القاهرة 08 ديسمبر 2020 الساعة 09:57 ص
بقلم: عاطف محمد عبد المجيد
تتزاحم في رؤوسنا الأفكار، حين نتابع أحداثًا تجري بلا هوادة، ونقرأ كتبًا تقذفها المطابع إلى أرفف المكتبات، وحين نجلس ساعات نتأمل فيها أنفسنا فنبصر ما جهلناه أو نسيناه، وننظر في أحوال غيرنا، وما نسمعه منهم، وما يجري حولنا، ويمس شخوصنا أو مصالحنا، ومصالح ذوينا.
هذا ما يستهل به د. عمار علي حسن كتابه "عالم في العراء..الإعلام الجديد والثقافة والمجتمع"، الصادر حديثًا عن دار غراب للنشر والتوزيع، ويضم بين غلافيْه عددًا من المقالات المنفصلة، لكن يربط بينها انشغالها واهتمامها بالهموم العامة ثقافيًّا وإبداعيًّا وفكريًّا، إلى جانب أنها تدور حول الثقافة بمعناها الجديد المختلف.
في هذا الكتاب يضع الكاتب التراجم بجوار المقاربات النقدية حول موضوعات شغلت الرواية العربية، كالتصوف والريف وحال الأقليات، كما يشاكس كتابات لاقت اهتمام المثقفين والقراء في السنوات الأخيرة، مثلما يرسم ملامح بعض الشخصيات الأدبية.
يتناول الكاتب أيضا مظاهر الاحتفاء الغربي بأبرز متمردات العرب نوال السعداوي، والروائي الذي يعيد أبطال قصصه الموتى إلى الحياة، والباحث الذي يستنطق الحجر، والفروق الجوهرية بين ثقافة السُّترة وثقافة الندرة، وذلك الطفل الصغير البارع في اكتشاف العالم على مهل.
غرفة صغيرة:
في "عالم في العراء" يكتب عمار علي حسن عن ثقافة التسامح، عن أكذوبة حفلات التوقيع، عن الكتابة للمستقبل، عن الرواية والسلطة، عن الفن ثلاثي الأبعاد، عن وجوه نجيب محفوظ الأربعة، عن الرواية والريف الجديد، عن الرواية والتصوف، عن رواية الذات وعن خطر السرقات العلمية.
الكتاب متحدثًا عن كتاب ثرثرة فوق نهر التايمز يرى أن ثورة الاتصالات التي حولت العالم إلى غرفة صغيرة، لم تجعل لأدب الرحلات ما كان له في الأزمنة التي انقضت، كما يؤكد أن الجماعات والتنظيمات الدينية المتطرفة قد خاصمت الفنون بشتى أنواعها، بل وصل الأمر بالمتطرفين إلى أن راحوا يحرمون الفنون مستندين إلى نصوص غير مقطوع بها، وتأويلات فاسدة، مما أدى بهم إلى تدمير المناطق الأثرية وحرق السينما ومنع الغناء والموسيقى. هؤلاء، يقول الكاتب، يتوهمون أن المقدس يخاصم الجمال.
وقارئًا لروايتي صلاة خاصة لصبحي موسى و لعبة الضلال لروبير الفارس، يقول الكاتب إن المسيحية، نصًّا وطقوسًا وأتباعًا، كانت ملهمة للأدباء العرب بغض النظر عن معتقدهم الديني، إذ تسربت بعض آيات الإنجيل إلى الشعر، وجعلت بعض الأعمال القصصية والروائية من المسيحية ومعتنقيها موضوعًا لها.
هنا أيضًا يكتب المؤلف قائلًا إن نجيب محفوظ ظل طويلًا ينصخ الأدباء ألا يكتبوا إلا عما يعرفونه جيدًا، خاصة وأن العمل القصصي أو الروائي لا ينبع من العدم، ولا يدور في فراغ، إنما ينبت في بيئة اجتماعية تنعكس فيه بدرجات متفاوتة وأشكال مختلفة ومضامين متنوعة.
أفكار عميقة:
في "عالم في العراء" يكتب عمار علي حسن عن مسرحية مولانا المقدم لوليد علاء الدين، يكتب عن النهار الآتي لأحمد سراج، يكتب عن ضحايا يوسف إدريس لشعبان يوسف، يكتب عن إبراهيم عبد المجيد، عن الراحل مكاوي سعيد وعن غيرهم.
في حديثه عن ثقافة الإعلام الجديد يقول الكاتب إنه لا يمكن تجاهل العلاقات الظاهرة والخفية بين الإعلام الجديد كواسطة أو وسيلة وبين التصورات الفكرية التي تحكم تصرف البشر في كل القضايا، وتهندس رؤيتهم حيال جميع الظواهر الإنسانية، وتجلي مواقفهم وتوجهاتهم إزاء ما يجري من وقائع وأحداث وحوادث، بصرف النظر عن أهميتها وحيويتها وضرورتها ودرجة الانشغال بها، ومستوى تأثيرها على مصالح الناس.
