القاهرة 15 ديسمبر 2020 الساعة 03:48 م
بقلم: حاتم عبد الهادي السيد
تبدو دلالة النار فى ديوان الشاعر محمد ناجى ملغزة و رامزة ؛ وفى ديوانه "زهرة النار" نلمح تلك الألغاز لهذه الزهرة النارية المشتعلة، ولكن باستقراء الأسطورة اليابانية تتفكك شيفرة العنوان؛ إذ تحكى الأسطورة: "أن أميرة يابانية قد ذهبت فى ليلة شتائية إلى حديقة الأزهار فشاهدتها ذابلة شاحبة، فأمرت أن تتفتح الأزهار فتفتحت جميعهن لأمرها؛ إلا زهرة وحيدة رفضت الانصياع لأوامرها، فغضبت الأميرة وأمرت بإحراقها، لكن بذور الزهرة قد تناثرت فى الحديقة، وفى وقت الربيع ذهبت الملكة لتجد الحديقة كلها متفتحة وحمراء، فقد أبت الزهرة إلا تنفيذ أوامر الطبيعة فأسماها اليابانيون "زهرة النار"، هكذا تقول الأسطورة فى اليابان؛ وقد وصف ناجي "طفل غزة" بزهرة النار، مما أوجد العلاقة بين الأسطورة اليابانية وطفل غزة؟ ولكننا نسأل: ماذا تفيد دلالة العنوان عند إسقاطها على قصائد الديوان؟! ثم هل تنسحب دلالة العنوان لإعادة إنتاجية الأسطورة، أم أنه يستخدم الدلالة المفارقة ليكشف اللثام عن فعل المقاومة الشعبية لأطفال الحجارة الذين قاوموا المحتل الغاصب؟ وتكمن الاجابة هنا عندما يقول الشاعر:
فيا طفل غزة "يا زهرة النار"
يا من حرقت بنار الغزاة
رمادك نذروه
نحيى به الجثث الهامدة. (الديوان: ص 25).
أقول: إن الشاعر يستخدم الأسطورة ليعقد تناظرية مشهدية بين زهور زهرة النار التى تناثرت فى الحديقة متحدية أوامر الأميرة الظالمة، وبين فعل المقاومة للزهرة التى رفضت الانصياع للظلم وظلت تقاوم والريح تساعدها لبعثرة بذورها لتعاود دورة الإنبات من جديد متحدية فعل الظلم لتنفتح وقت الربيع حسبما تسنن قوانين الطبيعة موعداً للتفتح، وبين ذلك الطفل الذى قاوم المحتل بالحجارة فقهره العدو وأحرق جسده ونثر رماده لتذروه الرياح لا ليتبعثر بل كما قال : رمادك نذوره نحيب به الجثث الهامدة.. وكأنه يعيد دورة الحياة لهؤلاء الشهداء كما عادت دورة الحياة لزهرة النار عبر بذورها التى ذرتها الرياح لتعاود النضج والتفتّح من جديد.
إن الشاعر هنا يجيد توظيف الأسطورة ليبعثها من جديد، ولكن بطعم آخر، وفى مكان جديد ، فى غزة بدلاً من اليابان، وفى تفتّح زهرة الطفولة لتعاود بث الحياة من جديد لتلك الجثث، لتتوالى مرحلة المقاومة من جديد.
ولا يكتفي الشاعر –كما أرى– بإعادة إنتاجية الأسطورة، بل نراه يصنع أسطورة للوهم للجميل كما أطلق على قصيدته "الوهم الجميل" فنراه يغازل محبوبته، ويجمع حروف اسمها فى يده، وينفخ فيها باسم الله فتحضر إليه ملقية السلام، فنراه يهيم فى الملكوت بين الحقيقة والحلم، وبين عالم السحر والخيال، وعالم الرومانسية الذي يسبح من خلاله لتأمل محبوبته، يقول:
سبحان من خلق الكلام
لأن اسمك فى الكلام
فإذا جمعت حروف اسمك فى يدى
ونفخت باسم الله فيك حضرت تلقين لسلام
فأتوه فى الملكوت لا أدرى
أجن صابنى أم أنه مسّ الهيام
فجمال طيفك لا يفارقنى
ويعبث فى دمى
عند القعود وفى القيام. (الديوان ص: 55).
وإلى هذا الحب تبدو الأمور جلية بين عاشق وحبيبته، إلا أن المفارقة فى نهاية القصيدة قد أحالها من حالة الحب، إلى التماهى فى حب الوطن مصر، وفى هذا التفات لطيف، ومفارقة تجعلنا نؤكد مدى شاعريته واتقانه لسبك معانيه ومبانيه يقول :
ولطالما يا مصر طبعك من غمام
سميتك الوهم الجميل
ومدحت اسمك فى البداية والختام. (الديوان ص: 56).
