القاهرة 12 يناير 2021 الساعة 08:49 ص
كتب: طلعت رضوان
أحسنتْ هيئة الكتاب المصرية (سلسلة مكتبة الأسرة) بنشر كتاب عن قصة حياة العالمة (ماري كوري) الحاصلة على جائزة نوبل في الكيمياء -مرتيْن- والكتاب صدر سنة 2019.
نشأت ماري (7 نوفمبر1867- 1955) في مدينة وارسو عاصمة بولندا، التي كانت خاضعة للاحتلال الروسى، وذكرتْ في مذكراتها أنه لم يكن من حق الشعب البولندي الكلام أو التعليم في المدارس باللغة البولندية، كما حظرتْ السلطة الروسية، كل أنواع التمارين العلمية، والتجارب المعملية في المدارس البولندية، ومع ذلك وُجدتْ "جماعة سرية" تعمل على الحفاظ على اللغة والثقافة القومية البولندية، وذكرتْ أنها عندما اكتشفتْ عنصرًا كيمائيًّا جديدًا أطلقتْ عليه اسم (بلونيوم) وأنه (على اسم وطني الحبيب).
وعن طفولتها ذكرتْ أنها عندما بلغتْ سن العاشرة ماتت والدتها متأثرة بمرض السل، وذكرتْ أنها عملتْ (مربية للأطفال) لمساعدة شقيقتها التي ترغب في دراسة الطب في باريس، وفي الوقت نفسه تسافر معها لدراسة الفيزياء والرياضيات، وفي الأسرة التي عملتْ فيها (مربية أطفال) كانت أسرة ثرية، ووجدتْ مكتبة فيها الكثير من الكتب، فقرأت الأدب العالمي، وشجعتها الأسرة على دراسة الفيزياء والكيمياء، وعلم الاجتماع والتشريح، وسيكولوجية البشر..إلخ. وذكرتْ أنها كانت حائرة بين بقائها في باريس، وبين زيارة والدها في بولندا، الذى يُعاني من الوحدة بعد وفاة والدتها، فكانت تحاول التوفيق بين الرغبتيْن؛ وعلاوة على ذلك اشتركتْ في (فصول سرية) لتعليم الطلاب بعض المواد الدراسية.. وكانت هى ومن معها من الدارسين، عليهم تغيير مكان هذه الفصول كل ليلة.. حتى لا تقبض السلطات الروسية عليهم.. وذكرتْ أنّ السلطات الروسية أغلقت كل المعامل البحثية البولندية.
من بين الذين ساعدوها فى توفير المعمل الذي تُجرى فيه تجاربها عمها (جوزيف بوجوسكي) الذى كان مساعدًا لعالم الكيمياء الروسي الشهير(ديمتري مندليف) الذي أنشأ الجدول الدوري لكل العناصرالمعروفة، والذي يدرّس في المدارس، وتولى أحد زملاء جوزيف تعليمها عناصرالكيمياء، وفي نوفمبر1891 بلغتْ (ماري) الرابعة والعشرين من عمرها، وسافرتْ بالقطار من بولندا إلى باريس بالدرجة الرابعة، وذكرتْ أنها عشقت الحرية وأنّ الحرية هي التي ساعدتها على تجاوز كل الصعوبات، وأنها لا تفكر ألاّ في البحث العلمي، وقالت: صحيح كنتُ فقيرة؛ ولكنني كنتُ سعيدة وكانت جامعة السوربون مكانًا رائعًا.
في عام 1893 بعد عاميْن فى باريس أتمتْ ماري شهادتها في الفيزياء، وحصلتْ على أعلى الدرجات، وكان عليها استكمال دراستها لمدة عام آخر للحصول على (دبلومة في الرياضيات)، ولكن واجهتها مشكلة تدبيرالمال اللازم.
ومن حُسن حظها فازتْ بمنحة تعليمية، نظرًا لتفوقها في مادة الفيزياء، كما اتصل بها بعض رجال الصناعة، وطلبوا منها مساعدتهم في اكتشاف الخواص المغناطيسية لأنواع مختلفة من الصلب، وهذا الطلب معناه الحصول على معمل لإجراء التجارب، وانتظرتْ حتى يتم تجهيز المعمل.
بداية التعرف على شريك عمرها وزوجها بيير كوري:
ومن حُـسن حظها- للمرة الثانية- فإنّ أحد أصدقائها عرّفها على بيير كوري، وكان ذلك في ربيع عام1894، وكان كوري يعمل رئيسـًا للمعامل في المدرسة المحلية للفيزياء والكيمياء الصناعية بباريس، وبعد أنْ عرف بيير مشكلتها تركها تعمل في تلك المعامل، لإجراء تجاربها، ومنذ تلك اللحظة شعرتْ بأهمية التواصل للعمل معه، خاصة وأنه قام بالفعل بإجراء تجارب على المغناطيسية، وعلى (تصوير البللورات).
