القاهرة 19 يناير 2021 الساعة 08:44 ص
بقلم: طلعت رضوان
جمع الأديب الكبير نجيب محفوظ عددًا من الشخصيات مختلفي التوجهات والأفكار في مكان واحد (بنسيون ميرامار) وكأنه -بأسلوب الإيحاء- رمز بهم لبعض شرائح من المجتمع المصري، مثل شريحة الصحفيين الذين عاصروا الحياة السياسية في الفترة الفاصلة، فترة قبل وبعد يوليو1952، ومثّلهم في الرواية (عامر وجدي) وشريحة الإقطاعيين، ومثلهم في الرواية (طلبة مرزوق) الذي صودرتْ أراضيه بعد يوليو52 بالرغم من أنه كان أحد أعداء حزب الوفد، وشريحة العاطلين بالوراثة ويُمثّـلها (حسنى علام) الذي ورث مائة فدان، ويعيش على ريعهم، ويُحاول استثمار أمواله في مشروع تجاري، وشريحة الانتهازيين المُـتعاونين من كل الأنظمة ويمثّـلهم (سرحان البحيرى) الذى كان وفديًّا، وبعد يوليو52 تبرّأ من وفديته، وعرف اتجاه الريح، فسعى للحصول على عضوية (هيئة التحرير) ثم (الاتحاد القومى) ثم (الاتحاد الاشتراكى)، ونظرًا لأنّ محفوظ أنهى روايته عام1967 فإنّ سرحان ولما امتدّ به العمر- في أجزاء تالية للرواية- سيكون من أوائل المُـتقـدّمين للحصول على عضوية حزب السادات وحزب مبارك، ومن هنا تبرزأهمية شخصيته، خصوصًا عند ربطها بشخصية (منصور باهي) الذى رمز به محفوظ لشريحة من المُـتعلمين، الذين يبدأون حياتهم في تنظيمات (ثورية) تسعى للتغير نحو الأفضل، وعند أول منعطف مُـتعارض مع مصالحهم يتراجعون، والأخطر- كما عبـّـرمحفوظ عن تلك الشريحة- اللجوء إلى (خيانة زملاء النضال) وهوما فعله منصورالذى قتل سرحان، لمجرد أنه (خان) زهرة، وذلك بالرغم من أنّ سرحان لم يرتكب في حق منصور أي فعل يستحق القتل، فلماذا أقدم منصورعلى فعلته؟ وذهب للنيابة -من تلقاء نفسه وبدون استدعاء- واعترف على نفسه؟ وذلك هو المحور الذي جسـّـد به محفوظ التوتر الدرامي لشخصية منصور، وانعكاس ذلك على بقية شخصيات ميرامار (مكتبة مصر- عام1978).
المُـلفت للنظر أنّ الأديب الكبير خصـّـص فصلا لكل شخصية، والراوي هو صاحب الشخصية، وذلك باستثناء شخصية (زهرة) فكل ما يعرفه القارىء عنها، جاء من خلال أحاديث نزلاء البنسيون، فهل تعمّـد محفوظ ذلك لأنها مجرد (خادمة)؟ أو لأنها لا تعرف الكتابة والقراءة؟ يذهب ظنّى أنّ المُبدع كان لديه سبب آخر، خاصة وأنّ مهارة محفوظ الإبداعية تُـمكنه من جعلها تتحدث عن نفسها- كما فعل في كل رواياته عندما كان يستنطق الأميين- فلماذا جعل معرفة القارىء عنها من خلال نزلاء البنسيون؟ يذهب ظنّى أنّ محفوظ أراد أنْ يرمز بها إلى الشريحة الاجتماعية التي تُمثل معظم الشعب المصري (شريحة الفلاحين) فكانت (زهرة) رمز البراءة الفطرية/ الطبيعية، والتي جعلتْ كثيرين يطمعون في التهامها، كما حاول (حسني علام) أو حتى اغتصابها كما حاول (سرحان البحيري) ولكنها- نظرًا سذاجتها الفطرية- صـدّقتْ كلامه عن (الحب) إلى أنْ اكتشفتْ خداعه وأكاذيبه وانحطاطه، فبرز معدنها الأصيل، وتجسّـد ذلك المعدن في قوة شخصيتها، فإذا بها لاتكتفي بتوبيخه بأقبح الألفاظ، وإنما تعمّـدتْ الصراخ بأعلى صوت حتى يسمع كل النزلاء ويـتجمعون حولهما، وعندما تـمّ لها غرضها، وتأكــّـدتْ أنّ تلك هي اللحظة التي انتظرتها، قذفتْ وجهه ببصقة، وقبل أنْ يفيق من هول المفاجأة، صفعته على خده بكفها بكل ما فى كينونتها من مرارة، وكأنّ "محفوظ" أراد بهذا المشهد التأكيد على أنّ الفلاحين، وكل البسطاء من الأميين، مهما تظاهروا بالسذاجة وتصديق الانتهازيين، فإنهم يكتشفون المُـخادعين مهما طالتْ مدة الخداع.
