القاهرة 15 ديسمبر 2020 الساعة 03:52 م
بقلم: طلعت رضوان
اسم الكتاب: تاريخ العلم
تأليف: جون جريبين
ترجمة: شوقى جلال
دار النشر: عالم المعرفة الكويتية
سنة الإصدار: يونيو، يوليو2012
يُدقق المفكر والمترجم شوقى جلال فى اختياراته للكتب التى يُترجمها.. وهى اختيارات تدل على عمق وعيه بخطورة المأزق الحضارى الذى تعيشه الشعوب العربية، ومدى احتياجها للمعرفة (علمية أو فلسفية) وهو الأمر الذى فعله فى كتبه السابقة، سواء المؤلفة أو المُترجمة.
وأعتقد أنّ كتاب (تاريخ العلم) الذى اختاره الأستاذ شوقى جلال، بمثابة هدية ثمينة لكل صاحب فكر حر، توّاق إلى عصر تنوير يُخرج بلادنا من ظلمات عصور الكهوف. وأهمية هذا الكتاب بجزئيه كما قال المترجم (كنوع من فتح الشهية) أنّ القارئ سيتأكد (بعد قراءة الكتاب) من أنّ ((تاريخية العلم تؤكد عالميته.. (وأنّ) العلم ليس له دين أو عرق أولون)) كما أنّ الكتاب يؤكد على حقيقة تواصل الأجيال ((فحين نتحدث عن نظرية التطور لا يقتصر الحديث عن شخص بعينه: داروين أو لامارك.. وإنما نجد امتدادًا تاريخيًا لباحثين علميين مثل إرزاموس داروين ولامارك ووالاس وتشارلز داروين وآخرين من بعدهم.. وأنّ القضية شغلتْ عقول البشرمنذ القدم ونشأتْ معها مدارس متنوعة)) وتاريخية العلم تؤكد على أنه لا توجد حقيقة مطلقة..((ولايقين مطلق.. وأنّ الحقيقة العلمية على المحك دائمًا كما قال فيلسوف العلم كارل بوبر لإثبات زيفها.. ومن ثم تطويرها.. ولهذا قال أينشتين فى حديث عن نفسه ((الزميل أينشتين يُراجع كل عام ما كتبه فى العام السابق)) وركز الأستاذ شوقى جلال على أنّ تاريخية العلم.. تؤكد على أنه ((لم يكن صراعًا بين الدين فى ذاته.. والعلم كما يحلو للبعض أنْ يقول، بل بين الجمود والتجديد، بين الإبداع وحياة السكون. والتحجر الفكرى)).
اعتمد المؤلف على أسلوب الدوائر(دائرة تأخذنا لأخرى.. وربما رجعتْ بنا للوراء مثل الحكى الروائى الحديث أو تكنيك السينما– فلاش باك) فهو يتحدث عن العلماء اليونانيين فى بداية الجزء الأول، ثم يعود فى نهاية الجزء الثانى فيتحدث عن أنّ الشمس تتكوّن من نفس نوع مادة كوكب الأرض (بالاستشهاد بعلماء الفلك فى العصر الحديث) فإذا به يربط ذلك بالمجهود الذى قام به الفيلسوف الإغريقى أنكساجوراس فى القرن الخامس ق.م (ج2ص355) ناهيك عن ذكر عض التفاصيل عن حياة كل عالم بشكل درامى مؤثر، كل ذلك (بالإضافة إلى الترجمة بأسلوب سلس لا تعقيد فيه) يُشجّع على القراءة بل على التهام الكتاب الذى أحسنتْ سلسلة عالم المعرفة الكويتية لموافقتها على ترجمته.. وقد اخترتُ بعض المحاور التى عرضها المؤلف.. ومنها:
العلاقة بين العلم والتطبيق العملى (التكنولوجيا):
