القاهرة 05 يناير 2021 الساعة 08:14 ص
بقلم: عبد الله السلايمة
عرفتُ "مسعود" لما يقرب من خمس وعشرين سنة، منذ ذلك اليوم البعيد عندما تقابلنا للمرة الأولى في كلية الآداب كفتية جدد، تبلغ أعمارهم تسعة عشر عامًا، ويحلمان بمستقبل مشرق، وبالتأكيد لا يشبه المستقبل الذي يبدو للجميع الآن كسرداب مظلم ينتهي بباب مُحكم الإغلاق.
بقدر سروري عندما عرّفني "مسعود" بنفسه وبأنه بدوره من "سيناء"، زاد من سروري بمرور الوقت أن وجدته يشبهني، شخص ودود ومرح ومحب للحياة. وقد هالني أن بدا مؤخرًا على النقيض تمامًا عما كان عليه من قبل، إذ بدا ينتابنه على نحو دائم شعور بالكآبة، لن أدَّعي أنني لا أعلم سبب هذا الشعور، أعلم السبب بالطبع؛ إنها الجلطة القلبية التي تعرض لها الشهر الماضي. وأن يتعرّض المرء لجلطة قلبية مفاجئة، من المؤكد يُمثل ذلك نقطة تحول فارقة في حياته.
سيطرت عليه فكرة الموت، وراحت تتغذى، مثل دودة عفية، على طاقته كلها، تجنب أصدقاءه، قلّ كلامه، وقسّم وقته بين الوظيفة صباحًا، وفي المساء يجلس أمام الحاسوب لساعات طويلة يكتب مذكراته، أو بالأحرى سيرة حياته.
لم تكن شمس الرابعة عصرًا شديدة الحرارة، جلستُ على الشاطئ أتطلع في صمت إلى تلاطم الأمواج في عبث، البحر هو الملاذ بالنسبة لي، الوحيد الذي يمكنه البوح إليه بما يحتدم بداخلي من أفكار تحرمني الشعور بالطمأنينة، وتأخذني إلى هناك حيث حلمت أن أكون على الدوام.
لقد أمضيت طفولتي البائسة؛ وأنا أشعر بأنني مختلف عن الآخرين، وفي صِباي، في الصف الثاني الإعدادي على وجه التحديد، وبينما كنتُ جالسًا بمكتبة المدرسة أطل عليَّ حلمي برأسه فجأة من بين صفحات رواية "العذراء والشعر الأبيض" للكاتب "إحسان عبد القدوس"، ومن يومها بدأ يطاردني حلم أن أكون كاتبًا ومشهورًا مثله.
رفض داخلي هذه المرة قبول فكرة أنني ضحية، لم أشعر بنفس الارتياح الذي كنت أشعر به في السابق كلما قلتها مواسيًا نفسي على ضياع حلمي الذي أمضيت فترة صِباي وشبابي أحلم بتحقيقه.
"ها أنت قد بلغت الرابعة والأربعين"، أجفلني بلوغي هذه السِّن ولم أفعل شيئًا حيال حلمي، بل لم أفعل شيئًا في حياتي يجعلني مميزًا كما كنت أظن منذ الصغر.
أحسست بالمرارة، بفراغ داخلي، بملل كعنكبوت يغزل نسيجه حول قلبي، فالأيام متشابهة لا تتغيّر، ولا تأتي، ولن تأتي بجديد.
تناولت محارة فارغة وألقيت بها في مياه البحر، وأخذت أرقُبها وهي تختفي، ذكّرني مشهد اختفائها بأنني سألقى نفس المصير، سأختفي يومًا ما من الوجود مثلها. سأموت كما الآخرين بلا ضجيج.
كان يمكنني أن أعيش حياة أخرى غير التي عشتها، لولا خضوعي مجبرًا لقرار أبي الذي لم يكن لي الحق، حتى منتصف التسعينيات، في رفض الزواج من إحدى بنات عمومتي، وتلك ليست إرادة الله كما قالت لي زوجة أبي مواسية، بل إرادة أبي، وإرادة مجتمع بادية أنتمي إليه، وظل حتى وقت قريب يفرض قانونه الخاص على أبنائه. قانون يصادر على أمثالي حقهم في أن تكون لهم اختياراتهم وحياتهم الخاصتين.
استسلمت لقدري ومشيئة أبي، وكما لو كنت قد تذكّرت شيئًا نسيه التفتُّ ناظرًا إلى زوجتي، وجدتها منشغلة بمداعبة ابننا الرابع ذي الثلاثة أعوام، همست مشفقًا: "إنها هي الأخرى ضحية".
رن هاتفي فجأة، حدقت إلى شاشته، إنه رقم "مسعود" لكن ليس هو من يتصل، قفزت إلى ذهني فكرة أنه مات، أو ربما يموت الآن، ولو كان غير ذلك لاتصل بي بنفسه، و تضرّعت إلى الله ألا يكون قد مات بالفعل قبل أن أتمكن من وداعه.
شعرت بالانهيار وبالكاد استطعت القول:
ـ ألو
وبينما كنت في انتظار أن يرد عليَّ المتحدث باكيًا، وإذ "بمسعود" يرد بوهن:
ـ حمدًا لله.. أريد رؤيتك قبل أن أموت.