وذكرتْ أنّ بيير كان يكبرها بعشر سنوات، ولكن اهتماماتهما المشتركة وحّـدتْ بينهما؛ ونظرًا لأنّ هذه الاهتمامات كانت بهدف (سعادة البشرية) وتطوير الحياة الاجتماعية، كل ذلك ساعد على زيادة التقارب، خاصة أنّ بيير كما كتبتْ ماري، أحبّتْ فيه طبيعته المخلصة للعمل، وثقته بنفسه، وابتسامته الدافئة، وبمرورالوقت تحوّل الاحترام المتبادل بينهما، من حب العلم الذي تطوّر إلى الحب العاطفي.
في صيف 1894 أنهتْ ماري درجة الحصول على (دبلوم الرياضيات) وعندما سافرتْ إلى وطنها بولندا، فإنّ بيير أرسل لها عدة خطابات مفعمة بالعاطفة الجياشة، وطلب منها سرعة العودة إلى باريس، لإتمام دراستها، وفي تلك المرحلة كان كل منهما يُشجع الآخر، هي شجّعته على كتابة بحثه عن المغناطيسية، وعن الحصول على الدكتوراه، التي أجّلها أكثر من مرة، وبالفعل تأثر بكلامها وحصل على الدكتوراه في مارس1895، وتمتْ ترقيته إلى درجة أستاذ في كلية العلوم بجامعة السوربون.
تـمّ الزواج فى يوليو1895، ولم يكن زواجًا تقليديًّا، ولم يتبادلا دبلتي الزواج، ولم تلبس ماري الفستان الأبيض، واختارتْ ثوبًا أزرق، اعتقدتْ أنه سيكون مريحًا وعمليًّا، وهي ترتديه كمعطف للعمل به داخل المعمل، وبنقود الأصدقاء (هدية الزواج) اشترى الزوجان درّاجتيْن، وطافا بهما أنحاء باريس في (شهرالعسل).
واصلتْ مارى أبحاثها عن الخواص المغناطيسية للصلب، وفي صيف عام 1897 أتممتْ أبحاثها عن الصلب، وفي ديسمبرمن العام نفسه وُلدتْ ابنتها إيرين. وذكرتْ أنّ من حظها الحسن مساعدة حماها (والد زوجها) الطبيب الذي عشق طفلتها، التس تعلّـقتْ بجدها، حتى بعد أنْ كبرتْ ونضجتْ ودخلتْ الجامعة.
بحثتْ ماري عن الموضوع المناسب لرسالتها للدكتوراه، وفي هذا التوقيت كان معظم العلماء مشغولين باكتشافيْن جديديْن، وكانا حديث أغلبية الناس: هما أشعة إكس، وإشعاع اليورانيوم. وفي ديسمبر 1895 اكتشف عالم الفيزياء (فيلهلم رونتجين) نوعًا من الأشعة، يمكنه اختراق جلد الإنسان، ويأخذ صورة عظامه. (واندهشتُ أنا وغيرى من قدرة العلم.. وتحقيق هذا الانجاز)، وكوفىء رونتجين بفوزه بجائزة نوبل فى الفيزياء عام1901 لأنّ اختراعه ساعد الأطباء في معرفة الكثير من أسباب الأمراض التي وقفوا إزاءها حائرين وعاجزين عن معرفة سبب الآلام التى يتعرّض لها المرضى؛ ولذلك سرعان ما جذبتْ أشعة إكس انتباه الأطباء على مستوى العالم، ومع بداية عام 1889 قام عالم الفيزياء الفرنسي (هنرى بيكريل) بتقديم بحث علمي شرح فيه أنّ أملاح عنصر اليورانيوم تقوم بإشعاع (طاقة) يمكن رؤيتها لوكانت بجوار لوح فوتوغرافي مغطى بورق معتم. وكان السؤال الذي حيّـر العلماء هو: من أين أتتْ هذه الطاقة؟