الشخصية الأولى (عامر وجدي) ونظرًا لأنه صحفي لذلك عندما دخل البنسيون- بعد مرورعدة سنوات لم يزرخلالها الإسكندرية- فإنه في تعبيره عن مرور تلك السنين قال لصاحبة البنسيون: يبدو أنك طليتِ الجدران أكثرمن مرة، وعندك أشياء جديدة كالنجفة..إلخ. وعندما تعرّف على الإقطاعي (طلبة مرزوق) الذي بدأ حديثه معه بالهجوم على سعد زغلول (لأنه تطاول على الملك وتملق الجماهير) كان تعليق عامر وجدي: مهما يكن من غلو صاحبي، فهو يستحق الرثاء، وعليه أنْ يبدأ حياة جديدة مريرة بعد أنْ بلغ سن الستين، وعن مرور الزمن، فهو عندما لاحظ أنّ صاحبة البنسيون أخذتْ تتأمل التغضنات في كفه قال: فنظرتُ إلى يدي التى ذكــّـرتني بيد مومياء في المتحف المصري.
وعامروجدي في وحدته يتذكر الماضي، ويقارنه بالحاضرفقال: خــُـلق القلم لأصحاب العقول لا للمجانين المُـعربدين في الملاهي والحانات، وكــُـتب علينا بالسير في ركاب زملاء جـُـدد في المهنة، أخذوا علمهم في السيرك ثم اجتاحوا الصحافة ليلعبوا دور البهلوانات، وعن الماضي قال بأسى: انطوتْ صفحة تاريخ بلا كلمة وداع، ولا حفلة تكريم. أيها الأنذال، ألا كرامة عندكم لإنسان إنْ لم يكن لاعب كرة؟ ولما تقابل مع شخص يوناني عاش طويلا في الإسكندرية، قال له: مصر وطنك، والإسكندرية ليس كمثلها شيء، فقال الرجل اليوناني: مسيو عامر أنت تقول إنّ الإسكندرية ليس كمثلها شيء، كلا لم تعد كما كانت على أيامنا، الزبالة الآن في كل طرقاتها وشوارعها وميادينها. أما صاحبة البنسيون (ماريانا) اليونانية فقالت: ثورة 1919 قُتل فيها زوجي، وبعد يوليو52 جرّدونى من مالي.
وجدي عامر الذي صار صحفيًّا هو ابن لخادم مسجد سيدي أبي العباس المرسي. والابن (عامر) دخل الأزهر للتعليم ثم طُرد منه، وابتسم وهو يتذكر فهمس لنفسه: شاب هزّه الطرب فاشترك في تخت ذات ليلة، فهل كان يستحق الطرد من الأزهر؟ ومن ذا الذي يستطيع أنْ يقضي على إنسان بتهمة كالإلحاد؟ في حين أنّ الله هو المُطّـلع على قلوب البشر، ونظرًا لأنه يتمتع بروح السخرية لذلك قال: لقد نشأتُ في الأزهر، ولم يكن غريبـًـا أنْ أعمل بمهنة (مأذون شرعي) وهذا انعكس عليه في كتاباته السياسية فقال: كنتُ أحاول التوفيق بين الشرق والغرب (ص54).
