القاهرة 01 ديسمبر 2020 الساعة 10:47 ص
بقلم : طلعت رضوان
بالرغم من المزايا العديدة للعلوم الطبيعية.. وتطبيقاتها التكنولوجية، فإنّ لها بعض السلبيات.. وبصفة خاصة الأجهزة الحديثة التى نتج عنها (حالة أشبه بالاغتراب) بين أفراد الأسرة الواحدة، مثل مشاهدة التليفزيون.. واستخدام الموبايل (بصفة دائمة، سواء فى الاتصال والرد على المكالمات، أوفى الدخول على النت، لأسباب تختلف من شخص لآخر.. وحول هذا الموضوع تدور أحداث رواية (يتحـدّثون بمفردهم) تأليف الأديب الأرجنتينى (أندريس نيومان) الذى أسهم فى ازدهار أدب أمريكا اللاتينية.
اختار الأديب لتحقيق هدفه عن العزلة داخل الأسرة الواحدة، شكلا يتناسب مع المضمون.. وهو حديث شخصيات الرواية (كل على حدة) أى توظيف المونولوج، أى حديث الشخص مع نفسه. أو الحوار مع ذاته، خاصة أنّ مصدر الكلمة فى اللغة اليونانية (مونو- يعنى أحادى).
شخصيات الرواية: زوج وزجته وابنهما (11 سنة) الأب أخذ ابنه.. وانطلقا بالسيارة فى رحلة ليس لها هدف مـُـحـدّد.. ومن الملفت للانتباه أنّ الأديب اختار أن يكون الابن (ليتو-11 سنة) هو المتحدث الأول.. وقال إنه طلب هذه الرحلة.. وألحّ عليها سنة بعد سنة. وأنّ والدته ووالده كان يردان عليه بنفس الرد: ((فى وقت لاحق)) وأنهما كانا يحبسان نفسيهما فى المطبخ.. ويتكلمان بالهمس، فلا يعرف ما يقولان.. واندهش عندما قال له والده.. وهما فى السيارة: لقد صرتَ رجلا يا ليتو.. وبالرغم من ذلك عندما قال لوالده أنّ الموسيقى التى يسمعها من راديو السيارة (مزعجة) وطلب تغيير مؤشر الراديو فإنّ والده لم يستجب لطلبه، فانكمش الصبى فى نفسه.. وظلّ صامتــًـا يــُـحـدّث نفسه.
كانت الزوجة (إيلينا) هى المتحدثة الثانية.. وبدأتْ مونولوجها بتمنى السعادة لابنها ليتو.. وتوجسها من أنّ زوجها لن يعود إليها.. وأنها تشعر بالذنب وبالندم.. ويتركنا المبدع فى حيرة: لماذا هذا الشعور بالذنب وبالندم؟ ولكن هذه الحيرة لا تدوم حيث استطردتْ الزوجة فى حديثها لنفسها متسائلة: لماذا لم يكن بينهما حوار؟ ولماذا كانا متحفظيْن فى الكلام.. ولماذا رفضتْ الذهاب معه فى الرحلة؟ وفى نفس الوقت هى تشعر بالقلق على صحة زوجها.. ولذلك اتصلتْ بطبيبه لتطمئن على حالته الصحية.. هنا فإنّ المبدع مزج العزلة الأسرية بالمشاعر الإنسانية.. وهذا المزج- فى رأيى- قمة فى البلاغة الإبداعية، للتعبير عن التوتر الدرامى بشأن العلاقة بين الزوجيْن.. وعندما اتصلتْ به على الموبايل فإنه أعطى التليفون لابنه ليرد عليها، برّرتْ هى ذلك بأنه لا يحب الرد أثناء قيادته للسيارة.. وقالت: وبالرغم من ذلك فقد أحببته.. وهى قارئة جيدة للأدب.. وتحرص على كتابة يومياتها.. وكتبتْ أنّ سر العلاقة بينها وزوجها ((مدفون فى البيت.. وأنه لا توجد طريقة للتعايش مع الموت)).
