القاهرة 26 يناير 2021 الساعة 10:41 ص
كتب: أحمد صلاح
كان الرجل قصيرا حاد الصوت، يضع نظارة سميكة على عينيه، ملابسه شديدة البساطة، ولكنه كان دائم الابتسام، السيجارة لا تفارق إصبعه، موسوعي الثقافة، متحدثا لبقا، من حَفظة الشعر، بالرغم من بلوغه سن التقاعد إلا أنه مازال محافظا على شبابه وقدراته الذهنية، يقيم إقامة شبه دائمة في مكتبة قصر الثقافة ببلدتي.
كان هذا الرجل بمثابة الموسوعة المتحركة للجميع، لا تسأله عن كتاب إلا وأجابك عن هذا الكتاب بتفاصيله، مُؤلّفه ودار النشر وعدد الطبعات وحتى مصمم الغلاف، وكان من الطبيعي أن ألتجئ إليه عندما بدأت أخطو خطوات حثيثة في كتابة الرواية.
وسألته.. كيف أكتب الرواية؟
كان سؤالي في بداية التسعينيات يعتبر سؤالا ساذجا للغاية إذا سُئِل اليوم فستجد المئات يتبارون للإجابة، كما تجد ورشا لتعليم الكتابة، معتكفات كتابية، كتبا تضع ـبالملعقةـ في رأسك الأسس العريضة لتخط روايتك، ولكن.. في بداية التسعينيات لم يكن هناك كل هذا الزخم، فقط كنا نلجأ للكتب إذا أردنا معرفة معلومة، ولم يكن هناك مواقع تواصل اجتماعي أو إنترنت حتى نسأل من خلالها، فكان سؤالي ساذجا، علي الأقل بالنسبة لهذا الرجل المثقف.
نفض الرجل رماد السيجارة في مطفأة قريبة وهو يبتسم، ثم بدأ يتكلم من خلف الدخان:
- أن تكتب رواية وتصبح روائيا ليس قرارا.. بل..
صمت فجأة وضيق عينيه وهو يميل نحوي سائلا:
- هل حاولت كتابة بضع صفحات؟
كنت قد كتبت بالفعل بعض (الشخبطات) ـ إن صح التعبيرـ في كراسات صغيرة، وهززت رأسي أنني قد فعلت بالفعل، فاعتدل الرجل ثم ألقى بسيجارته في المطفأة مشتعلة، وقام يتحسس بضع عشرات من أرفف الكتب ويقول:
إن تجربة كتابة الرواية هي تجربة تراكمية، أي أنها لا تأتي بقرار، بل لابد وأن يكون لديك موهبة، موهبة الحكي.. التأليف.. التخيل.. الكذب في بعض الأحيان، كتابة الرواية لا تأتي صدفة، ولا تأتي بغتة، بل هي عملية صعبة ومعقدة، هي أشبه بوجود بذرة في أرض قاحلة، لابد وأن تضع عليها ماءً وتعرضها لهواء نقي، حتى تدب جذورها في الأرض، البذرة هنا هي الموهبة، الرغبة (لم تكن كلمة شغف قد ظهرت في القواميس بعد) حتى تدب الجذور في أرضك.. ذهنك.. عقلك، فينبت ساق ضخم من المعرفة ثم في النهاية تزهر لك أول رواية، تقرأ كثيرا، تقرأ كل الروايات التي كتبت وتتابع كل الروايات التي تصدر، تقرأ في التاريخ، الفلسفة، التراث، السياسة.. لا تترك ورقة إلا وتقرأها.
ثم استدار نحوي: الرواية نوع من الفن ليس لها أسس محددة ولا قواعد ثابتة، ولا تسقى كالدواء، بل تُكتسب.. فقط تكون لديك البذرة.. الموهبة.
ولسنوات طالت، ولا أعرف عددها، كنت فقط أقرأ، حتى جاءت اللحظة التي بدأت أخط فيها أول رواية لي وتصدر وأرى أول مولود بين يدي وألمس استحسان من قرأ.
أقول ذلك بعدما وجدت علي الإنترنت عشرات ممن يمتهنون فكرة إقامة ورش أو دروس لتعليم فن الرواية، وقد يكون البعض منهم يمتلك قدرات تعليمية أو معلومات أو خبرات جيدة ينقلها إلى الشباب بدلا من تلك السنوات الكثيرة التي قضيتها أتعلم وحدي من أرتال الكتب، ولكن حتى لو كان لدى هؤلاء الشباب بذرة الموهبة، ستكون في النهاية الجذور النابتة ضعيفة ولن تستطيع أن تصمد أمام عواصف النقد.
للأسف البعض من الشباب يتخيل أن فكرة كتابة الرواية هي الأسهل علي الإطلاق، فكتابة القصة القصيرة ليست بنفس سهولة الرواية بما تحتاجه من تكثيف، أو الشعر وما يحتاجه من دراسة لعلم العروض، ولكن الرواية لا تحتاج إلا لفكرة ثم يكتب ويكتب حتى يصل الى عدد الكلمات المطلوبة هنا أصبحت رواية!
ولكن كتابة الرواية هي من أصعب ما يتخيل المبدع، فهي تحتاج الي باحث قبل الموهبة، نفس طويل، خيال واسع، ثروة لغوية ومعرفية هائلة، ولكن ما أراه الآن من (كم) أعداد الروايات التي تصدر دليل على أن هناك خطا ما..
وللحديث بقية..