القاهرة 05 يناير 2021 الساعة 08:33 ص
بقلم :د.هبة سعد الدين
كانت المفارقة قاسية في الكلمة التي ألقاها الكاتب الكبير الراحل "وحيد حامد" بمناسبة تكريمه في مهرجان القاهرة السينمائي الثاني والأربعين؛ حينما ذكر أسماءً بعينها ما بين يوسف شريف رزق الله، أو شريف عرفة، أو ليلى ونبيلة ومنة ومنى وغيرهن من النجمات اللاتي تألقن أثناء أدائهن لحواراته، أو المخرج الجميل شريف عرفة الذي شاركه سداسية أيامه السينمائية "اللعب مع الكبار/ الإرهاب والكباب / طيور الظلام / المنسي/ النوم في العسل / اضحك الصورة تطلع حلوة" ليرى ما لا يراه الناظرون وليتذكر الكثيرين، عبر مسيرة إذاعية ومسرحية وتليفزيونية وسينمائية استمرت حوالى خمسين عامًا، والتي ظهرت واضحة من خلال مسرحية "كباريه" 1974 للمخرج جلال الشرقاوي، والتى واكبها العديد من المسلسلات الإذاعية التى تحول بعضها إلى أفلام وبدأها سينمائيًّا عام 1977 بفيلم "طائر الليل الحزين" للمخرج يحيى العلمي، ومسلسل "أحلام الفتى الطائر" 1978 للمخرج محمد فاضل، ثم توالت الأعمال لتتجاوز الأربعين فيلمًا وحوالي العشرين مسلسلًا تليفزيونيًّا بالإضافة لبعض المسرحيات والأعمال الإذاعية.
كمًّا وكيفًا
يعد الكاتب "وحيد حامد" من الحالات القليلة الإبداعية الخاصة في تعاملها مع الحالة الإرهابية، فقد تنوع إنتاجه ما بين السينما والتليفزيون، وكأن لكل منهما "حالة" تتناسب معه بحسب احتياج المجتمع والواقع في ذات الوقت وبحسب الرؤية الفكرية، وقد سبق الآخرين واختلف عنهم، ففى أعماله قليلاً ما نجد الصورة المباشرة للإرهاب والإرهابي، والعمليات الإرهابية فحسب، لدرجة أنه يمكن القول إنه قدم إرهابًا ليس بإرهاب!!، فهو من القليلين الذين بحثوا في الظواهر التي تدعم ظهور الإرهابي بعيدًا عن الصورة الذهنية التي أحاطت به، وبدأ بميدان السينما وقدم ستة أفلام امتدت على مدى أكثر من خمسة عشر عاما واختلفت ما بين التسعينيات وما بعدها، بدأها بأربعة أفلام في التسعينيات "اللعب مع الكبار/ الإرهاب والكباب / طيور الظلام/ كشف المستور"، وأكمل المسيرة السينمائية بفيلمين بعد عشر سنوات "دم الغزال / عمارة يعقوبيان" يعد كل منهما استكمالًا للرؤية التى بدأها؛ وكأن الستة أفلام بناء فكري متسلسل زمني عمل على استكماله عبر السنوات؛ سواء في حجم الارهاب أو صوره وتأثيره على المجتمع.
تلك الأفلام المبكرة زمنيًّا صاحبت واقع الإرهاب، لذلك في الأربعة الأولى تكاملت رؤية "وحيد" لهذا الواقع وقدم استشرافًا مبكرًا؛ بدأه بـ"اللعب مع الكبار" الذي جاء خلاله الإرهاب "صدفة" خلال الأحداث؛ وتبعه بـ"الإرهاب والكباب" الذى شهد إرهابًا "كده وكده" و"كشف المستور" الذي جاء للمرة الأولى بتمويل التدين مبكرًا، ثم تلاه بأيقونته "طيور الظلام" ليكمل النقاط مابين المواطن والإرهاب والدولة.
