القاهرة 29 ديسمبر 2020 الساعة 11:39 ص
حاورها: صلاح صيام
في حياة كل مبدع ذكريات جميلة أحيانا وحزينة غالبا.. تبقى عالقة فى الذاكرة لتذكرنا بكل ما هو مؤلم وجارح.. الشاعر الثائر بابلو نيرودا يقول عن المذكرات إنها تسجيل لصور فوتوغرافية؛ أما الذكريات فهي تسجيل لوحات تشكيلية من صنع فنان نحت الألم في قلبه الكثير.. نحاول الغوص فى أعماق المبدعين، نستخرج ذكرياتهم المحفورة فى الذاكرة والتى لا تختفى بفعل الزمن أو أشياء أخرى.
الشاعرة الجزائرية صورية حمدوش: أمي ملكة الإنسانية دون منازع
الشاعرة الجزائرية صورية حمدوش تتذكر:
خلال مشواري الأدبي صادفت الكثير، من الآلهة البشرية التي ترى الخلق دونها فنصبت لنفسها عرشا وسنت قوانين للمحافظة على العرش المزعوم، في إحدى المجموعات الأدبية كانت بها فقرة تختار لجنة النقد الأدبي ثلاث قصائد مشاركة حازت على الإعجاب من فريق النقد وتقدم لها دراسة على المباشر بحضور صاحب القصيدة، حازت قصيدتي "لم تعرفوا حبيبي" على الإعجاب وخضعت للنقد من طرف دكتور وناقد من خارج المجموعة حتى يكون النقد محايدا، في البداية أبرز جماليات القصيدة، إلى أن وصل إلى مقطع من قصيدتي النثرية:
لم تعرفوا حبيبي
لأنكم أهل الأرض بشر
وملاك نزل من السماء حبيبي
فكيف لأهل الأرض التشبه بأهل السماء
ألا يتفانى ويتسابق الخلق لتقبيل الحجر الأسود
لأنه حجر نزل من السماء
ولم يبق نقي
بل اسود بذنوب البشر
فكيف بحبيبي
ومازال قلبه بكرا
حتى فضضت بكارة عذريته بحبي .
هنا جن جنونه ولم يعد يقدر السيطرة على أفكاره، خرج من مجال النقد والتحليل الأكاديمي ولبس عباءة رجل الدين الذي يسلط سيف فهمه الظاهر دون الولوج إلى باطن المعنى، وقال كيف تمسين مقدسات الدين ويقصد هنا الحجر الأسود، أو ليس الحجر الأسود مجرد جماد ولبنة في الكعبة، أما الإنسان فهو من كرمه الله على سائر المخلوقات وأمر الملائكة بالسجود له وعلمه الأسماء التي هي المعرفة التي خص بها الله آدم وذريته. تناسيت الأمر ومرت السنون, السنة الماضية نشرت كعادتي في مجموعة أدبية أخرى واختارت الشاعرة المسؤولة عن ركن النقد واحدة من قصائدي النثرية القديمة من ديواني الأول أوراق من النبض قصيدة بعنوان "وجه آخر للعشق".
كانت وتيرة النقد تنتقل بطريقة جمالية وعبارات القصيدة تنفرط كحبيبات المسبحة نحو الغسق، لنوقع بعد منتصفها وعكة صحية لفكر متحجر يدعي الإسلام وهو بريء منه كبراءة الذئب من دم يوسف، وتوقف الناقد عند كلمة الإنجيل الذي أظهر فيها سخطه علي وبدأ يرميني بحمم من التهم والعبارات التي تشكك في إسلامي.. بقي فقط أن يعلن تنصري أو ربما تزندقي كما يحلو لهم رمي كل من يخالفهم الرأي، أما أنا فلست في موقع للنقاش في قضايا الأمة ولست بأحد المدارس الشرعية ولست بصدد درس فقهي حتى ينهال عليّ بذلك السخط، ما دخل الشعر بمعتقدي، متى يفصل الناقد مهنته الأدبية ويرتقي بفكره للنور ويفصل جلباب التعصب والتمذهب عن سلوكياته مع الآخرين؟
أهذا المقطع من قصيدتي النثرية فيه شيء يدعوه للتشيك بديني. .