إن المحبوبة هنا هى مصر التى يماهيها فى الحقيقة والخيال، والغمام هنا هو تلك الغلالة الشفافة التى كانت تخفي حروفها إلى أن انجلت لنا وله ، فنراه يصفها بالوهم الجميل، أو بغمامة رقيقة، أو سحابة حب تسير معه أينما ذهب "فى البداية والختام".
وفى قصيدته "حوار" يعاود الشاعر تذكيرنا بالتراث وبالأسطورة الفرعونية " لإيزيس و أوزوريس"، أو "عروس النيل" التى تقذف فى النهر ليعمّ الفيضان الدلتا، أو يذكّرنا بملكة مصر "حتشبسوت" ليدلل أن الأرض لا تصلح بدون "حواء"، إذ هى وآدم مكملان لبعضهما، ولا غنى لأحدهما عن الآخر، يقول:
صفعتنى أمى بسؤال:
هل يخرج للدنيا رجل لولا حواء؟
فأجبت بأن الأرض بلا امرأة يا أمى
أرض جرداء
قلت لها حتشبسوت ابنة آمون
حكمت مصر ولم يغضب ذاك الأمراء
والولد يسمى باسم الله وليس معيباً
أن يذكره الناس أو الشعراء
والأسطورة تحكى أن دموع إيزيس
هى الفيضان
أتى لوفاة الزوج وفاء. (الديوان ص: 48).
إنه يقرر قصة وفاء "إيزيس" التى جمعت رفات "أوزوريس" لتدلّل إلى عشقها الأبدي للرجل، إلا أن الشاعر هنا قد استدعى الأسطورة، ليدلل إلى موضوعات مجتمعية آنية مثل دخول المرأة إلى سلك القضاء، وهو يصوغ لنا أدلة تاريخية تدلل إلى قيمة المرأة عبر التاريخ الإسلامي ليؤكد منطقية الواقع وانحيازه إلى عمل المرأة " كقاضية" بالدليل التاريخي ، يقول عبر حواريته مع أمه وهى تساءله:
قالت: كيف يثور الرجل الآن،
إذا دخلت سيدة فى سلك قضاء
أنسيتم أن نفيسة بنت الأنور
كانت للفقهاء اماماً والعلماء
أنسيتم أن رسول الله يقول اليكم
نصف الدين لديكم ترويه حميراء
أنسيتم أن خديجة بنت خويلد
وقفت خلف رسول الله مع الضرّاء وفى السرّاء
أنسيتم أن نسيبة وقفت من قدّام رسول الله
لتدفع عنه سهاماً خرجت من جهلاء. (الديوان ص: 49: 50).
إنه يسوق الأدلة التاريخية ليؤكد انحيازه للمرأة وخروجها العمل، وتحمّلها كل الأمور، كما أنه يصوغ من التاريخ ومن الأحاديث النبوية ليؤكد ذلك ومنه قول المصطفى (صلى الله عليه وسلم): "خذوا نصف دينكم عن هذه الحميراء" ويقصد عائشة رضى الله عنها.
هذا ويستلهم الشاعر الأسطورة القرآنية فى: "عجل بنى إسرائيل"، ليدلل فى قصيدته: "خوار" إلى جهل من يعبدون العجل، فنراه يصنع عجلاً عبر "أسطورة الخيال" ليعيد إنتاجية الموروث القرآنى" ليدلل إلى وهم الناس البسطاء وانجذابهم بسهولة إلى الخديعة، كما يشير إلى دلالة العلم الذى يمحو الجهل عن طريق مشورة الرجل الصالح المتعلم الذى لم تنطل عليه خديعة أحد المخادعين، بل نراه يكشف عن اللعبة ويأمر فى النهاية بإحراق العجل ومحاسبة من بثّ الوهم فى الناس، أما الجزاء فيحيلنا إلى الموروث التاريخي لقصة "سنمار" الشهيرة، يقول:
أخد الرجل بقايا من أثر رسول/ صمم عجلاً يخرج من فيه خوار/ بعض الناس التفوا حول العجل/ وقالوا: هذا كنز ذهبى اللون/ أهدهده وستخرج منه الأسرار/ وهواء من دبر العجل يمر إلى فيه / فيصدر صوتاً
فتهلل قوم هذا سحر/ فلنخفه عن الأنظار/ بعض الناس اجتمعوا قالوا: / نصنع قرباناً ويقدم/ للعجل.. سترحمنا الأقدار/ خرج الرجل الصالح من جوف الليل/ لينفض هذا الجهل بعلم ووقار/ قال الرجل الصالح: / سدوا فتحة هذا العجل سيصمت / لن يخرج صوتاً/ لا بالليل ولا فى ضوء نهار/ ثم لنأخذ هذا العجل ويرمى/ تأكله النار/ أما من صنع الوهم/ سنعطيه جزاء سنمار.
(الديوان ص: 75: 77).
محمد ناجى ، ديوان زهرة النار ، دار وعد للنشر ، القاهرة ، 2010 م .