القاهرة 04 فبراير 2021 الساعة 02:14 م
كتب: وائل سعيد
كانت فترة الحظر السابقة - والمرتقبة مع الموجة الثانية - تميمة الحظ الرابحة لبعض القطاعات، وفي مقدمتها منصات المُشاهدة الرقمية. خاصة بعد ارتفاع معدلات الاستهلاك على نحو متزايد، مما أتاح لهذه المنصات طرح نفسها كبديل -مستقبليًّا- عن عروض الأفلام الحية في ظل الموجات المتتالية لغلق قاعات السينما عالميًّا، أو تشغيلها بنصف قوتها في أحسن تقدير.
ما تخوضه السينما في الفترة الراهنة، يذكرنا بصراع قديم نشب بداية الستينيات مع ظهور "التلفزيون"، حيث ظن البعض أن باستطاعته مزاحمة السينما طالما استطاع الوصول إلى الجمهور في عقر داره، لكن الفن السابع انتصر في هذه المعركة، وفي المعركة التالية التي كانت أقل حدة، حين أغرق "الفيديو كاسيت" السوق السينمائي المصري في الثمانينيات.
لذلك، حين تم عرض فيلم "صاحب المقام" - في خطوة غير مسبوقة - عبر منصة شاهد، في غضون ساعات، انتشر عبر المواقع بقرصنته إلكترونيًّا. انقسمت الآراء بشدة حول الفيلم؛ البعض راح يحمله رسائل أخلاقية إلى رجال الأعمال لتحقيق رغبات الفقراء البسيطة جدًّا، والبعض وجد فيه تصديًا للقوى السلفية في مصر وتحديًا صريحا لها؛ الجهة التي حرَّمت التبرك بالأولياء واستجداء شفاعاتهم حد إبطال الصلاة في المساجد التي يوجد بها أضرحة. كما اتهمه البعض بالنقل أو السرقة عن فيلم إسرائيلي ورواية مصرية.
أصحاب المقامات العالية
تعرض ميدان رمسيس للعديد من أعمال الهدم أو النقل في إطار خطط من التوسعات المتعاقبة بتعاقب الحكومات، ويعد الميدان من أهم ميادين محافظة القاهرة بمصر. في السبعينيات، تم ترويج شائعة عن محاولة هدم مسجد الفتح "أولاد عنان سابقًا" وكانت شركة عثمان أحمد عثمان - إحدى شركات الانفتاح الكبرى - هي القائمة بأعمال الهدم لتوسيع الميدان، إلا أن العمال داخل صحن المسجد كانوا على موعد مع مفاجأة ليست بجديدة على الموروث الشعبي المصري في تاريخ أضرحة أولياء الله؛ فكلما بدأوا في الحفر والهدم تعطلت الآلات بدون سبب وتوقفت الأيدي متسمرة قبل بلوغ جدران الضريح.
حين وصل الخبر إلى الرئيس المؤمن أنور السادات، تيقن من كرامة صاحب الضريح "الشيخ محمد ابن عنان" فأمر بإلغاء الهدم، بل أعاد توسيع المسجد والاعتناء بالضريح بما يليق بأحد العارفين بالله.
لا يوجد أي إثبات أو دليل علي صحة هذه الواقعة، لكنها تُعتبر مدخلًا للتعامل الأيديولوجي المصري مع أصحاب المقامات العالية، هؤلاء الواصلين، العارفين بالله، وآل بيت النبوة والتابعين، وهو ما يتم طرحه عبر فيلم "صاحب المقام" من تأليف إبراهيم عيسي وإخراج محمد العدل، بطولة آسر ياسين وأمينة خليل ويسرا وبيومي فؤاد وآخرون من إنتاج أحمد السبكي.
يبدأ المشهد الافتتاحي بالتورط المباشر في القضية المطروحة، الصراع الفكري بين العلم والإيمان - الجهل والخرافة - من خلال متابعة رجل الأعمال يحيى لوجهتي نظر شريكيه الأخوين التوأم "حليم وحكيم"، يؤدي الدورين معًا الفنان بيومي فؤاد، حول مشروعية هدم أحد الأضرحة القديمة التي تعترض مشروع ضخم للشركة لبناء كمبوند جديد.