أدى العالم وليم هارفى (مواليد 1578) دورًا مهمًا فى اكتشاف الدورة الدموية. خاصة أنه نقد النظرية الموروثة (منذ أيام جالينوس) التى تـُفيد بأنّ الكبد يصنع الدم الذى تحمله الأوردة إلى كل أنحاء الجسم، بينما يُفيد الفهم الحديث بأنّ القلب البشرى (مثله مثل قلوب الثدييات الأخرى والطيور) هو فى الحقيقة قلبان فى واحد: حيث الدم يأخذ الأكسجين.. ويعود به إلى النصف الأيسر من القلب الذى يضخ بدوره الدم حامل الأكسجين إلى كل أنحاء الجسم.. وعلى الرغم من أنّ فكرة هارفى صادفتْ قبولا عامًا أول الأمر((وذلك بفضل استحداث الميكروسكوب فى خمسينيات القرن السابع عشر، غير أنّ الثغرة الوحيدة فى حجته تـمّ حسمها بفضل اكتشاف الوصلات الدقيقة بين الشرايين والأوردة.. وهذا مثال رائع للرابطة بين التقدم فى العلم.. والتقدم فى التكنولوجيا))
ورغم أنّ انجازات العالم كرستيان هوجنز (مواليد لاهاى عام 1629) كانت فى البصريات.. والنظرية الموجبة للضوء، إلاّ أنّ شهرته ذاعتْ بفضل اختراعه للساعة البندولية..ومنذ ذاك الوقت بدأ البشر يحصلون على آلات لضبط الوقت (ساعات) بدقة بدلا من تقدير الوقت على أساس ضوء الشمس.. ولكن جهوده فى نظرية (الأجهزة التذبذبية) ساعدتْ على اختراع جهاز فى أعماله الفلكية. أما العالم جابرييل فالوبيو فقد قادته بحوثه فى علم التشريح إلى نتائج كثيرة من بينها اكتشاف (قناة فالوب) والتى لا تزال تحمل اسمه.. ووصف الصلة التى تربط الرحم بالمبيضيْن.. وهو الأمر الذى ساعد على علاج الكثير من أمراض النساء.. وتخصّص العالم ميشيل فاراداى (مواليد 1791) فى الكهرومغناطيسية.. وكانت اكتشافاته عن (الأساس للمحرك الكهربائى) ذات أهمية قصوى ((وعلى سرعة التغير التكنولوجى وقتذاك.. ويكفى أنْ نـُدرك أنه بعد 60سنة فقط من اللعبة التى اخترعها.. وبرهن من خلالها فاراداى أنّ قطعة سلك تدور حول مغناطيس مُثبتْ، بدأتْ القاطرات الكهربائية تجرى فى ألمانيا وبريطانيا والولايات المتحدة)) كما قدّم مساهمة جيدة فى مجال الكيمياء، بحيث كان أول من عمل على تسجيل الكلور(عام 1823) واكتشف المُركب المعروف الآن باسم البنزين عام 1825)) وابتكر أيضًا المولد الكهربائى (الدينامو) وواصل تجاربه التى شملتْ الكهرباء والكيمياء (الكيمياء الكهربية) والتى يدخل أغلبها فى تطبيقات صناعية مهمة (ج2ص132).. وأدى العالم جيمس كلارك ماكسويل (مواليد 1831فى أدنبره) دورًا مهمًا فى تطوير نظرية (الإبصار اللونى) التى بدأها العالم (يونج) وكانت جهود ماكسويل فى مجال الإبصار اللونى الأساس لطريقة عمل صور مُلوّنة.. وذلك عن طريق صور أحادية اللون.. ويُمثل إنجازه الأساس للنظام المُستخدم فى التليفزيون المُلوّن.. وشاشات العرض على الكمبيوتر.. وكذلك فى الطابعات التى تستخدم نظام الحبر المُلوّن.. وعن جهود العلماء ديزموند برنال ودوروثى هودجكين ووليم استبورى وآخرين فى مجال الكيمياء الحيوية لتحديد بنية كثير من الجزئيات الحيوية، بما فى ذلك الهيموجلوبين والأنسولين.. وعنهم كتب المؤلف ((ولسنا بحاجة إلى بيان مدى أهمية هذا الإنجاز بالنسبة إلى المعرفة العلمية أو آثاره لتحسين الرعاية الصحية للبشر)) (ج2ص299) وهل ينسى البشر(فى كل كوكبنا) الأهمية العظيمة لأشعة إكس التى اكتشفها العالم الألمانى ويلهلم روتنجن المولود عام 1845؟
