القاهرة 12 يناير 2021 الساعة 08:35 ص
بقلم: سماح ممدوح حسن
بعد اندلاع الحرب فى سوريا، وككل حدث يلم بأمة، لابد وأن يخرج الإنتاج الأدبي وخاصة الرواية، معبرة عن ذلك الحدث. ومن بين كثير من تلك الروايات التى حكت جانبًا من فظائع الحرب السورية كانت رواية "نزوح مريم" لمحمود حسن الجاسم. كُتبت الرواية في أوراق إحدى "كراسات الدراسة" والتى كانت توزعها مجانًا إحدى منظمات الإغاثة داخل واحدة من مخيمات اللاجئين السوريين في تركيا. لكن مهلًا، الكاتب لم يكتب الرواية في المخيم، بل هى"سارة" صاحبت الرواية والراوية، خطت كلمات الرواية قبل مماتها لتتعرف ابنتها الطفلة "مريم" على جانب مما حدث.
رواية "نزوح مريم" من الروايات التى تنتمي، ربما، إلى أدب السيرة، وأيضا تشبه أدب الرسائل. فالرواية كلها كُتبت فى قالب سردي مكون من راوية تحكي لابنتها عن نصيبهم من المأساة التى ألمت بوطن بأكمله. وتحكي لها عن حياتهم وأسرتهم وعن أبيها الذي اختطف ولم تعرف حتى موتها ما إن كان زوجها "هاشم" حيًّا أم ميتًا. الرواية هي حكاية حب، حب عاشقين وزوجين، وحب وطن ضاع ولا يعرف أحد متى يُستعاد.
تبدأ الحكاية عندما تكتب "سارة" المعلمة التى تمضي فترة عملها فى إحدى قرى الريف السورى، ريف الرقة، و بعدما كانت تمضي يومها تتذمر متوسلة لعمها حتى يتوسط لها لتنقل من هذا الريف الذى يأكل البعوض من يعيش فيه، إلى عيشها لأجمل أيام حياتها بعدما أشرق حب حياتها "هاشم" المهندس الزراعي، ومدير المكتب الزراعي فى هذه القرية. أحبها وأحبته، وهو المسلم وهى المسيحية، عشقها المهندس الفيلسوف الذى علّمها أن لا فرق بين دين ودين، حتى لو اختلفت طقوس تأدية هذا الدين إلا أن الجميع يتوجهون لنفس الرب.
حكت "سارة" في روايتها لابنتها "مريم" كيف عارض أهل كليهما ذلك الزواج مِن ديانة مخالفة، لكنه "هاشم، عود الخيزران" كان شخصية قوية أقنع أهله، وساعده على ذلك أن جدّه فعلها من قبل وتزوج من إحدى بنات الأرمن الهاربين من مذابح الأرمن في تركيا، ولاجئين إلى سوريا، وكانت مسيحية الديانة، لكن والد"سارة" السكير المدمن قاطعها، وعمها وعمتها، قاطعها الجميع لخروجها عن تقاليد الملة والزواج من صاحب ديانة مختلفة. لكنها في مقابل حب هاشم الحبيب والزوج، لم تهتم لكل هذه المقاطعات، وأمضت أجمل أيامها بعد الزواج في الريف الذي لم تطق صبرًا حتى تخرج منه من قبل. عاشت "سارة" مع حماتها "خديجة" التي صارت لها أمًّا، بعدما حُرمت سارة من أمها التي توفت وهي لا تزال طفلة فى الثامنة.