ذكرتْ ماري أنها حاولتْ البحث عن إجابة لهذا السؤال، وقالت إنها بحثتْ عن كل ما كُـتب في (مجال إشعاعات اليورانيوم) ولم تجد الإّ القليل؛ ولذلك قرّرتْ أنْ تعتمد على نفسها، من خلال المزيد من التجارب المعملية، وذهبتْ وقابلتْ مدير المدرسة التى كان بييركورى (زوجها) يعمل فى معاملها، وشرحتْ للمدير أهمية احتياجها للمعامل، فسمح لها باستخدام (مخزن رطب) وكان المكان مرعبًا، ولكنها تحمّـلتْولم تتراجع، وأثناء ذلك تذكرتْ أنّ بيير وشقيقه جاكوزي اخترعا نوعـًا من أجهزة القياس الكهربية، لقياس التيار الكهربائي (متناهي الصغر) أطلق العلماء عليه (جهاز كوري للقياسات الكهربية) فكان هذا الجهاز مفيدًا لأبحاث ماري عن اليورانيوم، وفرحتْ لأنّ مخترع هذا الجهاز- كما قالت في مذكراتها- (يقف بجانبى)، وأضافتْ أنه باستخدام جهاز(كوري) للقياسات الكهربية أصبحت قادرة على إجراء قياسات دقيقية للشحنات الكهربائية (متناهية الصغر) التي تنتج عن أشعة اليورانيوم، وتمرعبر الهواء. وكان هدفها هو التعرف على (كثافة الإشعاع) فأجرتْ عدة تجارب، وفي النهاية توصلتْ إلى النتائج نفسها التى توصل إليها العالم (بيكريل)، وتأكدتْ من أنّ إشعاعات اليورانيوم لها التأثيرات الكهربائية الثابتة، بغض النظر عما إذا كان اليورانيوم جافًّا أو رطبًّا، ساخنًا أوباردًا، مخزنًا في الضوء أو في الظلام، كل ذلك لا تأثيرله، وأنّ الشيء الوحيد الذى يُحدث تغييرًا فى كمية الإشعاع المنطلق، هو كمية اليورانيوم، وسألت نفسها: لماذا يحدث ذلك؟
فكّرتْ ماري في هذا السؤال لعدة أيام، وأخيرًا توصلتْ إلى افتراض أنّ سبب الإشعاعات المنطلقة من اليورانيوم، هو التكوين الفريد، وبنية ذرات اليورانيوم، وقالت لنفسها: إذا كان ذلك من السهل قوله، فإنّ إثباته من المستحيل تقريبًا.. وقالت- كذلك- لقد اعتقد كثيرون أنّ الذرة لايمكن تقسيمها، وكان الاعتقاد السائد أنها أصغر وحدة من المادة، لكل عنصر كيماوي، ولكن عند اكتشاف الإلكترون، كان لابد من تغيير الطريقة التي نفكر بها عن المادة، لقد صار الإلكترون جزءًا من الذرة، وكان عليها وعلى زملائها العلماء البحث لمعرفة سر التكوين المعقد للذرة، و(بطريقة التخمين) علينا معرفة كمية الطاقة الهائلة التي تختزنها، وفي هذا الوقت كان الشرح الأكثر إقناعًا هو أنّ بعض الذرات يمكنها تخزين الطاقة، والأشعة الكونية التي ترسلها إلى الأرض، ورغم أنّ أحدًا لم يساعدها في حل هذا اللغز، أي لغز الطاقة الغامضة داخل الذرات، فإنّ ماري أقنعت نفسها بأنّ ذرات اليورانيوم كانت لعنصر خاص، وتساءلتْ: هل يمكن كشف ذرات أخرى لها نفس الخصائص؟ ومن أجل أنْ تكتشف ذلك قامت باختيار مواد معدنية تحتوى على عناصر أخرى غير عنصر اليورانيوم، وقد ساعدها جهاز زوجها (كوري) لإجراء تجاربها الجديدة، كما ساعدها كثير من أصدقائها العلماء، الذين أعطوها عينات من المواد المعدنية وكانت باهظة الثمن.
وفي أبريل عام 1898 وجدتْ ماري أنّ (مركبات الثوريوم) تعطي- أيضًا- إشعاعات يورانيوم، وأنّ هذا الانبعاث يبدو كنتيجة لخاصية داخلية لذرات الثوريوم، وبناءً على ذلك ابتكرتْ ماري لفظًا لهذه الخاصية للذرات، أي النشاط الإشعاعي، وكتبتْ (لقد أصبحتُ مقتنعة بأنني لو فحصتُ أكسيد اليورانيوم الأسود، فإنني سأكشف الغطاء عن مادة مشعة جديدة، ولابد من وجود عنصر غير معلوم، لأنني اختبرتُ حوالى60 عنصرًا معلومًا، ولم أجد أي شيء، ولما أخبرتُ زوجى بيير كوري بنظريتي، شعر بالإثارة، لدرجة أنه قرّرترك بحثه عن تصوير البللورات، وأنْ يساعدني لنكتشف معًا هذا العنصر الجديد.