التليفزيون احتياطي
أما الدراما التليفزيونية فرغم أنها جاءت كمساحة لملء الفراغات التي لم تستطع السينما سبر غورها؛ لذلك رصد الحالة التى أصيبت بها مصر عام 1994 من خلال مسلسل "العائلة" للمخرج إسماعيل عبد الحافظ، ليضع يده في الجرح على مدى ثلاثين حلقة، مما أتاح له المزيد من النقاش والرصد وطرح "التشابك" الذى يصعب رؤيته ومن ثم "فضه"، وقد أعاد هذه المرة القضية إلى جذورها بطرح قضية "التطرف" بصورة واضحة وكأنها محاولة يائسة لحصار ذلك "المارد" قبل خروجه وصعوبة السيطرة عليه فيما بعد.
لقد أدرك أنه لن يستطيع أن يواجه المعركة بعمل أو عدة أعمال، لذلك وجد الكاتب "وحيد حامد" في ضالته في التوثيق الدرامي لتاريخ الإرهاب من خلال مسلسل "الجماعة" بجزئيه الأول 2010 للمخرج محمد ياسين والثاني 2016 للمخرج شريف البنداري؛ والذي لم يعرف حتى الآن بصورة واضحة هل استكمل كتابة الثالث والذي أراد أن يكون نهايته اغتيال السادات ليستكمل تاريخهم في الرابع؛ لقد وجد ضالته فى البحث التاريخي عنهم وتشابك علاقاتهم على مدى التاريخ وتنظيماتهم السرية التي كانت وراء العديد من عمليات الاغتيال التى أصلت للعنف والإرهاب.
وقطع بين كل هذا مسلسل "بدون ذكر أسماء" 2013 مع المخرج تامر محسن، حيث الحياة السياسية والاجتماعية فى الثمانينيات، ونمو وازدهار التيارات المتطرفة.
كل هذا فيما يتعلق بما أصاب المجتمع على مدى السنوات، لكن على الجانب الآخر الدراما التليفزيونية كانت واحته التي تطلع إليها منذ "أحلام الفتى الطائر" لمحمد فاضل وبعدها "سفر الأحلام" و"أوان الورد" لسمير سيف، وغيرها الكثير من الاستراحات الإنسانية التي يلتقط فيها أنفاسه ليمكنه أن يرى في لحظة أن التوجه من رمسيس نحو الإسكندرية أسرع من مصر الجديدة!
المستبصر
لا يمكن الحديث عن مشوار "وحيد حامد" فى إطار أعماله فحسب التي تنوعت وتعددت، لكن ما يميزها ذلك العمق ذو الأبعاد؛ فقد كانت رؤيته الأكثر شمولًا وإدراكًا للواقع وبصيرة نحو "المستقبل" الذى كان قادرًا على رؤيته واضحًا بكل التفاصيل، فقد كان "الوحيد" الذي جاء بمشاهد "منفردة" استطعنا تفسيرها بعد سنوات، فتلك "الكرة" ما بين فتحي نوفل وعلى الزناتي في رائعته "طيور الظلام" لم تكن سوى اختزالٍ للعلاقة ما بين المواطن الفاسد الذي يطمح للسلطة والمرتزقة الذى لا يملك سوى بضاعة "التدين" للوصول لذات الهدف وها هما يتنافسان في ذات اللحظة للإطاحة بالكرة التي تكسر الزجاج الذى يبدو وكأن أصابه السرطان، فلا نتبين من منهما الذي أصاب ومن الذي سبق ولكننا لا نرى سوى الدمار الذي تبيننا لاحقًا أنه أصاب الوطن!
لم يكن "كباره" كالكبار أو "غزاله" مجرد حيوان، ومواطنه دوما باحث عن الحياة بأبسط حقوقها، لذلك كان محاصرًا ما بين كل شيء ومهما اكتفى بالسير بجوار الحوائط إلا أنه لم ينجُ!!
رحم الله الكبير "وحيد حامد" الذي جاء الاحتفال بتاريخه وتكريمه مؤخرًا في مهرجان القاهرة السينمائي؛ وكأنه رسالة وداع يحلق خلالها نحو سماء إبداعه ويرى ابتسامات وأفكار ووعي ورؤية استطاع أن يصنع بعضًا منها ويمضي.