القاهرة 02 فبراير 2021 الساعة 10:09 ص
بقلم: عاطف محمد عبد المجيد
في ظِل الإحباطات التي تكتم على أنفاسنا، وجبال الغيم الأسود التي تحجب عنا رؤية أي بادرة أمل في غدٍ، أو قادمٍ أفضل، إلى أن وصلنا إلى مرحلة تبلّد الأحاسيس، أو ما يشبه الكابوس، لا أجد لديّ، وهذا شيء محزن للغاية، أية رغبة في أن أقرأ شِعرًا، إلا نادرًا، وفي حالة مزاجية خاصة.
ونتيجة لهذا، كثيرًا ما أبدأ قراءة ديوان ثم أتركه من صفحته الأولى، لأنه جعلني أنفر منه، أو لم يستطع أن يُبقي بي معه لفترة أطول.
غير أن ديوان "رقعة شطرنج" للشاعر العراقي عبد الكريم كاصد، الذي صدر منذ فترة عن الهيئة العامة للكتاب ضمن سلسلة إبداع عربي، أَمْسك بي حتى انتهيت من قراءته في جلسة واحدة، إذ يُشيّد فيه كاصد عالمًا شعريًّا جميلًا، رغم ما فيه من حزن وبكاء:
" بسعفةٍ أسوق الكآبة
إلى حظيرتي
راضعًا
ثديها الحزين"،
ورغم ما يحتويه من صدامات، وتصادمات، بين نقائض شتى، مثل الأبيض والأسود، الضوء والظلام، الحضور والغياب، الضحية والجلاد، القتلة والأطفال الأبرياء، الأشباح التي تختفي والواضحين، العبد والسيد، الكبار والصغار، الوطن والمنفى.
في رقعة شطرنج هناك أربع كلمات تحضر بقوة وهي: النافذة، المقهى، الشرفة، المرآة، إلى جانب أنه يَحْفُل بالعديد من الأسئلة، التي تتعلق بالإنسان حياةً ووجودًا ومصيرًا، ولا يحاول الشاعر أن يذكر إجابات لها، إذ يستعصي بعضها على الإجابة.
هنا نجد النافذة بديلًا عن الحرية التي يبحث الشاعر عنها، ولو من خلال نافذة متناهية الصغر، حتى لتبدو نافذة السجين وكأنها أرحب نوافذ الكون عمومًا:
"نافذة السجين
ما أرحبها؟"
ليس هذا وحسب، بل تحول العالم كله في نظر الشاعر إلى نوافذ مرة تَحْضُر، وتغيب أخرى:
"صرخات
من يطلق الصرخات
في غياب النوافذ؟"
وما أوحشها تلك النوافذ التي لا تُفتح أبدًا كاصد لا يرى النوافذ بالطريقة نفسها، فهناك نوافذ تدخل الأشباح من خلالها ولا تدخل من الأبواب، وهناك نوافذ المستشفى التي تزينها الأزهار ويرى فيها وجه أبيه، وهناك النافذة المغلقة التي يطل منها الناقد التعيس، وهناك البيت الأعمى لأنه بلا نافذة، وهناك النوافذ التي لا تنفتح إلا عند مرور العاشق، وهناك النافذة التعيسة التي لا تجد أحدًا لتُحدّثه سوى حائط وحيد، وهناك نافذته الخاصة التي يتبرأ منها:
"أنا عبد الكريم كاصد
أتبرأ من نافذتي"
في رقعة شطرنج نجد أيضًا أن الغياب بديل عن الغربة التي اضطُّر الشاعر ذات زمان إلى أن يعيشها ويتجرع مرارة كأسها وحنظلها، حتى إنه يشعر وكأنه وحيد في صحراء شاسعة، مترامية الأطراف، وليس فيها سواه، وها هو يصف نفسه بالغروب:
"ما الذي يفعله الغروب
وحيدًا
في الصحراء؟"
وليس هناك أدل على تأرجحه مغتربًا بين بلدان شتى من قوله:
"أنا الطائر في الهواء أبدًا
ولا مستقر هناك"
غير أن حالة الغياب / الغربة هذه تتلبس الشاعر في كثير من نصوص الديوان:
"مقهًى عند الجسر
تؤمّه القوارب فجرًا
تنتظر
تنتظر
ثم ترحل فارغة
دون مجاذيف
أين تُرى ترحل القوارب؟"
في رقعة شطرنج لا يحتفي العراقي المغترب عبد الكريم كاصد بالنوافذ وحدها، كونها عيونًا تبص على ساحات الحرية وعلى الفضاء المفتوح اللا متناهي، بل يضم إليها المقاهي التي يحط عليها الغرباء ذات ترحال، ثم سرعان ما يعاودون السفر والترحال، إلى وجهة الله وحدها الذي يعلمها:
"هنا المقاهي بعدد الأرصفة
أنا وظلي
كثيرًا ما نقتسم طاولة وحيدة
دون أن نمل الانتظار
انتظار من؟
أحيانًا يغادرني ظلي
فلا أكترث
أن يغادرني ظلي!"
المقهى يمثل كذلك لدى كاصد رمزًا لحلم بعيد المنال، قد لا يصل إليه مهما حاول وسعى:
"أوه..يا لذاك المقهى
كم يبدو بعيدًا!
كيف ترى أجتاز إليه صحارى سنواتي
لألامس سدرته الواقفة أبدًا
عند الباب"
كذلك تثبت المرآة حضورها الطاغي في هذه النصوص دالة على الوجه الآخر للواقع:
"مرآة واحدة
ظل واحد
لمن المرآة
لمن الظل؟"
لو كان ثمة مرآة للشر
لا تعكس إلا ما هو شرير
ومررنا بها أنا وأنتَ
ماذا ترانا سنبصر؟"
هذه الحالة التي يعيشها الشاعر تجعله في حالة عدم اتزان مشوشة على رؤيته للأشياء وحكمه عليها:
"كثيرًا ما يخونني المشهد
فلا أدري إن كانت الشرفة
تطل على بحر
أم صحراء"
كاصد الذي يهدي إحدى قصائد رقعة شطرنج إلى سعدي يوسف وأخرى إلى طارق الطيب، يُطعّم بعض نصوصه بذكر آخرين يحضرون في ثناياها منهم محمد خضير، عبد الأمير الحصيري، صالح الشايجي، لاسيه سودربرج، ياسين عدنان، آرنيه يوهانس ومحمود درويش.
وبعد.. أرى أن رقعة شطرنج هو واحد من الدواوين الشعرية التي تستحق أن تهتم بها قراءات نقدية عديدة، وما كتبته هنا ليس سوى لفْتٍ لانتباه الآخرين، ربما لا يصادفهم الحظ ليقع ديوان رقعة شطرنج بين أيديهم، في ظل زحمة الكتب التي تخرج من المطابع كل فمتوثانية.