القاهرة 05 يناير 2021 الساعة 08:17 ص
بقلم: حاتم عبد الهادي السيد
تبدو الشاعرة "د. لبنى ياسين الأغا" أشبه بملاك تبوح على عتبات الذات؛ تقدم روحها الموجوعة على الأوراق الزرقاء، تتشهَّى العشق القرمزي، وتبوح عبر فضاءات الذات والعالم والكون والحياة.
وفي ديوانها: "ملصقات على عتبات الذات" لا تتأرجح الرؤى؛ لعاشقة تغزل من صوف روحها رومانتيكية العشق الشهي؛ عبر ملصقات تتهادى على جدران الذات؛ أو أنها الأيام الجميلة الخوالي، تستدعيها معه، فتحيلها إلى واحة خضراء، تصدح بالحب، وتجأر في المدى زاعقة باللوعة والحنين، والحب المشتهى، بينما نرى الذات مغتربة، آسنة، حزينة، باكية، عبر: "رسائلها الشعرية الجميلة"؛ وعبر دفقات شعرها المموسق تارة؛ والهادىء المنساب كزورق يمشي على أوتار موسيقى روحها، ويعبر جسر القلب، ليقف عند شواطىء الفؤاد مجروحًا، دامعًا، يبوح بألم ميتافيزيقي، وبأسئلة فيزيائية نحو الوجود والعالم.
إنه الحب؛ زاد الشعراء، وتوقهم، ونواحهم، وفضائهم الكوني اللذيذ، وما أسمى – بَعْدُ من الحب في هذه الحياة؟!.
وباستقراء العنوان السيموطيقي نلمح دوال العشق على: "ملصقات على عتبات الذات" فقد جاءت "عبر الاستعارة" بسلالم؛ عتبات سيمولوجية، تصل إلى الذات، أي شبهت المادى – هنا – عبر المعنوي، فالسلالم مرئية، والذات مختفية بين الضلوع والحنايا؛ والوصول إلى القلب يحتاج إلى تلك السلالم التى تعبر في العمق لتصل إلى جوهر القلب المشتهى، النابض بكل ألوان الحب للكون والمجتمع والعالم، فكل ما حولها جميل، لكن اللوعة في الحب، والبعاد تحيلان الذات إلى قلق دائم، وضباب ممتد غائم؛ عبر ديمومة حزن مستمر؛ تستخدم فيه الشاعرة "التدوير" عبر مسروديات الشعر، وكأنها تكتب "قصة شعرية"، أو "حالة وجدانية عاطفية ونفسية رائعة"، ومحزنة في آنٍ؛ وكأننا أمام محبة عاشقة، أو متصوفة تعبر الكون والعالم إلى الذات – عبر رحلة عكسية – تتعاكس فيها الرؤى، وتصطدم بتيارات الاغتراب، والبعاد عمن تتوق له الذات الشاعرة الماتعة، الأثيرة، والجميلة أيضًا، تقول في افتتاحية الديوان: "أن أحبك.. يعني أني أتنفس".
وبهذه العبارة الأثيرة الدَّالة؛ لخَّصَت تجربتها في الحب، فهو الحياة لديها، وبدونه ستفقد التنفس والحياة، لذا عبر الجملة الاخترالية الرائعة، رأيناها تلخص وجودها المقترن به، وإلا فاللا وجود هو البديل الوحيد، والذي يعنى الموت؛ وعبر هذه المعادلة تتشرنق داخل الجسد الممزق، والفؤاد الجريح، لتزعق في العالم، صادحة ومُسَطِّرَة باسم الحب أسمى، وأقدس آيات الخلود لوجودها؛ والذى يعني التلَّاَق؛ لا البعاد، والوصال لا الهجر، والدفء لا الصقيع والوحشة، تقول:
"علي نافذة الصبر / الشاردة / طال انتظاري / وطال بعدك / لا الشمس تأتيني بك / و? القمر حاملًا دفئًا /منك / على نافذة/ الانتظار / سأرتشف قهوتي / بنكهة الوجع / ومرارة ا?نين / وطعم البعد".
