام الحالي.
*د. عبد الله عبد العاطي النجار: مؤرخ ومترجم وباحث مصري. له كتب مترجمة منشورة عددها 31، وكتب مؤلفة عددها 14، ولديه مجموعة من الأبحاث العلمية المنشورة بدوريات محكمة وصل عددها حتى الآن 42 بحثا بالعربية والإنجليزية والمجرية.