القاهرة 26 يناير 2021 الساعة 11:00 ص
بقلم: محمد إمام صالح
"يا فتاح يا عليم يا رزاق يا كريم.. اصطبحنا واصطبح الملك لله".. "يا عم قول يا باسط".
يفتتح الكثير من العامة يومهم بالأولى ويهونون عن أنفسهم بالثانية إذا ضاق بهم الحال، وحتى اللصوص قد يطلبون الستر من الله وهم يسرقون-استرها معانا يا رب!- وعلى الرغم من قصر هذه العبارات إلا أنها تحمل إشارات كثيرة في ظاهرها البساطة وفي باطنها تدينا واضحا.
واشتهر عن المصريين تدينهم، فهم يميلون إلى الدين وما يقربهم إليه من قول أو عمل، ويتعلقون به في أمورهم الدنيوية قبل الدينية، فحتى المثل الشعبي القائل "كل شيخ وله طريقة" للإشارة إلى تنفيذ أي أمر بطرق مختلفة، يشير أيضا إلى تعدد الطرق الصوفية الدينية التي يترأسها شيخ، لأن الدين ملاذهم وملجؤهم إذا تقطعت بهم سبل الحياة، وأصبح هذا التدين أحيانا مثارا لسخرية البعض فيتندرون على جملة "الشعب المصري متدين بطبعه" إذا رأوا أمرا شاذا. ويسمى هذا بالدين الشعبي.
"هيلا هيلا خليها على الله.. هيلا هيلا الرزق على الله" من أغاني العمال الشعبية.
الدين الشعبى في مصر القديمة:
يمكن تعريف الدين الشعبي بأنه طرق ممارسة العامة لشعائر وطقوس الدين الرسمي، فهو مشتق منه. ومنذ أن خُلق الإنسان وتعرف على العالم من حوله، لاحظ عناصره وظواهره، قَسَّمَها لخيّرة تساعده أو شريرة قد تؤذيه، فحاول استرضائها وإمالتها نحوه، معتقدا بوجود إله خالق، كبير ومسيطر، أبدع نفسه بنفسه ثم فكر وخلق الدنيا بأسرها، كما اعتقد بمعبودات أصغر من الخالق بها جزء من قدرته وقوته، تقرب لها المصريون على أمل النجاة من المخاطر في الدنيا ولتساعده في العالم الآخر ليصل إلى حقول الإيارو حيث جنة الجلد.
كان الملوك -وفقا للعقيدة المصرية القديمة- أبناء رع ومن نسل المعبودات، يحكمون باسمهم ويقيمون الشعائر من أجلهم، ومع انتشار الدين وزيادة رقعة البلاد أناب الملوك كهنة يؤدون الطقوس في المعابد، فظهر ما يمكن أن نطلق عليه الدين الرسمي، وهو الذي مارس الكهنة شعائره في المعابد ولم يكن للعامة دخل فيه. وقد سار هذا الأمر بوتيرة ثابتة حتى قيام الثورة الاجتماعية في بداية الأسرة السادسة والتي انتهت بسقوط الملكية ونهاية فكرة الملك المؤله تأليها مطلقا.
واستخدام العامة نصوص الأهرام بأسلوب جديد فظهر ما يسمى بمتون التوابيت، نُقشت عليها، واختار فيها المتوفى ما يريد نقشه على تابوته، وظلت الأمور هادئة على هذا القياس حتى قيام حركة أخناتون الدينية، وبعد سقوطها أدرك العامة أن المعبود أصبح أقرب لهم، فهم لا يحتاجون إلى وسيط بينه وبينهم، وخلعوا عليه من الصفات التي يحتاجونها وتكون لهم ملاذا، ومنها الذى يسمع المصلين، الذى ينقذ من في الأسر، والرحيم.. وغيرها، ونشعر مناجاة العوام مظاهر الخشوع والخضوع للمعبود.
يقول "أدولف إرمان" إن الدين في مصر لم يكن له كتاب مقدس، فهو أقرب إلى ثقافة شعب منه إلى دين بمعناه المتداول في عالمنا اليوم. وفي هذ إشارة واضحة إلى الحرية الدينية التي تمتع بها العامة خاصة من منتصف الأسرة الثامنة عشرة في الدولة الحديثة وحتى نهاية العصر الروماني، فقد اختاروا من يبتهلون له، ومن يتقربون له بحرية كبيرة، مقدمين لهم من القرابين النذرية التي قد تكون لها صلة بأكثر من معبود ضمانا لاستجابة دعائهم.
وابتهلوا إلى المعبودات لحمايتهم من الشرور ومن بطش المعبودات الأخرى، فقد دعى أحد العمال خونسو أحد أعضاء ثالوث طيبة قائلا: "خونسو نفر حتب في طيبة، القديم منذ بدء الخلق، ليتك تحمي فلان ابن فلان من كل الأمراض وتحميهم من أمون وموت وخونسو وكل معبودات الشرق والغرب".
وصور البعض أنفسهم في لحظات الضعف والانكسار، مبتهلين إلى المعبود ليرفع عنهم الابتلاء، معلنين توبتهم عن ذنوبهم، فها هو العامل رع نب يدعو أمون رع الذي ينقذ من في المحن ليشفى ابنه من العمى بعد أن سرق بقرة من أبقار أمون، وآخر أقسم زورا بتاح، فعاقبه برؤية الظلام في وضح النهار –أي أصابه بالعمى- وأراه قوته وجبروته، وأخيرا عامل أقسم كذبا بجحوتي فجعله كالمرأة الحامل لا يقدر على الحركة.
ولقد تغلغل الدين الشعبي في وجدان المصريين، وتأصل فيهم مسيطرا على تفكيرهم بشكل كبير، حتى أصبح أحد عناصر التكوين الرئيسة في حياة المصريين، يتداولون شعائره ويتلقونها جيلا عن جيل، تختلف ممارسته من شخص لآخر "فكل شيخ وله طريقة"، إلا أنها في النهاية تدل على شعب متدين بطبعه.