إنها اللهفة، وطول الانتظار لحبيب غائب، وحبيبة ملتاعة الجوى، تناديه، وترسل إليه الرسائل، تستدعى حضوره، تخاطبه. ولقد رأيناها تقلب "معادلة الذكورية في الحب"، هنا ؛ فعلى امتداد تاريخ الشعر رأينا "عنترة، قيس، جميل" وغيرهم من العشاق، الذين يتنادون باسم المحبوبة عبر الحب العذري؛ لكنها هنا هي التي تقول الشعر، وتُصَرِّحُ بالجب؛ لتعيد قلب المعادلة من جديد: "فالحب أنثى"، و"الدفء امرأة"، والحنين "فتاة" لتتعادل وتتوازن موازين وقوى الحب الكونية، تقول: "كيف أكظم شوقى اليك / وكيف أدعي أن اللهفة / لا تقتلني / منصوبة أنا على / شرف قلبك / مصلوبة روحي / تبتغي الوصل / يهزمني الحنين".
ولعلنا نلمح التشكيل عبر الصور البصرية؛ التى ترسمها كلوحات تَخُشُّ إلى القلب من أوسع طريق؛ فهى ملتاعة؛ مشتاقة، متلهفة للوصال، حتى غدوناها مصلوبة على قلبه، ولنلمح جمالية التعبير: "شرف قلبك" وكأنها تشرب نبيذ العشق، ونخبه على أهداب الوصال، فنراها منكسرة، دامعة، مهزومة،عبر انكسارات الحنين للغائب الذي لا يجىء.
وتجيد الشاعرة اللعب على أوتار فكرتي: "الغياب والحضور" – طوال الوقت – فهو الحاضر/ الغائب/ الموجود/ والهائم في صحارى العالم؛ وهى معه تطوف بخيالها الشارد، تناجيه كطيف أثير، ولعل تلك الحالة قد وَلَّدَتْ لديها: "فلسفة جديدة للحب"، فنراها "رابعة العدوية" – مع فارق في المحبوب؛ فالأولى متولهة عاشقة تغوص حتى الثمالة في "الحب الإلهي الصوفي"، بينما هى تغوص حتى الثمالة في "عشق المحبوب الغائب"، تستدعى حضوره في كل وقت، فهو حاضر معهما كذلك، عبر فلسفة العشق الممتد من صدق التعبير، وبساطته، عبر المناجاة والبوح من بعيد، تقول: "في الغياب / نهذي / نئن / نتوجع / نرقص على / إيقاعات الألم / يستبيحنا الفقد / ويغزونا الوهن / غائبون هم / وقلوبنا مقطوعة / مقصوصة / مفجوعة / لا شفاء لها / ولا دواء".
ولنلمح جماليات اللغة عبر "فلسفة الروح" التي تستدعيها الشاعرة عبر الغياب / الحضور؛ فهى تتوجع وكأنها ترقص كطير مذبوح على إيقاعات الألم والفقد، فنراها مهزومة / ضائعة / مستباحة للفقد عبر غزو الوهن؛ وتلك صور جمالية شاهقة، دالة عبر سيموطيقا الغياب، كما نلمح جمال التعبير الفطري الرائع والجميل: "غائبون هم؛ وقلوبنا مقطوعة" فهى صورة أكثر تعبيرًا وروعة، ثم تردف القطع بالقص؛ والوجع بالداء الذى لا براء منه ولا شفاء؛ كالطير المهيض الجناح؛ ولعمرى، فقد أجادت واصفات التعبير، عبر تكثيف الصورة، وصفاء اللغة وتثويريتها، وتنامى هارموني الإيقاع المموسق؛ الذي يدخل قلوبنا دون استئذان، عبر صفاء اللغة وزهوها، وجمالها المذهل، الفريد، وتصاويرها التراجيدية الأثيرة.
ومن الحضور والغياب إلى "الانتظار"، نراها قد فاض بها الصبر؛ إلا أنها تتصبر بالوجع على الصبر؛ وتفتح لقلبها كُوَّةً بين الفصول؛ لتجرع المرار، يحدوها الأمل في عودة الغائب المغترب؛ لذا فهى تعيش الاغتراب، وتتنفسه ربيعا يأتى مع الفصول؛ لتزهر حديقتها بالحب المشتهى، والدفء الجميل، تقول: "انتظرتك عند مفارق الشوق / وعلى شرفات الانتظار / لتروي وريدي / وتزهر ورودي / ويورق ربيعي".
إنها بساطة تعبير مطبوع، لا مصنوع، فهى تهرق روحها عبر جدول حبه، وتسافر عبر زورق العشق والخيال إلى مرافىء الانتظار، يحدوها الأمل لعودته؛ ليروي وريدها، وتزدهر ورودها، بعد الذبول، وتعود لها نضارة الصبا والجمال مع ربيع عودته، والذي يمثل ربيعها الجميل الذى تتشهاه، وتتلهف، وتستطلع مجيئه كل وقت؛ ومع إطلالة شمس الصباحات المتعددة، والتي طالت بسبب الغياب الممتد.