ولما قال له المذيع منصور باهى: أليس غريبـًـا أنْ تحمل على النقيضيْن: أعني الإخوان المسلمين والشيوعيين؟ قال: كلا. لقد كانت فترة حيرة، ثم جاء ضباط يوليو وامتصوا خير ما فيهما وهذا القول الذي جاء على لسان صحفى مخضرم، تطابق مع قول الانتهازى العتيد (سرحان البحيري) الذي قال له: لا بديل أمام ضباط يوليو إلاّ واحد من اثنين: الشيوعيين أو الإخوان، فكان تعليق وجدى عامر: لقد ظنّ سرحان أنه دفعني إلى ركن مسدود، ولكن سرحان ضحك ساخرًا وأضاف: ولكن يوجد بديل ثالث: أمريكا، وتظاهر وجدي عامر بالدهشة وقال: أتحكمنا أمريكا؟! (ص55، 276، 277) وبالرغم من ذلك فإنّ وجدى عامر يدرك أنّ سرحان شخص خطير، وأنه استفاد كثيرًا بعد عضويته فى هيئة التحرير والاتحاد القومي والاتحاد الاشتراكي، وعندما أخذ يتأمل وجه سرحان (في جلسة الاستماع إلى أم كلثوم في سهرة الخميس الأسبوعية) وقارن تسلق سرحان ووصوليته، بما حدث له عندما أمضى سنة معتقلا بسجن القلعة الحربي، مع زملاء النضال السرى (ص80).
ومحفوظ بموهبته الإبداعية أعطى للقارىء المفتاح لشخصية (حسني علام) الذى بدأ حديثه (في الفصل المُـخصص على لسانه) قائلا: فريكيكو، لا تلمني، وهوتعبيرلا معنى له، وإنْ كان يدل على الشخص المستهتر الذي ينطلق وراء نزواته، ولا يتمسك بأية قيمة أخلاقية، ومع ذلك فهو يتظاهر بامتلاك الحكمة، فقال عن الذين دافعوا عن قرارات التأميم ومصادرة الأموال والشركات: هذه (الثورة) جاءتْ لتؤدبكم وتفقركم، وتمرّغ أنوفكم في التراب، يا سلالة الجواري، وأنا منكم، وهو قضاء لا حيلة لي فيه، والمائة فدان على كف عفريت. لتكن (ثورة) ولتدككم دكا. إنّي أتبرأ منكم يا فتات العصورالبالية، فريكيكو لا تلمني (ص87، 88).
بهذه المقدمة عبـّـرحسني علام عن شخصيته غيرالمبالية، ولدرجة السخرية من طبقته، وخاصة الذين كان مصيرهم مثل مصيره فيما يتعلق بمصادرة أملاكهم..حتى أنه عندما تذكرقريبته، التى نعتها بالحمقاء، وقرّرتْ أنْ تتزوّج اختارتْ عريسها في ضوء الميثاق الوطني (ص91)، وعندما تقابل مع طلبة مرزوق قال إنه سبق التعرف عليه، و"أنّ عمي تعاطف معه بعد وضعه تحت الحراسة" وأضاف: "ولكنني لم أشرإلى ذلك، كنا ومازلنا نتابع أخبارالحراسة بشغف شهواني مخيف كأفلام الرعب" واندهش عندما وجد عمه يمتدح ضباط يوليو، بالرغم من مصادرة أملاكه، ثم ربط شخصية عمه بشخصية سرحان البحيرى الانتهازين رغم اختلاف الأسباب بين الاثنيْن (ص94، 95) ومع ملاحظة أنّ سرحان المُـنتفع من (الثورة) أغراه بالهجوم عليها، وأضاف فى نهاية جلسة التعارف: إنّ الثورات ظاهرة غريبة مثلها مثل الكوارث الطبيعية، وفي سهرة أم كلثوم قال طلبة مرزوق: من نعم الله أنّ ضباط يوليو لم يصادروا أذني (ص102) وعندما رأى (حسنى علام) المشهد الذي أثاره وأحنقه (مغازلة سرحان البحيري لزهرة المستسلمة للمغازلة) قال: سبقني الفلاح البحيري، ولاضيرمن ذلك، لو روعيتْ عدالة التوزيع، ولويكن لي يوم وله يومان(ص106).