هذه الزوجة المتفانية فى حب زوجها.. والمشفقة عليه بسبب مرضه الخطير الذى ليس له علاج قاطع.. هى فى نفس الوقت قد أسلمتْ نفسها وجسدها لعشيق.. وكلــّـما حاولتْ وقرّرتْ قطع علاقتها به، تجد نفسها مدفوعة للتواصل معه.. هذا العشيق هو طبيب زوجها الذى تصوّر أنّ علاقته بها (نوع من الشفقة عليها) إزاء حالة مرض زوجها الميئوس من علاجه.. ولذلك كانت فى نهاية كل لقاء تشعر بتأنيب الضمير.. وتهتف من أعماقها: يا إلهى يا للخزى.. وتقول لنفسها: أنت عاهرة.. ولعلّ هذا الشعور هوما دفعها للاتصال بزوجها على الموبايل لتطمئن عليه.
كان الصوت الثالث هو الزوج (ماريو) الذى فكر أنْ يتحدث مع ابنه.. ويحكى له: عن بداية تعرفه على والدته.. وأنها لم تكن تعيره أى اهتمام.. ولكننا تزوّجنا بالرغم من كل شيء.. ومضتْ الحياة بحلوها ومرها.. وهى طالبة كانت لها تجاربها.. وكنت أعرف تعدد صداقاتها.. وتنهد وهو يتذكر أنّ والدها عرض عليه مساعدته.. ولكنه رفض.. واعتبر ذلك (صدقة) مرفوضة. وأخذ نفســـًـا عميقــًـا.. وقال: ومع اشتداد المرض كنتُ أخشى مواصلة الطريق.
والمبدع جعل الزوجة (إيلينا) تلجأ إلى تيار(التداعى الحر) عندما خاطبتْ نفسها، لتعقد مقارنة بين جسد عشيقها: الفتى، الخالى من المرض.. والبعيد عن الموت.. وجسد ماريو(زوجها) الذى يبعث على الاشمئزاز.. وبينما ترغب فى لمسه ومداعبته، فإنها لا تجرؤ على فعل ذلك.. وتجد نفسها مجبرة على الابتعاد عنه.. وفى نفس الوقت يتعاظم داخلها الشعور بتأنيب الضمير.. ولكن هذا الشعور لم ينجح فى قمع رغبتها فى لمس جسد العشيق.. ومداعباته الرومانسية التى تأخذها إلى (نشوة أفلاطونية) ولذلك فإنها مع عشيقها (تعشق نفسها) وعندما ترتد إلى الماضى، حيث السنوات الأولى بعد زواجها، فقد كانت معجبة بجسد ماريو (زوجها) وترى فيه التناسق التام. فماذا حدث؟ وما الذى جعلها تــُـقيــّـد نفسها فى علاقة تراها آثمة.. وفى نفس الوقت لا تستطيع التخلص منها.. وهل السبب- كما قالت فى مونولوجها لنفسها- أنّ العشيق كان يتحمل نزواتها.. و(عاداتها السوقية)؟ بينما الزوج كان يطلب منها التخلص من هذه العادات.. ومن بين تناقضات هذه الشخصية، التناقض الذى تسبب فى مأساتها، فإنها بينما رفضتْ الاستجابة لطلب الزوج بالاحتشام، فإنّ عشيقها قال لها أنت ((عجوز متصابية)) فضربته وسبته.. وعندما هدأتْ قالت لنفسها: كم أنا فظيعة.. ولا أعرف ماذا أريد.. ولذلك تتمنى أنْ يرد زوجها على مكالماتها.. وتتذكر أيامهما الجميلة معـًـا.. والسعادة التى صنعاها لأنفسهما.. ويأخذها التداعى الحر إلى مرضه.. وتخشى عليه، لا من الموت (فقط)..وإنما من الآلام التى يشعر بها نتيجة المرض.. وهذه المشاعر الإنسانية تجاه زوجها تجعلها تــُـفكر فى قطع علاقتها مع عشيقها.. ولكنها تشعر بقيود خفية، تجعلها فى كل مرة تلجأ إلى التأجيل.. ولكنها تعترف بأنّ إرادتها (مسلوبة) وإذا كان الشلل (مرض يصيب الجسد) فإنه يصيب- كذلك- العقل ويجعله غير قادر على اتخاذ القرار الذى سيــُـنهى حيرتها.. وتمزقها النفسى.