في حديثه عن الأدب وعلم النفس، يكتب المؤلف عن دكتور شاكر عبد الحميد قائلًا إنه يطرح أفكارًا عميقة ويلهب وجدانًا عامرًا بمشاعر فياضة، واصفًا إياه أنه يكتب نقدًا فهو يكتب نصًّا موازيًا للنص الذي ينقده، وإن تحدث في المسائل العلمية فإنه يحرص على الدقة العلمية وجمال الأسلوب في آن حتى نجد في ما يكتبه الإحاطة والبساطة والعمق والسلاسة والإفادة، ومتحدثًا عن الرواية والسلطة يقول الكاتب إن الجدل حول علاقة الأدب بالسياسة لا يتوقف، خاصة الرواية بوصفها النوع الأدبي الأوسع في مساحة السرد، والأكثر تفاعلًا مع حركة الحياة المتجددة، والأقرب إلى تفاصيل الواقع المعيش، والأعلى تمثيلًا لشريحة معتبرة من المجتمع، والأقدر رصدًا على مراقبة تأثير القرارات العليا على حال الناس.
أيضًا يرى الكاتب أن من عظمة الرواية وبراعتها قدرتها على البقاء نسبيًّا، فما فيها من حكاية وبلاغة ورؤية وأسلوب يجعلها قابلة للقراءة في أزمنة وأمكنة أخرى، بينما تكون السلطة السياسية التي تمكنت عبر أدواتها القمعية من إسكات مختلف الأصوات، قد رحلت وفقدت ما بيدها، تاركة مصيرها بين الأدباء ليصوروها للقادمين على حالها، كاشفين عوراتها التي فعلت الأفاعيل لسترها، كما يؤكد أن الأدباء لا ينتظرون رحيل السلطة حتى يكشفوها، إنما يطوقون عنقها الغليظ بخيوط من حروف ناعمة متحايلة مراوغة، ويضغطون عليها شيئًا فشيئًا، مستغلين غفلة تصنعها الغطرسة، أو غباء ينتجه الزهو المبالغ فيه، ليضيفوا قوة جديدة دافعة للنقطة العمياء التي تهملها السلطة، ومنها سيأتي قدرها من حيث لا تحتسب.
تداخل الأنواع:
في مقاله عن النص ثلاثي الأبعاد يكتب المؤلف قائلًا إن الأنواع الأدبية قد تداخلت، وذابت الحدود والسدود التي أقامها الكتاب والنقاد ودارسو الأدب بينها زمنًا طويلًا، منشغلين بالتصنيف الذي يجذب كل نص إلى نوع قد تعارف عليه الناس، إما رغبة في إيجاد هذا الإنجذاب، أو بتغليب سمات كل صنف على كل نص، وبالتالي تسهل عملية توزيعه في قائمة أو فئة، فنقول هذه رواية، وهذه قصة قصيرة وتلك مسرحية وهذا ديوان شعر، وهكذا.
هنا يكتب عمار علي حسن قائلًا إن وراء كل إنسان رواية، أو حكاية، أو قصة طويلة، يصنعها وهو يعانق أفراح الحياة ويعارك أتراحها، متقلبًا من حال إلى حال، وغارقًا في تفاصيل صغيرة، بعضها يستقر في قيعان الذاكرة، وقد يطمره النسيان، ويختفي ويذوب، وبعضها يأتي على مهل كلما تم استدعاؤه، وأحيانًا يجيء بغتة، بلا مقدمات، ولا سابق إنذار يبزغ كالبرق، أو يهجم كالعاصفة.
هنا أيضًا يتحسر الكاتب إذ أتى علينا زمن يكتب فيه أناس أضعافًا مضاعفة لما يقرأون، ويتيهون بامتناعهم عن القراءة أو ضآلتها على ما عداهم من الكُتاب، متوهمين أن البديهية وحدها، أو الموهبة منفردة، بوسعها أن تكون كافية شافية كي تصنع كاتبًا يدوم، عمار يرى هنا أن القراءة المتواصلة المتأصلة تجعل الكاتب قادرًا على تقييم ما ينتجه من خلال وضعه في مضاهاة مع ما ينتجه غيره، فبضدها تتميز الأشياء.
عالم من المتعة:
هنا أيضًا يقول الكاتب إنه في المجتمعات الحية السليمة الصحية لا يوجد تيار واحد، إنما تيارات متوازية تتقدم إلى الأمام، متفقة في الغاية، ومختلفة في الوسائل، وفي هذه المجتمعات يمثل المختلفون نهيرات صغيرة تصب في النهر الكبير، لكنها تحافظ على استقلالها في السير والجريان، بما يضبط إيقاع التيار ومدى سيره ومساره، ويجعل ماءه يسقي النسل والحرث، ولا يتحول إلى فيضان مدمر، أو طوفان مهلك، أو ينحرف نحو المستنقعات.
وفي معرض حديثه عن الرواية والريف الجديد يقول الكاتب إنه حين يستبد الشوق بالريفيين الذين ابتلعتهم المدينة إلى أيامهم الأولى، أو تفارقهم العناية بالحفر وراء جذورهم البعيدة، فقد يجدوا سلواهم في قراءة نص أدبي تكون القرية بطله أو مكانه الأثير، وكل من هؤلاء المشتاقين يروق له نص يذكره بما رآه في طفولته أو صباه، لا سيما أن ملامح الريف المصري تتغير بلا هوادة ليصير أقرب إلى كيانات حضرية مشوهة، فلا هو بالمدينة مكتملة المبنى والمعنى ولا هو بالريف في سماته وقسماته.
في كتابه "عالم من العراء" وبأسلوب سردي سلس وجميل، أدخل عمار علي حسن قارئه في عالم من المتعة وهو يقرأ مقالاته التي يتناول بعضها الحديث عن كتب في مختلف نواحي الكتابة، وبعضها يتناول الحديث عن قضايا مجتمعية وثقافية وفكرية هامة، وبعضها الآخر يسلط الضوء على عدد من الشخصيات الأدبية ذات المكانة المرموقة.