حسني علام المستهتر بكل القيم، جعله محفوظ يـُـلخص شخصيته البوهيمية قائلًا: قذفتْ بي طبقتي إلى الماء، والقارب يميل إلى الغرق، ولكنى سعيد بحريتي. لا ولاء عندى لشيء. سعادة عظمى ألاّ يكون للإنسان ولاء لشيء. لا ولاء لطبقة أو وطن أو واجب، ولا أعرف عن ديني غير أنّ: الله غفور رحيم، ولم ينس أنْ يختتم اعترافه باللازمة الدائمة باستمرار: فريكيكو لا تلمني (ص109).
وعندما اكتشفتْ عشيقة سرحان تعلقه بزهرة، وضبطتهما في الطريق العام، ذهبتْ وراءهما حتى دخلا البنسيون، ولما صبـّـتْ غضبها على سرحان، فإذا به يسبها، فلما خرجتْ غاضبة خرج حسنى علام وراءها، وانتهزها فرصة لإقامة علاقة مع عشيقة سرحانن وبعد أنْ ركبت سيارته: جعجع الرعد، وتوسل للسماء بطلب المزيد من المطر، وعندما قالت له الفتاة: أخشى أنْ تتعطل السيارة، قال: آمين. فقالت: قد يـُـدركنا الظلام. قال: ليته يدوم إلى الأبد. فقالت: أنت مجنون. فصاح بأعلى صوته: فريكيكولا تلمني (ص113).
وعندما أسهب سرحان الانتهازي في الكلام عن (فضائل الثورة) قال له حسني وقد خاف منه: أنا مؤمن بالثورة، ولكن لم يكن ما سبقها فراغـًـا كله. فسأله سرحان خبرنى: لمَ تمتلك وحدك مائة فدان، في حين أنّ كل ما تمتلكه أسرتي عشرة فقط؟ فقال حسني وهو كاتم لغيظه: ولمَ تمتلك أسرتك عشرة، في حين لا يمتلك ملايين الفلاحين قيراطــًـا واحدًا؟ واختتم حديثه قائلا: لاتـُـصدق ما يـُـقال عن العدالة والاشتراكية، ولابأس من توزيع أغاني العدالة والاشتراكية على الشعب(ص121).
أما مفتاح شخصية منصور باهي فإنّ محفوظ جعله يبدأ حديثه (في الفصل الذي خصّـصه له ليكون على لسانه) فقال: قــُـضى علىّ بالسجن فى الإسكندرية، وبأنْ أمضى العمر في انتحال الأعذار(ص139) لماذا قال ذلك؟ لأنّ شقيقه ضابط الشرطة الكبير منعه من الاتصال بزملائه في الحزب السري، الذي يبغى تحقيق العدالة الاجتماعية، وعندما دخل البنسيون فإنّ أول جملة قالها: العفن يجرى مع الهواء، أم يصدرمن ذاتي؟
وبالرغم من أنّ درية (شخصية ثانوية) فإنّ دورها غاية في الأهمية، حيث جعل المُـبدع منها مركز الاحتكاك، والتصعيد الدرامي بين منصور الذي شجـّـعها على طلب الطلاق من زوجها فوزي (بحجة أنّ سنوات اعتقاله قد تطول) ظلــّـتْ درية مُـتردّدة فترة، وحائرة بين الوفاء لزوجها، أو تلبية رغبة منصورالذي قال لها نحن الثلاثة أنا وأنت وفوزي زملاء الدراسة الجامعية، وأنا أعرف شخصية فوزي وهوسيـُـقدرالموقف، ولن يـُـعارض في طلب الطلاق، ولكنها لم تقتنع، وقذفته بحقيقة دور شقيقه الضابط الذى حذره من الاستمرارمع أعضاء التنظيم، فقال لها بغضب: لستُ قاصرًا، وعندما أخبره أحد الأصدقاء: قــُـبض على زملائك كلهم، فهمس لنفسه قائلا: غشيتنى لحظة غيبوبة، وخجلتُ من أنْ أعلق بكلمة، ولكن الصديق قال: كان أخوك حكيمًـا. فقال منصور وهو يتنفس بعمق وغيظ وقهر: نعم الحكيم أخي.