العلم وتواصل الأجيال:
طوال صفحات الكتاب تتضح حقيقة أنّ النظريات العلمية وتطبيقاتها، لم يكن لها أنْ تنجح بدون تواصل الأجيال، وعلى سبيل المثال فإنّ العالم يوهانس كيبلر(المولود عام 1571) أصدر فى عام 1604كتابًا عن البصريات.. واشتمل على دراسة تحليلية لكيفية عمل العين عن طريق انكسار أشعة الضوء الداخلى إلى (نن) العين لتمركزها فوق الشبكية. وأنّ النظارات تعمل على تصحيح العيوب، الأمر الذى لم يكن يفهمه أحد فى السابق على الرغم من أنّ النظارات كانت مُستعملة على أساس تجريبى منذ أكثر من 300سنة..وبعد أنْ استخدم جاليليو التلسكوب فى مجال الفلك، طوّر كيبلر أفكاره عن البصريات ليُفسر كيف يعمل التلسكوب.. كذلك كان للعالم جيلبرت أثر مباشر على جاليليو، عن المغناطيسية.. ووصفه بأنه مؤسس المنهج التجريبى فى العلم.. وفى علم الفلك نجد أنه انتقل من كوبرنيكس (مواليد 1473) إلى جاليليو إلى برونو إلى نيوتن إلى التطور الحالى بفضل تلسكوب الفضاء هابل فى نهاية القرن العشرين..
وفى عام 1828توصل عالم الكيمياء الألمانى فردريك فوهلر أنّ اليوريا (أحد مكونات البول) يمكن إنتاجه عن طريق تسخين مادة سيانات الأمونيوم، وبعد عدة قرون من البحوث المتواصلة توصل العلماء إلى إمكانية صناعة جدائل كاملة من الدنا DNA فى المعمل من مواد غير عضوية بسيطة.. واخترع العالم الألمانى هينريش جيسلر(1814- 1879) مضخة تفريغ مُحسّنة واستخدم فيها الزئبق ليضمن غلقــًا مُحكمًا ضد الهواء.. وظلتْ التجارب تتواصل إلى أنْ تـمّـتْ صناعة أنابيب مُفرّغة بحيث لا يزيد الضغط داخلها على بضعة أجزاء من ألف من ضغط الهواء عند مستوى سطح البحر على اليابسة.. وهذه هى التكنولوجيا التى قادتنا إلى اكتشاف الإلكترونات.. وأشعة إكس ومن ثـمّ شجّعتْ على العمل الذى أفضى إلى اكتشاف النشاط الإشعاعى (ج2 ص214).
انتصار العلم على الموروث غير العلمى:
فى عام 1620قال الأسقف (جيمس أوشر) أنّ بداية الخلق.. وفق المذكور فى الكتاب المقدس تعود إلى عام 4004ق.م..وفى القرن 17 ابتكر العالم (راى) نظامًا تصنيفيًا على أساس الفيسيولوجيا والموروفولوجيا والتشريح.. وعلى الرغم من أنه كان عميق التدين، فقد وجد صعوبة فى التوفيق بين رواية الكتاب المقدس عن بداية التكوين.. وبين الدليل الذى يراه بعينيه من دراسته لعالم الأحياء.. كما أنّ أفضل التقديرات المعاصرة لنا عن عمر الأرض هو4,5مليارسنة..