ولعل طول الغياب قد أزهق وجدها، فغدت كسيرة، موجوعة، واهنة، تناديه بلقب: "سيد الغياب"، وتستعجل مجيئه، ظهوره، وكأنه المسيح الذى سيأتى لتعميدها، أو البدر الذي سيطلع من مكة إلى المدينة ليحررها من الضلال والشرك، فهى لم تكفر بحبه، بل زادها بعاده حنينًا أكثر، وعشقًا صوفيًّا متفردًا، وفلسفة سَطَّرتها الأيام، لمغدورة في الحب، وموجوعة بالهجر، وتائقة بالوجع، وناظرة للوصال، عبر سيد الغياب الذى ذهب، ربما مع الطوفان، وربما مع زحمة الحياة، فهى تناجيه، وتناغي ذاتها، عبر "صور سوريالية"؛ كأنها أشجار عَرَّى أوراقها الخريف، فغدت حزينة، لكنها لا تزال تحمل نضارة للحياة، وتوقا لعودة الربيع الذى يكسو هذه الأشجار فتستعيد جمالها واخضرارها من جديد، فمتى سيأتى "سيد الغياب" لأميرته "العاشقة الجميلة"، تقول: "ياسيد الغياب / سأرشف قهوتي / بنكهة ليل العشق / جهزتها علي نار قلبي / الملتاع للقاءك / تفوح منها رائحة الذكري / ولون ا?مسيات / وعلى المدى البعيد / خلف ا?فق / أرقب خيالك المتناهي / من شرفات الشوق / يحاكي البهجة المؤجلة".
ما أروع التصوير، هنا، عبر لغة تصفو؛ وتظهر جماليتها الزاعقة، فهى ستطهو قهوتها على نار قلبها الملتاع للقياه، وتجهزها ليشرب سيد الغياب "قهوة الحب الأثيرة"، كما سنرى القهوة تفوح منها الذكريات، وليالي الأمسيات الساهرة الجميلة معه، فهى تنظر في المدى البعيد عبر الشَّوف "كزرقاء اليمامة"، ترقب طيف خياله الذى يجىء من بعيد، وهى تنظر من شرفة الشوق عبر تناظرية "البهجة المؤجلة"؛ فيالها من صو رائقة لتلك البهجة التى أجلتها له، ليضوع عطرها بمجيئه،وتعود لها البهجة القديمة، ويعود الزمان من جديد، يبتسم لها بعد الفقد والمرار، وبعد جفاف شفتيها الضارعتين إلى الله بمجيئه.
إنها المرأة القوية، والفتاة الحالمة، لم تهزمها العواصف، ولا زلازل الغياب، فهي لازال يحدوها الأمل في عودة العاشق، فَتُهيِّء التوت لاستقبال عصافير سيد الغياب المهاجرة.
وتختتم الشاعرة "لبنى ياسين الأغا" ديوانها العاشق – هنا – بإصرارها على الانتظار، والصبر؛ رُغْمَ مجترحاتها؛ فلا زالت تتوكأ على "عصا الشوق"، تترقب، وتتعجل المجىء، بينما تمتد أوجاعها الزاعقة بين الجبال والصحاري، وفي المدن والقرى، وبين أقاليم العالم، وأقانيم الروح، عبر فلسفة عاشقة، متصوفة، محبة ،عاشقة، تنتظر سيد الغياب الذى لا يجىء، وتتعجل ظهور الفارس الذى سيأخذ "سندريلا العاشقة" إلى قصر العشق الشهيّ، وجنة الحب الخضراء، تقول:
"مازلت أنتظرك على / مشارف الحنين / أتوكأ على أشواقي / بروح مترقبة / ونبض عجول ..... / بي وجع / يدك أوصال الفؤاد / ويحرض الروح / على المسير / رغم مداهمة الأنين / وجبروت السنين / أودعتك في ضميري / حين عزفت عني يوم حين / وتناقل الجرح الجوى".
وفي النهاية: تظل شاعرتنا "لبنى ياسين الأغا" عاشقة المحراب الجميلة، وسندريلا الحب العذري الكوني الباذخ، يتناقل جرحها في الجوى، ليعبر إلى قلوبنا / قلبها الآسن المحترق؛ عبر صحراء العالم، والكون، والحياة.