وأنجبت نور حياتها "مريم" وعاش الجميع فى هناءة ورغد، حتى اندلعت الأحداث في 2011، ووصلت إلى ريف الرقة، وللمرة الأولى فى حياتها ترى "سارة" البشاعة وتعيشها ولا تعرف كيف خرجت منها، وذالك عندما خرجت في يوم جمعة لشراء بعض الخبز، وإذ بها تُداس تحت أقدام المتظاهرين الذين خرجوا لتشييع جثمان أحد الضحايا الذى قُتل على يد الأمن فى مظاهرة سابقة. ولو أن قوات الأمن التي فضت المظاهرة اطّلعت على هوية سارة، وعرفت أنها زوجة هاشم، أخو "بشير" واحد من رجال الأمن ما كانوا تركوها، لكنها تُركت بعدما غاصت فى دماء الجرحى والقتلى فى المظاهرة، بعدما ديست بالأقدام، وضربت بالعصى ضمن المضروبين وسُبت بأقظع الألفاظ. ومن يومها ضربت أسوار سجن الخوف حول روحها.
حتى هذه الفترة كانت لا تزال الأمور في سوريا واضحة، معارضة ترفض قمع النظام وحكم الحزب الواحد "البعث" وقوات أمن تحاول ألا تخرج تلك الاحتجاجات عن سيطرتها ولا تعرف طريقا لذلك سوى بالقمع والعنف والرصاص الحي. لكن ما سيجيء هو البشاعة نفسها. في البداية وصلت الانقسامات في الرأى إلى البيوت السورية، فصارت العائلات بين مؤيد للنظام وبين معارض، تماما مثلما كان بيت "سارة" فقد كان زوجها "هاشم" من المعارضين لقمع النظام وعنفه، على العكس تمامًا من أخوه "بشير" والذى كان مؤيدًا للنظام تأييدًا مطلقًا، وكان ينعت المتظاهرين بالرعاع والحثالة، وكان يعمل لصالح الأمن أو ما يسمى بالسورية "الشبيحة" وكان من تلك القوات التى تقمع المظاهرات بالقوة، بالعصيّ الكهربائية والرصاص. وكان الجميع يعرف هذا، وكان هاشم الأخ الأكبر لبشير رافضًا بكل عنف لانضمام أخيه إلى هؤلاء الشبيحة، وكأنه كان يعرف أن يومًا قريبًا سيجيء ويؤخذ هو وعائلته بما يفعله هذا الأخ.
لم تظل الأمور فى سوريا واضحة كما كانت، معارضة ضد نظام قمعي، بعدما تحول الوضع بأكمله يشبه الأسد العاجز الذي تكاثرت عليه الكلاب. فبدأ أهل سوريا، خاصة الريف، يرون أغرب الوجوه، وحتى الوجوه المألوفة تلونت بالجديد، وبدأ الناس يسمعون ألسن غريبة تتحدث بلغات أجنبية، وبدأ ينتشر ما يسمى بتنظيم "داعش" الدموي. التنظيم الذى ضم حثالة الأرض من كل الجنسيات، التنظيم الذي استقطب أعتى السفاحين وسافكي الدماء، المتعطشين للقتل. وبدأت تتغير كليًّا وتصير غريبة كأن أهلها لم يعرفوها قبل.
الملامح الرئيسة في الرواية
أولا: حقيقة تكالب المتآمرين على وطن من أجمل بلدان العرب..
يتضح ذلك في مواطن كثيرة أولا عندما بدأت الأحداث ونجحت مليشيات السفاحين في السيطرة على ريف الرقة، وسيطروا على كل مقاليد الحكم في هذه المناطق بعيدًا عن سلطة الدولة "والله هذا احتلال". اتضح ذلك أولًا عندما اقتحموا كل البيوت وخاصة البيوت التي يعرفون أن أحد أفرادها أشخاص يعملون لدى النظام، وكان من بين تلك البيوت بيت سارة وهاشم. لما اقتحمته المليشيات بحثًا عن "بشير" أحد أفراد الأمن لينتقموا منه، ولما لم يجدوه وقد نجح في الهروب من قبلها، اختطفوا أخاه هاشم ولم يعرف أهله بعدها ما إن كان حيًّا أو ميتًا. ومن ضمن المجموعة التي اقتحمت البيت كانت الألسن الغريبة تتكلم بما لم يفهمه الناس، ألوان بشرة لم تكن لأهل العرب "من أي البلاد جاء هؤلاء". أيضا ظهر ذلك جليًّا أثناء الرحلة الجهنمية التي قطعتها "سارة" في طريق هجرتها إلى فرنسا، والتي لم تكتمل، وفي إحدى حواجز الطرق ومن ضمن قوات الحراسة على هذه النقاط كان هناك حراس إيرانيون، ومن خلال محادثة "سارة" لمرافقها شرح لها كيف أصبحت البلد تعج بالإيرانيين والإسرائيليين والفرنسيين والإنجليز والأتراك والشيشانيين وغيرهم ممن أتوا لينضموا إما إلى النظام كالإيرانيين والروس أو لينضموا إلى تنظيم داعش وحتى من بينهم كان هناك إسرائيليون.