فانتحر الحس والكبرياء أصابه المس
فهل هناك عشبة للروح تدس
أو أناجيل يقرأها قس
ليتنبأ لي بنبي لقلبي
لعل كتابه ودينه
يخرجني من ظلمات الهواجس الحالكة
لأرض لا تنبث بها أشواك الوجع
ذلك العاشق الذي بحبي مولع ..
إلى آخر القصيدة.. لماذا لم يكمل القراءة ليتبين المعنى أن الأمل الذي أقصده هو ذلك الذي نبأ به الإنجيل قدوم خاتم الرسل والأنبياء عليه الصلاة والسلام الذي أخرج العالم من الظلام إلى النور، هو ما تفاءلت به لنهاية أوجاعي فقط أريد نبوءة وقبسا من النور يدلني على الدرب الذي يوصل إلى أرض السلام الذي غاب عنه؛ لأنه بعيدا عن روحه فهو قابع في جب الطائفية التي شردت الأمة العربية والإسلامية، إلى شيع ومذاهب حتى لا تقوم لها قائمة.. ونحن للأسف الشديد، لم نفقه بعد أنه سم دس في العسل وأن هلاكنا حتمي مؤكد إذا بقينا نتناول هذا السم، ولا نكسر هذا الوعاء الذي مازال الكثير يغرف منه، ويحتم علينا التذوق منه حتى الثمالة.
لا يعجبهم نور العقل الذي كرمنا به الله سبحانه وتعالى يريدوننا عبيدا لفكرهم المتحجر، حتى يبقوا هم آلهة لهم التبجيل والتعظيم نطوف في فلكهم لا نبرحه أبدا، حتى نكب على وجوهنا في نار جهنم والعياذ بالله، لكني أنصحكم أيتها الآلهة أن تبحثوا في علوم القدامى ممن كسروا أصناما من أمثالكم لعلكم تتعظون على سبيل المثال إمام الفلاسفة محيي الدين بن عربي، فربما تقتنعون بأن تلاقح الأفكار لا يفسد للود قضية، بل ينشر السلام الحقيقي النابع من نور الأنوار الأصلي ألا وهو الله عز وجل سبحانه وتعالى.
تزامن اليوم العالمي للشعر 21 مارس مع اليوم العربي لعيد الأم الذي تم التأسيس له من طرف الكاتب مصطفى أمين الذي أرسى دعائم هذا الاحتفاء اعترافا وعرفانا لكل الأمهات اللاتي يتحملن كل التعب والمهانة والذل في كثير من الأحيان من أجل أبنائهن..
وأنا فى مساري الأدبي لا لأحد فضل عليّ بعد الله سبحانه وتعالى سوى والدتي فهي ملكة الإنسانية دون منازع، أمي التي عاشت حياة اليتم ووالدتها حية مند الشهر الثاني لأن مجتمعنا الجزائري كانت تحكمه أعراف وعادات وتقاليد تقهر المرأة ولا تسمح لها بإبداء رأيها، ولقد كانت جدتي أم والدتي قوية الشخصية لاتحب أن تهضم حقوقها ولا أن يداس على كرامتها من أي كان وكانت جدة والدتي امرأة متسلطة، لم يحلُ لها أن تكسر كلمتها كنتها وتخرج عن المألوف فأحست أن كنتها قليلة التأديب لأنها تدافع عن حقوقها، فطردت جدتي، وعلى النقيض منها كان جدي من والدتي رجلا زاهدا حكيما، فرفقا بوالدته وطاعة لها قبل بانفصال جدتي عنه وكانت من دفعت ضريبة هذا الإحسان من جدي لوالدته هي أمي التي عاشت يتيمة، تحملت قهر زوجة الوالد وهي بنت الخمس سنوات عندما أحرقتها زوجة والدها بجمر في حجرها بعد طهي الكسرة، لكن الله لم يشأ أن تعيش ذليلة مقهورة فقد توفيت جدتها وتحرر والدها من عقدة تأنيب الضمير فطلق زوجته اللاإنسانية و تكفل بتربية والدتي التي كانت نعم البنت ونعم الأم ونعم الزوجة، فقد كانت بشهادة الكل تحمل صفات التميز والتفرد، فقد تكفلت بوالدة أبي وأخوانه الصغار بمساعدة والدها، بينما كان والدي يبحث عن لقمة العيش في فرنسا، لنكتشف أنه كان من المجاهدين الذين نقلوا الثورة هناك لأرض العدو، فقد كان أحد المتظاهرين في 11 ديسمبر إلا أنه كتب له الحياة ولم يرمى كغيره فنهر السين بفرنسا.