ـ ماذا، ماذا تقول؟
ـ كما سمعت، ولتعجّل بالمجيء.
ـ أين أنت الآن؟!
ـ أين سأكون، في المنزل بالطبع.
وجدت مشقة في العثور على سيارة، وبينما كنت واقفًا في انتظار سيارة يتصادف مرورها؛ قلت لنفسي:" لقد صدقت نبوءتك يا مسعود"، وتزاحمت في مخيلتي خلال النصف ساعة التي قضيتها في السيارة متوجهًا إلى منزله تفاصيل لقائنا الشهر الماضي.
جاء يزورني، بدا شاحبًا، لم تطل حيرتي لمعرفة سبب شحوبه، إذ وجدته يفاجئني قائلًا:
ـ يُقال أن المرء يشعر بدنو أجله، وأنا أعيش مع هذا الهاجس منذ ثلاثة شهور مضت.
وأضاف وهو يناولني بيد مرتجفة حقيبة جلدية صغيرة:
ـ أعرف أن ما بداخل الحقيبة قد لا يعني لك أي شيء، لكنه يعني بالنسبة لي الكثير. وأعرف أن الأمر قد يبدو لك مضحكًا، لكنه ليس كذلك بالنسبة لي، فلطالما راودني الاعتقاد في أن لديّ قصة تستحق أن تُروى. هذا الاعتقاد جعلني كما لو كنت في سباق مع الموت أنكب طوال الشهور الثلاثة الماضية على كتابة تلك الأوراق التي بين يديك، وحمدًا لله أنني فزت على الموت وأنجزتها، وها أنذا أنجح في تسليمها إليك قبل أن يقبض ملاك الموت روحي.
التقط أنفاسه، ثم أضاف:
ـ وكونك صديقي الأقرب، أطلب منك قراءتها، وليتك – خدمة لي – تقوم بنشرها لاحقًا، إذا ما رأيتها تستحق النشر.
ضحكت، بدا منزعجًا وقد ظن أنني أسخر منه، فسارعت بالاعتذار:
ـ أرجو ألا تسيئ فهمي، فكل ما في الأمر أن قولك "ملاك الموت" قد ذكّرني بحكاية قديمة عشتها في طفولتي بينما كنت في الخامسة من عمري.
ولكي يصدقني رحت أقصُّ عليه كيف دفع بي افتقادي لأمي وقتئذ وقد اختطفها الموت العام الماضي، وتزوج أبي من ابنة عمه "سعاد" التي بدت مرتبكة أمام سؤالي المباغت لها: "لماذا يموت البشر كما ماتت أمي، ومن الذي أرسل الموت ليقبض روحها هكذا فجأة؟!
سؤالان ألقيتهما كقنبلتين انفجرتا في وجها. ترددت قليلاً، ثم أجابت مرتبكة:
ـ الله يا بني هو من يرسل عزرائيل "ملك الموت" كما يقولون ليقبض روح من تسقط ورقته من الشجرة...
قاطعتها:
ـ شجرة، أي شجرة؟! هل تظنينني غبيًّا، هل توجد في السماء أشجار، كيف يمكن لشجرة أن تنبت وتنمو في السماء... الأشجار لا تنبت سوى في الأرض.
ـ كفاك إزعاجًا.. فما أعرفه وسمعته مذ وُلدت أن لله تبارك وتعالى شجرة، يسمونها "شجرة العرش" لا يوجد مخلوق على وجه الأرض إلا وله فيها ورقة مدون بها اسمه وما سيحدث له في حياته بدءًا من لحظة ميلاده حتى مماته، فإذا سقطت ورقته خرجت روحه من جسده.
تساءلت في دهشة:
ـ روح، أي روح تلك، وإذا ما كانت موجودة داخل الشخص كما تقولين كيف تخرج من جسده؟!
ـ ألم أقل لك عليك التوقف عن إزعاجي، يمكنك الاستعانة بعمك "سعيد" فهو شخص متعلم ويمكنه الإجابة بيسر عما تريد.
استقبلني "مسعود" بابتسامة باهتة وعينين ذابلتين.
ـ حمد لله على سلامتك
ـ سلمك الله مما ألم بي
ـ ماذا حدث لك؟
ـ أُصبت البارحة بجلطة قلبية، ومن يدري لعلي لا أنجو منها المرة القادمة.
ـ هل قرأت سيرتي؟
لم أتوقع منه مثل هذا السؤال وهو في مثل هذه الحال، ما دفع بي للومه:
ـ يا صديقي على رأي الكاتب الأمريكي "جون غرين": "جميع الناس تقريبًا مهووسون بترك علامتهم في العالم. بترك إرث. بالاستمرار بعد الموت. جميعنا يريد أن يُذكر. وأنا أُريد ذلك أيضًا.
اقتربت منه كي أتمكن من رؤية عينيه اللتين بقيتا حيتين، وقلت:
ـ ولا أريد أن تُثقل على نفسك بهذا الهوس، لا عليك يا صديقي فسيرتك جيدة وتستحق النشر، وسأعمل على ذلك، فلتسترح.
رد بارتياح:
ـ هكذا يمكنني أن أموت مطمئنًا
ومات "مسعود"، لكن ليس مطمئنًا.