في المشهد، تصعد الكاميرا من خلف ظهر يحيى لتركز علي الأخوين عبر عدستي النظارة التي يمسحهما في يديه، وتنقل كل عدسة من النظارة أحد الأخوين لتشي بالصراع المطروح داخل يحيى نفسه لا خارجه؛ إذ يمثل التوأم قطبي الخير والشر، العلم والجهل، هدم الضريح والتحذير اللاوعي من غضب الأولياء. وتحل فكرة هيمنة الرأسمالية هنا محل العلم، ليصبح طرفا الصراع الجديد المال/الخرافة وليس هيمنة العلم أو قيمته، فيحيى يسخر من أحد أصدقاء زوجته - عالِم المخطوطات - ولا يصدق سوى في المادة فقط.
في أواخر الستينيات، عُرض فيلم "قنديل أم هاشم" عن رائعة يحيى حقي، سيناريو وحوار صبري موسي، إخراج كمال عطية. وبرغم بساطة الفيلم، استطاع طرح الإشكالية الجدلية بين العقل والخرافة، العلم والجهل، الصراع بين فريقين مختلفين؛ إسماعيل "شكري سرحان" طالب الطب المولود في حي "السيدة زينب" وتحوله بعد عودته من ألمانيا مستبصرًا بالعلم، وما ترتب عليه من عراك مستمر مع أهل منطقته البسطاء واعتقادهم في بركة زيت القنديل الشافي. إنها الحرب التي تنتهي بالمصالحة عن طريق الفهم والرحابة والاستيعاب وليس الصدام الذي اتبعه في البداية وكاد يحطمه شخصيًّا.
في صاحب المقام، تأتي المُصالحة منذ البداية؛ بمجرد أن تصاب زوجة يحيى "آسر ياسين" وتدخل في غيبوبة ثم تتوالى عليه الكوارث، فيبدأ رحلته على الفور في مُصالحة الأولياء بزيارة أضرحتهم، والتي تنتهي بتحقيق أمنيات مُرسلة للإمام الشافعي بنية التقرب والشفاعة.
مثقف يساري قديم
وقع سيناريو إبراهيم عيسى الجديد في نفس أخطاء عمليه السابقين علي عدة مستويات؛ منها عشوائية البناء الدرامي وتصاعد الشخصيات ثم المُسببات المنطقية أيضا، ففي مشهد دخيل ووحيد يلجأ يحيى خلال رحلته لزيارة إحدى الكنائس بمصاحبة صديق مسيحي، أو التحول الدرامي المفاجيء في نهاية الفيلم لإنهاء القصة، بالإضافة إلى العديد من الجمل الحوارية التي حاولت فرض العمق والحكمة علي العمل، كجملة روح "يسرا" الأشهر في الفيلم حين يسألها يحيي من تكون فيكون ردها "مش مهم أنا مين.. المهم أنا ليه"!
علي مستوى التمثيل لم يُقدم بطل الفيلم آسر ياسين أي جديد يضاف لمسيرته، فيما تعود يسرا بعد غياب ثمان سنوات عن الشاشة في دور "روح" التي تظهر طوال الوقت ليحيى في صور مختلفة ومتعددة وهو من أسوأ أدوارها وأكثرها ادعاءً وافتعالًا. واشترك كل من "بيومي فؤاد، محمد ثروت، محمد لطفي، محمود عبد الغني، محمد ثروت، إيمان السيد" في الإخلاص التام لتكرار أنفسهم واستسهال المضمون بإعادة ما قدموه سلفًا ونجح في رفع أرصدتهم الفنية مع الجمهور.
أما المخرج محمد العدل القادم بخلفيته الدرامية فلم يحالفه الحظ كثيرًا في تسكين الممثلين خاصة حين استعان بمجموعة من الأسماء المنزوية "فريدة سيف النصر ومحسن محيي الدين"، وقد كان ظهور بعضهم هو الظهور الأخير قبل الوفاة كإبراهيم نصر ومحمود مسعود، بوضع هذه الأسماء مع انتصار الفيلم لفكرة الشفاعة - الآمنة - نجد أنفسنا بشكل أو آخر أمام أيديولوجية قديمة لأفلام احتفت بالجانب التعليمي أو الإرشادي، على رأسها أفلام الراحل حسين صدقي.