الملمح الثاني للرواية وتلخيص الصورة البصرية للأحداث..
على الرغم من بساطة الإطار التي تأطرت به الحكاية وكانت ببساطة عبارة عن يوميات تحكي فيها الأم لابنتها حقيقة ما حدث، إلا أن محمود الجاسم، وعلى لسان "سارة" وما خطته فى دفتر الدرس، فرد أمامنا تلك الصورة التى يصلح أن نقول عليها "قبل وبعد" صورة سوريا وريفها. فعندما سطرت الأم ملامح الريف أيام العشق الأول ورغد العيش بعد الزواج، رأينا ما يُحكى عن سوريا وربيعها وجنة الأزهار الوارفة، الجنان الخضراء في كل جانب، مشينا على الغدران معها شاركنا الأهل فى الزراعة، رقصنا دبكة وحضرنا وليمة لأفراح الأعراب البدو، شممنا رائحة الهيل في دلة القهوة، ذلك العالم الذى انقلب كليًّا بعد سيطرة الحكام الجدد. فكأنما كفنوا الأرض والزرع والجنان والناس بكفن أسود. ممنوع على الأحياء فيه التلصص حتى على بصيص نور، ومن يفعل يعاقب بالجلد والضرب وقطع الرأس. التنظيم الذى اعتقل الرجال وسبى النساء واغتصب وأحرق، غابت الألوان واحتلك النهار كما الليل "اللباس الجديد يغزو كل شيء، الشوارع والمحلات والأبنية، والهواء والريف والمدينة، والشجر والنهر والحجر. لباس يغلب عليه اللون الأسود، اختفى السفور وأصبحت تهمة فاجرة مشينة". فلم يكن بد من النزوح ثم الهجرة التى سلمت السوريين لواقع مع مافيا المهربين أحلك وأكثر ظلمة ووحشة من سواد الكفن الذى دثرت داعش به البلاد.
تركيا فى الرواية..
على لسان سوريين كثر في الحقيقة، تجلى دور تركيا في تصدير أكثر المرتزقة الأجانب إلى سوريا. السفاحون الواردون من شتى بقاع الأرض، خاصة أوروبا، وكانت تركيا هي بوابتهم للدخول إللى سوريا والانضمام إلى التنظيم تمامًا كما كانت البوابة التى يمر بها اللاجئون للخروج إلى أوروبا. فكما كانت رحلة سارة بعدما اتفق معها المهرب، واحد من مافيا المهربين، والذين نشط سوقهم في تلك الكارثة. أخذها وآخرين من بيروت مرورًا بسوريا مرة أخرى ثم إلى تركيا أرض المعبر من وإلى سوريا ثم إلى اليونان ففرنسا. ولا تزال تركيا واحدة من الأطراف الرئيسة المحركة للأحداث للأسوأ في سوريا. المفارقة هنا أن تركيا من صدرت الإرهابيين إلى سوريا هي نفسها البلد الذي أقيم فيه مخيم اللاجئين الذي منه ستخرج حكاية سارة ومريم.