كان هذا التعاون بداية الاكتشاف الذي أوصلهما إلى جائزة نوبل، حيث أجريا تجاربهما ياستخدام أكسيد اليورانيوم الأسود، وبالتالي ظهر أنّ هذا الخام المعدني له نشاط إشعاعى، يفوق أربعة أمثال نشاط اليورانيوم، واكتشفا أنّ هذا الأكسيد يحتوي على أكثر من30 مادة كيماوية مختلفة، واستخدما الخطوات العملية لفصل المواد المختلفة بابتكار طريقة جديدة للتحاليل الكيماوية، بفضل جهاز كوري للقياس الكهربائي لمعرفة العنصر المجهول، وساعدهما ذلك على اكتشاف عنصريْن جديديْن، وبعد مرور سنة ونصف أطلق الزوجان اسم (راديوم) على العنصرالذى لم يكن معروفًا، وفي هذا الوقت كان أحد العلماء قد اكتشف (عنصرالأكتينيوم) وهوعنصر جديد له نشاط إشعاعي، وقد تمكن من فصله من أكسيد اليورانيوم الأسود، وذكرتْ أنّ الأمر استغرق أكثر من ثلاث سنوات لعزل عشرة جرامات من كلوريد الراديوم النقي، واستغرق ثماني سنوات لعزل عنصر الراديوم، ولم ننجح في عزل عنصر البولونيوم، وكان من الممكن عزل عنصر الراديوم بمساعدة أصدقائنا العلماء في المؤسسات العلمية، خاصة أنّ عنصر الراديوم له أهمية كبيرة للعلماء في أبحاثهم، ومن حُـسن الحظ أنّ الحكومة النمساوية ساعدتنا، (حيث أهدتنا طنًّا من أكسيد اليورانيوم الأسود).
واعترفتْ ماري كوري بفضل العالم (أرنست رذرفورد) عندما اكتشف أنّ الذرة ما هي إلاّ كينونة نووية، وتتركز كتلتها في نواتها، بقطر أقل من جزء من ألف جزء من قطرالذرة.. وأوضح أنّ النواة تتكون من بروتونات ونيوترونات. وهو أول من اكتشف وجود (نيوترونات) واعترفتْ بفضل العالم (فريدريك سودي) الذي شرح (مفهوم النظائر المشعة) وكيفية استخدامها في الصناعات الدوائية.
ومن أهم فصول مذكراتها الفصل الذي شرحتْ فيه أنّ الراديوم بقدرمساهمته في العلاج، فهو ضار أحيانًا، بسبب التأثير المدمر لإشعاعات الراديوم على جلد الإنسان، وقد حدث هذا معها هي شخصيًّا، وأنها فقدت 10كم من وزنها، وهوما حدث لزوجها (بييركوري) وكيف تسبب الإشعاع في تشويه الجلد بشكل قبيح، مع العجز عن العلاج، ولكن الجانب الإيجابي كان في قدرة الإشعاع المساهمة في (مقاومة مرض السرطان) ومهاجمة بعض الأمراض الأخرى، وبذلك وُلد مجال جديد في الطب (هوالعلاج بالإشعاع) وهو ما أسعدها هي وزوجها.
وهذه السعادة لم تستطع محو الشعور بالفقر، خاصة وأنهما لم يحصلا على (براءة الاختراع) وحاجتهما للمال لمصاريف المعيشة، ومع ذلك تمكنتْ ماري من الحصول على الدكتوراه عن (دراسة فى المواد المشعة) فى يونيو1903 وكانت أول سيدة تحصل عليها فى فرنسا، ولم تستطع شراء الفستان اللائق لحضورمناقشة رسالتها.
الحصول على جائزة نوبل:
وفجأة تنفتح أبواب السعادة، ففي شهر ديسمبرمن نفس العام1903 أعلنتْ لجنة نوبل فوز كل من ماري كوري، وبييركوري، وهنري بيكريل الحصول على الجائزة في الفيزياء. ولأنها منذ شبابها كانت تميل للعزلة والهدوء، لذلك استاءتْ كثيرًا من (هجوم) الصحفيين على منزلها، وملاحقتها في كل مكان تذهب إليه، لتصويرها وإجراء الحديث معها، وبعد وفاة زوجها، عثرت على رسالة في مكتبه موجهة إليها قال فيها: (عندما أرحل، عليك أنْ تواصلى العمل من أجل الإنسانية).
وللمرة الثانية تختارها لجنة نوبل للفوز بجائزتها في الكيمياء لاكتشافها عنصري الراديوم والبولونيوم وذلك في 11ديسمبر1911، وكرّستْ حياتها لإنشاء (معهد الراديوم) تخليدًا لذكرى زوجها.
ومثلما نقول في أمثالنا المصرية (ابن الوز عوام) فإنّ ابنتها (إيرين) بالاشتراك مع زوجها (فريدريك) فازا بنوبل في الكيمياء عام 1935 عن النشاط الإشعاعى الصناعى.
ماتتْ مارى في يوليو1934 بمرض سرطان الدم وكانت شبه عمياء، وكانت وصيتها أنْ تُدفن بجوار زوجها.