وظهر على مسرح العلم جيمس هاتون (مواليد 1726) الأسكتلندي الذى عمل على فهم العمليات الجيولوجية التى شكلت الكرة الأرضية.. وتوصل إلى أنّ عمر الأرض أطول كثيرًا مما ذهب إليه رجال اللاهوت.. وخلص إلى أنه لم تكن ثمة حاجة إلى أحداث عنف (مثل الطوفان) لتفسير الشكل الراهن لكوكب الأرض.. وبذا فإنّ أبحاثه تـُمثل ضربة قاسية للاعتقاد الجيولوجى الموروث.. ومع أنه فى العقد السابع من عمره.. ويُعانى من مشكلات صحية، لم يهتم بالرد على خصومه فى هجومهم الحاد عليه (لأنه على غير أساس علمى) فعكف على تطوير نظريته.. وقدّمها فى كتابه (نظرية الأرض) وصدر فى مجلديْن.. ومات قبل أنْ ينتهى من المجلد الثالث.. وقد استفاد العلماء اللاحقين من دراساته.. ومن أقواله المهمة ((نحن لا نجد أثرًا لبداية ولا توقعًا لنهاية))
وبعد أنْ نشر تشارلز دارون كتابه (أصل الأنواع) عام 1859 أصبح فهم عملية التطور عن طريق الانتخاب الطبيعى مَعلمًا لحقبة زمنية جديدة.. وقدّم العالم إدوارد تايسون فى كتابه (تشريح قزم بالمقارنة مع قرد.. وقرد شبيه بالإنسان وإنسان) 165صفحة بالصور قدّمتْ برهانـًا لا يقبل الجدل يؤكد أنّ البشر والشمبانزى لهم بنية جسدية واحدة.. وأورد قائمة بأهم القسمات المُميزة لتشريح الشمبانزى مُبيّنـًا أنّ 48منها تتشابه تمامًا مع مثيلاتها أكثر مما تتشابه مع نظائرها لدى القرد العادى.. وما أذهله بشكل خاص التشابه بين مخ الشمبانزى (بغض النظر عن الحجم) ومخ الإنسان..
وفى عام 1707وُلد العالم السويدى كارل لينايوس الذى أكد على أنّ الإنسان ينتمى إلى جنس القردة العليا.. وهذا ما أكدته الدراسات الحديثة عن أوجه التماثل بين الدنا DNA عند البشر والشمبانزى والغوريلا.. وأثبتتْ الدراسات الحديثة أنّ العصر الجليدى (أكثر من 3,6مليون سنة) كان أسلافنا خلال هذه الفترة يعيشون فى وادى الجرف العظيم فى شرق أفريقيا، حيث كان يعيش هناك شكل قديم شبيه بالإنسان الأول أو القردة العليا والذى أدى إلى ظهور ثلاثة أشكال حديثة.. هى الشمبانزى والغوريلا ونحن (البشر) كما زوّدنا سجل تاريخ الأحفوريات بدليل على وجود شبيه بالإنسان يمشى مُنتصب القامة خلال ذاك الوقت (ج2ص208) وأنه لكى نـُدرك مدى دقة تقييم دارون لمكان الإنسان فى الطبيعة، فإنّ علماء الكيمياء الحيوية عكفوا منذ ستينيات القرن20على بحث المادة الجينية للبشر ولأنواع أخرى، فأصبح واضحًا تدريجيًا مدى قرابتنا الوثيقة بالقردة العليا الأفريقية التى اعتبرها دارون نفسه أقرب أقربائنا من الكائنات الحية.
وتأكد منذ أواخر تسعينيات القرن 20 أنّ البشر يُشاركون الشمبانزى.. والغوريلا بنسبة 98,4% من مادتهم الوراثية.. وأنّ خطوط مسار البشر والشمبانزى والغوريلا تشعّـبتْ عن أصل مشترك منذ نحو أربعة ملايين سنة (ج2ص312).
خطر الأيديولوجيا على العلم:
تعرّض العلم وتطبيقاته فى الاتحاد السوفيتى فى عهد ستالين إلى مخاطر جمة، بسبب تدخل الأيديولوجيا السياسية فى عمل العلماء، وعلى سبيل المثال ذكر المؤلف ما تعرّض له العالم تروفيم لايزنكو (1898- 1976) المُتخصص فى علم الوراثة، وأنّ أفكاره عن الوراثة قدّمتْ رؤية صحيحة عن العالم البيولوجى، بينما مبادئ الوراثة عند (مندل) نظر إليها النظام باعتبارها غير متوافقة مع المادية الجدلية، لكن تظل الحقيقة هى أنّ علم الوراثة عند مندل يهيئ لنا وصفــًا جيدًا للكيفية التى تحدث بها عملية الوراثة.. وهوما لم يفعله لايزنكو..وكان لهذا آثاره الكارثية على المستوى التطبيقى بسبب نفوذ لايزنكوعلى التطبيق الزراعى السوفيتى (ج2 ص370) وهكذا اضطر هذا العالِم لمجاراة النظام الحاكم على حساب حقائق العلم وتجاربه.
إنّ كتاب (تاريخ العلم) من الكتب المهمة المترجمة إلى العربية .. وأتمنى أنْ يقرأه جيل الشباب من أجل مستقبل أفضل.