وبأسلوب التداعي الحر تذكر منصور الحوارالذي داربينه وبين شقيقه الذي قال له: سأقتلعك من الوكر. كان منصور- فى تلك الفترة- يتصوّرأنه سيصمد ويدافع عن معتقداته السياسية، لذلك قال لشقيقه: ولكني لم أعد طفلا، وانتهى النقاش بأنْ صحبه الشقيق إلى الإسكندرية وساعده في الالتحاق بإذاعتها المحلية، ولكن هل هدأتْ روحه؟ هل استمتع بالاستقرارالنفسي؟ لقد لاحقته تهمة الوشاية بزملائه، وفي لحظة مواجهة مع درية قال لها: لستُ أجهل ما يـُـقال عني، قالوا إننى أسعى للعودة لأعمل جاسوسًـا لأخي، وأضاف: إنك يا درية تــُـدركين شعوري، أعني شعوري بأنني كان يجب أنْ أكون معهم، فقالت: لاجدوى من تعذيب نفسك، وكانت قمة التطورالدرامي في شخصيته عندما قال لوجدى عامر: إنني أفكر في كتابة برنامج عن تاريخ الخيانة في مصر، فقال له: سأمدك بالمراجع والذكريات، وفي لقاء مع درية قالت لمنصور: يـُـحزنني أنني أمشي معك على شاطىء البحر، في حين أنّ زوجها في المُـعتقل. فقال منصور: لا أكاد أتحرر من الشعور بالذنب، وعندما حكى لها ما فعله سرحان مع زهرة، وخيانته لها عندما قرّر الزواج من أخرى، قالت درية: الخيانة هي الخيانة بالرغم من اختلاف الأسباب والظروف. فكان تعليق منصور: وقع القول من مسمعي موقعـًـا فاجعـًـا، وجدتُ له طعم السم في فمي، وحنقتُ على سرحان ضمن حنقي على نفسى (ص167).
في هذا المشهد جسـّـد محفوظ تراجيديا شخصية منصور، حيث وصل إلى ذروة التوترالنفسي، وأسقط خيانته لزملائه على خيانة سرحان لزهرة، وقد تأكد ذلك عندما تقابل مع درية وقال لها: أنا في رأي زملائى جاسوس، وفي رأي نفسي خائن. ولا ملجأ لي إلاّ أنت أو الموت أوالجنون، فإذا بها تنتفض بالغضب وتقول له: أنا أيضًـا خائنة. فقال: بل كنتِ مثال الإخلاص الزائف. فقالت: تعريف آخر للخيانة التي مزقتني، وعندما حاول تبرير تخليه عن زملائه، وتبرير لقائهما بينما زوجها في المعتقل قالت: إننا نتدهورمعـًـا بأكثرمما تصورتْ، فإذا به تنتابه نوبة عصبية ويقول: نعم أنا جاسوس، وهربتُ فى الوقت المناسب، وتسللتُ إلى بيت صديقي القديم، وإذعاني لأخى دليل على ضعفي، والضعفاء لديهم قابلية للخيانة.
وبراعة محفوظ الفائقة أوصل تراجيديا ثنائي الخيانة (منصور ودرية) عندما أخبرته درية أنّ زوجها المُـعتقل، منحها حرية التصرف في مستقبلها، أي وافق على طلب الطلاق، فكانت الصدمة غير المتوقعة عندما قال منصورلها: لا تقبلي هبته. إنه إنسان متحضر، وهكذا تراجع منصورعن رغبة الزواج من درية، وطلب منها أنْ تتمسك بزوجها. فهل قال ذلك تحت تأثير مراجعة ذاتية؟ أم كان تحت ضغط شقيقه الذي أمره بأنْ يقطع علاقته بدرية؟ من سياق الأحداث يتبين أنه لم يستطع مقاومة تسلط شقيقه، ليس ذلك فقط وإنما عكس خيانة سرحان لزهرة، على خيانته لزملائه، وعندما كان يضرب سرحان بكل قوة، وتصورّ أنه قتله، وكأنه يقتل نفسه، وذلك قمة الإبداع، خاصة أنّ محفوظ أنهى الرواية بإصرار زهرة على التعليم، والبحث عن وظيفة، ومواصلة حياتها بعيدًا عن الانتهازيين في مجتمع (بنسيون ميرامار) باستثناء الصحفي العجوزوجدي عامر الذي شـدّ على يدها وأيـّـدها في قرارها.