وفى حديثها مع شقيقتها قالت لها أنها تشعر بأنّ (بطارية الروح) فى حاجة إلى (الشحن) لتستعيد توازنها النفسى.. وأنها تتوق إلى تجربة (حالة حب) نقى ومتجرد من أية شوائب جنسية.. وتساءلتْ وهى تعلم أنه لا جواب على سؤالها: هل يمكن أنْ ننجب الأولاد بدون الجنس؟ أولاد من (دفقة نور).. وتذكرتْ أنّ ماريو قال لها كثيرًا: إنّ ابننا هو النور.. وهوما يــُـقوى دعائم علاقتنا.. وبالرغم من ذلك تتزايد العزلة بين الزوجيْن.. وهى العزلة التى انتقلتْ- كالعدوى- إلى ابنهما الذى أدرك، بالرغم من صغر سنه، حالة التباعد بين والدته ووالده.. ولذلك قالت الزوجة فى مناجاتها لنفسها: نحن ثلاثة فى البيت.. وقريبـًـا سيكون ابننا (يتيمــًـا) وسيبدو مستقبلنا إجهاضــًـا.. وربط المبدع ذلك بحالة نفور الزوجة من عشيقها، حالة مفاجئة.. وغير متوقعه، لدرجة أنها رفضتْ أنْ يلمس يدها.. واعترفتْ بأنه ((كان أستاذًا فى قلة الحياء.. وفى تلك اللحظات يتضاعف الشعور من جديد بتأنيب الضمير.. وتــُـسيطر عليها كلمة واحدة (الخيانة) كلمة لها نصاعة وحدة السكين، تخترق النفس وتشطرها وتــُـفتتها.. وتختلط مشاعرها، فتحن لزوجها.. وتعاود الاتصال به على الموبايل.. وهو لا يرد، فتجد له العذر: هو لا يحب الرد على المكالمات وهو يقود السيارة. ومع اختلاط المشاعر ينتقل تيار الوعى إلى مرحلة الهواجس أثناء النوم، فإذا بها ترى زوجها وعشيقها (فى الحلم) وقد تقابلا فى الطريق.. ودخلا فى عناق حميم وإنسانى. وعندما استيقظتْ ظلــّـتْ تتساءل عن مغزى هذا الحلم؟ هل عقلها الباطن يرسم (صورة للمصالحة) ولكن لم تكن بينهما (خصومة) فى يوم من الأيام، أم أنّ المصالحة المزعومة فى الحلم.. هى رغبة الزوجة فى أنْ تنتهى علاقتها بعشيقها بدون مشاكل؟
وبينما كانت هذه هى هواجس الزوجة.. كان الزوج الذى تركــّـز عقله فى الانتباه للطريق.. وهو يقود السيارة.. وبالرغم من ذلك إذا به يرغب فى الحديث مع ابنه.. ولكنه تراجع لأنّ ما كان سيقوله لا يجب أنْ يسمعه الابن، فقاله لنفسه وفق- كما فى حالة الزوجة- تيار التداعى الحر.. وكأنما المبدع أراد أنْ يخلق حالة من التوازى بين الزوجة والزوج، فيما يتعلــّـق بخواطرهما. لقد سيطرتْ خواطر الشك على عقل الزوج.. وهذا ما أراد أنْ يــُـشرك ابنه فيه.. ولكنه شعركما لو أنّ مسـًـا كهربيـًـا صعق عقله فقال لنفسه: أية حماقة هذه التى كنتُ سأرتكبها؟! فلماذا ساوره الشك؟ أيضـًـا وفق قانون التداعى الحر عاد إلى الماضى.. وعلاقته بطبيبه المعالج.. والذى كان أقرب إلى الصديق أكثر من مجرد طبيب.. وتوثـقتْ العلاقة بينهما.. ونظرًا لزيارة الطبيب له فى منزله.. كان من الطبيعى أنْ تدخل الزوجة فى هذه العلاقة كطرف ثالث.. وكان ماريو(الزوج) فى بداية هذه العلاقة يتغاضى عن أى تصرف يراه، سواء من زوجته أومن الطبيب، يثير الشك أو الريبة، ويأخذ كلمات الترحيب والاطراء بين زوجته والطبيب، على أنها (مجاملات تفرضها الأعراف الاجتماعية).