في هذه الآونة كانت والدتي تدفن أبناءها التي اختطفتهم الكوليرا، وتخبز للمجاهدين، وفوق كل هذا تبرعت بكل ما تملك من حلي فضية ما يعادل الخمسة كيلو، لأن والدها لم يكن له غيرها فكانت بالنسبة له ملكة مكللة على عرش قلبه، وبعد الاستقلال أراد أن ينتقل والدي إلى المدينة، لم تقبل والدتي لأنها لم تشأ أن تترك والدها في تلك المنطقة الريفية المنعزلة لأنه لم يشأ أن يترك أصوله وحياته البدوية إلى أن توفاه الأجل بعد ولادتي بثلاثة أشهر.
رحلت والدتي إلى مكان لم تألفه وحياة جديدة لاتملك فيها سندا، فوالدي بالغربة وهي من تحملت مشاق تربيتنا، وبعد عودته إلى الجزائر واستقراره هنا ما يزال يتكىء عليها، أذكر ذات حادثة أن سيارته تعرضت لعطب وقيل له أن تلك القطعة بها مجموعة من الحجارة الصغيرة مترسبة بها ولا توجد قطاع غيار مما اضطره إلى التنقل بسيارة أجرة إلى عمله، فشغلت أمي فكرها وقامت بتغلية ماء ساخن واستعملت قطعة حديد مما نستعمله للبناء وبدأت بعملية الدعك حتى حررت تلك القطعة من الحجر المترسب فيها، فيما عجز عن ذلك أخصائيون بإصلاح السيارات، كانت لا يعجزها شيئا تلك المرأة الأمية لا تعترف بالمستحيل ، حياتها وقوتها في مجابهة الحياة، بالإضافة إلى روحها المرحة وأيضا قرضها للشعر الملحون؛ هو من جعلني أتحدى هذا المجتمع الذكوري الذي لا يقبل بالمرأة القوية التي تبدع وتجاهد كل الأعراف والتقاليد من أجل اخراج ما ميزها الله به وحباها به من مواهب.
كنت أول ابنة تتعلم في عائلتنا الكبيرة، تلك العائلة الريفية، وأول واحدة تقرض الشعر وتوثقه وتجاهر بكل مشاعرها، وتكسر الرتابة التي توشح العائلة ومجتمعنا الشبه ريفي خاصة وأنني أكتب الرومانسيات كثيرًا فديواني الأول "أوراق من النبض" يحوي بين دفتيه 103 قصائد جلهم رومانسيات، وبديواني الثاني "بين فتق الجراح ورتقها" تعرضت إلى تابوهات مسكوت عنها في مجتمعنا المنغلق على كل شيء، ينادي بالحرية التي وهبنا إياها الإسلام، لكن مجتمعاتنا المريضة نسجت لنا قيودا وأحكمت علينا إقفالها، فليس من السهل عليّ أنا البنت المحافظة أن أجاهر بكل كتاباتي وأجول وأصول ليس ببلدي الجزائر فقط، فقد تجاوزت الحدود وكسرت كل القيود إلى الوطن العربي وشاركت بملتقيات عربية.
وبعدها طبعت طبعة ثانية من ديواني "أوراق من النبض" بمصر، وأيضا ديواني الثالث "دياجر الغياب" التي لم تبق منه سوى بعض النسخ وبإذن الله تعالى تحت الطبع ديوانين آخرين، ليس من السهل أن أكسر هذه القيود، لو لم تكن في عقلي جينات ورثتها عن أمي وجدتي من والدتي التان أعطياني دافعا لمواجهة هذا المجتمع المنغلق على ذاته، وأوله عائلتي ووالدي الذي لم يتقبل في البداية هذه الحرية التي أراد المجتمع سلبي إياها باسم الأعراف والمعتقدات وأسماء أخرى ما أنزل الله بها من سلطان.