قطع تيار التداعى الحر صوت رنات الموبايل.. طلب من ابنه أن يرد على المكالمة، بعد أنْ تحدث ليتو مع أمه قال لوالده: ماما يروق لها سماع صوتك. قال لابنه بصدق: أعرف ذلك.. وتناول الموبايل من ابنه.. وتحدث مع زوجته حديثــًا وديــًـا.
عاد ماريو وابنه إلى البيت. شعرتْ إيلينا بالسعادة.. وقالت لنفسها: يتعيــّـن علىّ من الآن العودة إلى الروتين.. وإلى التزاماتى الأسرية. جاء الطبيب/ العشيق ليطمئن على صحة ماريو. نظرتْ إلينا إليهما.. استاءتْ لأنهما كانا يتهامسان.. وظلــّـتْ طوال الزيارة تتساءل: ماذا يقولان لبعضهما؟ اطمأنتْ- نسبيــًـا- عندما لاحظتْ أنّ الاثنيْن يتضاحكان، ويعاملانها بكل احترام.. وبعد فترة وجيزة تغيرتْ مشاعرها نحوهما.. وتملكتها الهواجس من جديد.. ولكن تلك الهواجس اختفت، عندما ساءت حالة ماريو الصحية.. ونصح الأطباء بضرورة حجزه فى المستشفى.. ومكثت إيليا معه. تنظر إليه بشكل دائم.. وتتمنى له الشفاء وألا يطول ألم المرض.. وقالت لنفسها: هو غائب عن الوعى.. وأنا غائبة عن الوجود. والزمن ألقى بظلاله علينا.. وطوال مكوثها فى المستشفى بجوار زوجها يتضاعف شعورها بالذنب.. وتسمع صوت أعماقها: أنا خائنة لزوجى ولابنى..وبينما هى تقول ذلك كان زوجها يقول فى تداعياته الحرة: معرفتى أننى سأموت تجعلنى أحبها أكثر. لقد ساعدنى المرض على اكتشاف الحب.
ذهبتْ إيلينا إلى البيت لرعاية ابنها. جاءها تليفون من شقيق زوجها: الحالة خطيرة. قالت: لن أغفر لنفسى تركه وحيدًا.. جاءت بسرعة.. حاولت مساعدته. تمنت لو وضعتْ فمها فوق فمه.. وصدرها فوق صدره.. وعندما كانت تكتب نعى وفاة زوجها لنشره فى الجريدة، كادت تكتب اسمها بدلا من اسمه.. وقالت لنفسها: ماريو الرائع لا تتركنى. وتساءلت: هل يمكن أنْ أنقل خبرتى فى الحياة إلى ابنى.. وأتكلم معه بدلا من حديثى لنفسى؟ وعندما حاول العشيق الاتصال بها، قرّرتْ قطع علاقتها معه إلى الأبد..كأنما كانت رسالة المبدع: الوفاء لذكرى الزوج بعد وفاته.. كأبسط تكفير عن خيانته.. وخاطبتْ زوجها المتوفى فى مناجاتها لنفسها: لن أنساك. إنّ أسوأ ما فى فقدانك هو غيابك عنى.